المعالم العامة للعملية التعليمية والتربوية المرجوّة: نستعرض فيما يلي بعض جوانب فكر الإمام الخامنئي في تفاصيل العملية التربوية والتعليمية في الحوزة، وذلك ضمن المحاور التالية:
*المحور الأول: البرنامج الدراسي:
إنَّ الأهداف بأقسامها البعيدة والمتوسطة والقريبة هي التي ينبغي أن تتحكّم في وضع البرامج الدراسية، فإن كانت الأهداف البعيدة لمؤسسة تعليمية عريقة مثل الحوزة العلمية عبارة عن فهم الدين (أهدافاً، وأحكاماً، ومفاهيماً) وتنمية وإثراء الوعي الديني، والمساهمة الجادة في مجال بناء الحضارة الإسلامية، فإن الأهداف المتوسط هي تربية المدرسين، والمحقّقين والباحثين في مجال الدراسات الإسلامية، إضافة إلى المبلّغين القادرين على حمل مسؤولية التبليغ والإرشاد الديني. كما أنّ الأهداف القريبة تتمثّل في إنجاز وتطبيق مجموعة من المقرّرات الدراسية والتربوية التي تحمل في طياتها بلورة الأهداف البعيدة والمتوسطة في أمد زماني محدّد وضمن آلية معيّنة.
ثم إنّ "الاجتهاد" الذي يمثّل المستوى العالي والتخصّصي لتجسيد الفهم الديني ليس هو الهدف الوحيد للحوزة العلمية، باعتبار أنّ العمل التعليمي والفكري لا ينحصر ببلوغ هذه المرحلة، وذلك لأسباب عدة بعضها راجع إلى القدرات الشخصية للطلاّب، والبعض الأخر راجع إلى الحاجات الفعلية والميدانية للعالم الديني بمستوى أقل من الاجتهاد، كما أنّ العمل الاجتهادي لا ينحصر بالفقه بل هناك مجالات أخرى في دائرة العلوم الإسلامية تحتاج إلى الاجتهاد والتحقيق والتأصيل، ولم تأخذ حقها من البحث والتحقيق وعليه فـ "نحن بحاجة إلى حوزويين في كافة المستويات وبقدرات وتخصّصات متعدّدة، لدينا قابليات وقدرات مختلفة ومتعدّدة، وعلينا بالدرجة الأولى أن نقوم بدراسة هذه القابليات، وعلى ضوء ذلك تتحدّد الدروس وتجزّأ المراحل والدورات... إن الحوزة العلمية يراد لها أن تكون كالمعمل توفّر للمجتمع متطلّباته، ومن خلال العمل الدؤوب والسعي المتواصل، تعمل وتزوّد المجتمع بمنتوجاتها التي هي عبارة عن مجموعات من المحقّقين والمبلّغين والمدرّسين والمؤلّفين وغيرهم من المتخصّصين".
يقول الإمام الخامنيئي: "الأمر الأساس المطروح دائماً بالنسبة لنا، هو: ما هي الوجهة العلمية التي ينبغي للطلاّب والعلماء أن يتخذوها في تحصيلهم العلمي؟ وهذا الأمر مطروح منذ قديم الأيام ولسنا نحن أول من طرحه في ظلّ الجمهورية الإسلامية. بل هو تساؤل قديم، هل يكتفي الطالب بدراسة الفقه والأصول، أم لابد من وجود شيء إلى جانبها؟".
*المحور الثاني: المجالات الدراسيّة في العلوم الإسلامية:
تشمل اليوم "الدراسات الإسلامية" مجالاً واسعاً من المعارف والعلوم على المستوى الكمّي والنوعي، من الدراسات التي تتناول النصوص الدينية الأساسية أي الكتاب والسنة والمعارف المرتبطة بهما، أي علوم القرآن والتفسير وغيرها وعلوم الحديث والدراسات الكلامية والفلسفية، والفقه والأصول وغيرها. ومع أن الإمام الخامنئي وفي مناسبات عدة قد فصّل الكلام في وجه الحاجة إليها، وبيان أهمية هذه العلوم في المجتمعات الإسلامية، وارتباطها ببقية العلوم، فإننا سنقتصر - في هذه المقالة- على نظرة الإمام الخامنئي في: العلوم القرآنية، علم الحديث، علم الفقه.
وفيما يلي نعرض لهذه العلوم والحث على الاهتمام بها تحقيقاً وبحثاً واستثماراً في الحوزة العلمية:
1 ـ الدراسات القرآنية: إنّ الحوزة العلمية، ونتيجة ظروف وملابسات ولسيادة توجّه خاص ابتعدت تاريخياً عن الاهتمام الكبير بالقرآن والدراسات القرآنية، يقول الإمام الخامنئي: "إنّ الانزواء عن القرآن الذي حصل في الحوزات العلمية وعدم استئناسنا به أدّى إلى إيجاد مشكلات كثيرة في الحاضر والمستقبل وكذلك فإنّ البعد عن القرآن يؤدّي إلى وقوعنا في قصر النظر".
وأكثر ما يدعو إلى الاستغراب أن طالب العلوم الدينية من الممكن أن يصبح عالماً ومجتهداً في مجال الإسلام والفكر والفقه بمعزل عن القرآن الكريم "كتاب الوحي، يقول الإمام الخامنئي ": "مما يؤسف له أن بإمكاننا بدأ الدراسة ومواصلتها إلى حين استلام إجازة الاجتهاد من دون أن نراجع القرآن ولو مرَّة واحدة.. لماذا هكذا؟ لأن دروسنا لا تعتمد على القرآن، وقد ترد في الفقه بعض الآيات القرآنية ولكن لا تدرس، ولا تبحث بشكل مستفيض كما يجري في الروايات".
إنّ الأمر لم يقتصر في الحوزة العلمية على هذا الحد، بل تجاوز ذلك، وأصبح الاهتمام بمجالات الدراسة القرآنية مدعاة للاستهزاء – في فترة زمنية من تاريخ الحوزة العلمية - عند بعض دعاة العلم، القائلين بأن العلم كل العلم ينحصر بدائرة الأبحاث الأصولية والفقهية، وهذا ما دعا إلى توجيه سهام التجريح إلى المنشغلين بالقرآن والعلوم القرآنية، واصفين هذه العلوم بالمسائل الجانبية التي يمكن تحصليها لكل قادر على ضبط بعض مصطلحات الأصولية وشذرات من هنا وهناك: "إذا ما أراد شخص كسب أي مقام علمي في الحوزة العلمية كان عليه أن لا يفسّر القرآن حتى لا يتّهم بالجهل... حيث كان ينظر على العالم المفسّر الذي يستفيد الناس من تفسيره أنّه جاهل ولا وزن له علمياً لذا يضطر إلى ترك درسه... ألا تعتبرون ذلك كارثة؟!".
من هنا، فإنَّ الحلَّ يكمن في إعادة الأمور إلى مجاريها الصحيحة، وبناء العلوم الإسلامية على محورية "الكتاب والسنّة" لا أن تتحوّل المعارف المؤسّسة على هامش الكتاب والسنة إلى معارف محورية، وتتحوّل دراسة الكتاب والسنة إلى دراسات فرعية، هذا نقضٌ للغرض، إنّ الأصول، والفقاهة، والمنطق، وعلوم العربية، وغيرها نحتاج إليها من أجل فهم الكتاب والسنّة لا العكس: "فيجب أن لا نغفل عن القرآن، وعن علوم القرآن، وعن فهم القرآن، والأنس به، ويجب أن يكون القرآن جزءاً من دروسنا في الحوزات العلمية، وعلى طلابنا حفظ القرآن أو جزء منه على الأقل".
2 ـ علوم الحديث : تدور العلوم الإسلامية حول محور "الكتاب والسنّة"، حيث يعتبران المنطق والأساس لهذه العلوم، والأهم من ذلك أنّ باقي العلوم الإسلامية نشأت من أجل تفعيل البحث حول الكتاب والسنّة، فعلمي الأصول والفقه مثلاً، تم تأسيسهما بهدف قراءة أفضل (أقل خطأً وأكثر صواباً) للكتاب والسنة، وما يحصل في الحوزات العلمية، هو أنّ العلوم المقدمية تأخذ حيّزاً وموقعاً أهم من العلوم الأساسية، ويتم التعاطي معها كعلوم مستقلة ومحورية، فإن النظرة الشمولية تقتضي أن يتمّ التركيز على المعارف والعلوم التي تخدم فهم الكتاب والسنّة بشكل أفضل. ومن هذه العلوم التي ينبغي أن يتمّ تفعيلها بشكل موضوعي ودقيق، هي العلوم المرتبطة بدراسة الحديث بشكل مباشر، أو ما أصطلح عليها بـ "علوم الحديث"، وتشتمل بدورها على علمي الرجال والدراية وفقه الحديث.
وينبغي تجسير العلاقة الحميمة والعضوية بين علمي الدراية والرجال، وفقه الحديث. كما أنّه ينبغي أن تسبق ذلك كلّه دراسة موضوعية ومترابطة للحديث كبناء متكامل يجسّد الإسلام بوصفه كلاً واحداً، ومنظومةً متكاملةً ومترابطةً.
وما ينبغي وعيه من قبل الدارسين للحديث، هو أنّ النظريات المعتمدة في الجرح والتعديل، وتقييم الروايات ليست نظريات نهائية ناجزة، بل هي قابلة للتعديل والتصحيح. ولا سيّما على ضوء العديد من المعارف والدراسات المطروحة اليوم على صعيد معالجة النصوص، والتي تساعد الباحث في التأكّد من صحة أو عدم صحة الصدور: "إن الحديث لم يكن مطروحاً في مناهجنا، إلا بعد الدخول في مباحث الفقه الاستدلالي حيث يتمّ طرح مجموعة من الأحاديث الفقهيه". من دون معالجة الكثير من الأمور المتصلة بالحديث والتي تلقي بظلالها على مجمل الأبحاث الفقهية وغيرها.
3 ـ محورية الفقه وأصوله في الدراسة الحوزوية:
يمثّل "علم الفقه" المحور الأساس للدراسات الحوزوية، وتمَّ التركيز عليه تاريخياً من جهة الكم والنوع والعمق، بحيث أصبح الدرس الحوزوي يساوي الدرس الفقهي، وتحوّل الفقه إلى الدرس الأساس في الحوزة: "إنّ الفقه الذي هو بمعنى استنباط الأحكام الفرعية من الأدلة التفصيلية و أساس الحوزات العلمية". ونتيجة ذلك تحولت "الفقاهة" أي "طريقة ردّ الفروع إلى الأصول والاستنباط من الأصول ومن الأسس التي هي الكتاب والسنة والإجماع والعقل" إلى الهدف الأسمى للحوزوي.
ولقد كان علماؤنا الأعلام يؤمنون بأنّ القدرة على استنباط الأحكام الشرعية الفرعية تعطي القدرة على ضبط باقي العلوم الإسلامية أيضاً؛ وذلك نظراً إلى وجود "علم أصول الفقه" في جنب الفقه والذي يعتبر "عصب العلوم الإسلامية" أو "منطق الفقه" كما هو الحال بالنسبة إلى باقي العلوم الإسلامية. فالأصول إذن "منهج البحث" عند الفقيه أو هو منطق مسائله أو بمعنى أوسع "هو قانون عاصم لذهن الفقيه من الخطأ في الاستدلال على الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية". ولهذا ينبغي مراعاة عدّة أمور في هذا العلم هي:
أ- الرؤية الشمولية لدراسة الفقه: تشكّل المكتبة الفقهية تراثاً غنياً وثميناً بالنسبة إلى المسلمين كافة والحوزات العلمية خاصة، فالجهود التي بذلها علماء المسلمين ولاسيَّما الإمامية في مجال الأحكام وقواعدها ومبادئها وطرق استخراجها واستنباطها من المصادر الأساسية والفرعية لا تقدّر بثمن، وكانت المكتبة الفقهية يغلب عليها طابع التحشية والتعليقة وإضافة الهوامش واستدراك موارد وما إلى ذلك، وينقصها التعمّق المباشر في المسائل الفقهية، وهذه حاجة ماسّة للباحثين في هذه المجالات وينبغي على هذا الأساس "... توسيع قاعدة التعمّق بالفقه، والتعمّق لا يعني تناول الحواشي والهوامش والزوايا والتعليقات الزائدة، بل هو معالجة المسائل وضعها موضع التفحّص والتحقيق باستعمال الطرق والأساليب الجديدة حتى يتحقق التعمّق".
ب- وجوب التعمّق في البحث الفقهي:إنّ التركيز على عنصري الزمان والمكان من القضايا ذات الأهمية في هذا المجال، بينما نلاحظ أن الواقع الموجود مختلف تماماً، فإنَّ المسائل التي تطرح اليوم والمشاكل التي يواجهها الإنسان ويحتاج إلى معرفة الحكم والرأي الشرعيين فيها تختلف نسبياً عن المشاكل والمسائل التي كانت مطروحة في الأزمنة السابقة، كما أن تجارب وخبرات واجتهادات السابقين من العلماء والمجتهدين ينبغي أن تسخّر لأجل تعميق الفقه وتطويره: "فإن الفقه في زماننا يجب أن يكون أعمق من الفقه في زمن الشيخ [الأنصاري] وتلامذته الذين كانوا مشايخ المرحلة السابقة، لا يجوز أن نحصر اهتمامنا في المسائل السطحية، بل علينا أن نعطي الفقه عمقاً، وهذا من أهم أبعاد تطوّر الفقه". ج- المحافظة على التوسًع الموضوعي للأبحاث الفقهية: لقد توسّع الفقه في بعض الأبعاد وأهملت الأبعاد الأخرى، فمثلاً لم يأخذ الشأن العام والفقه السياسي والاجتماعي حقه من البحث والتعميق والاجتهاد كما أخذت سائر أبواب الفقه مثل العبادات، والمعاملات، والأحوال الشخصية وغيرها؛ ولذلك يجد الباحث في فقه الشأن العام والمعاملات، والأحوال الشخصية وغيرها من فقه الشأن العام صعوبةً كبيرة؛ لأنّ موضوعاتها مبعثرة في ثنايا علوم مختلفة كالكلام والتاريخ، والسيرة، والفقه وأصوله، والحديث وشروحه، والتفسير وما إلى ذلك من علوم، فضلاً عن أن الباحث لا يجد ضالته في أبواب معيّنة من تلك العلوم، بل يجدها مبعثرة في ثنايا ذلك العلم كله، ففي الفقه مثلاً، نجد البحث حول الحكم والإدارة في أبواب عدةّ مثل: الوصية، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقضاء، والبيع، والحسبة وغيرها، وعليه، "يجب أن لا نكتفي ببعض أبواب الفقه التي لها أهمية فردية وليس لها أهمية اجتماعية. مثلاً تلاحظون وفرة في البحث عن الطهارة، لا تلاحظ في باب الجهاد، أو الفقه السياسي والمسائل الاقتصادية في الإسلام. ولو أجريتم مقارنة، لوجدتم أن ما كتب في باب الطهارة أكثر بكثير مما كتب في المسائل الأخرى، وحتّى أن كتب بعض العلماء لا بحث عن الجهاد فيها".
د- تحديد أهداف الفقه ومهمته: إنَّ الاتجاه العام في الدراسة الفقهية وتحديد الأهداف مسألة في غاية الأهمية، فإذا بنينا على أن مهمّة الفقه هي بيان المسائل الفردية المبتلى بها، فإننا نكون بذلك قد رسمنا الاتجاه الذي ينبغي أن نسلكه في العلم الاجتهادي والفقهي. وأما لو اعتبرنا أنّ الفقه لا تنحصر مهمته بذلك، فسوف نسير في اتجاه مختلف عما سبق، لأنّنا نعتبر أنَّ الفقه يتولّى بيان الأحكام الاجتماعيّة، ونظم الحياة إضافة إلى القضايا الفردية. فالسؤال الأساسي هو ما هي مهمّة الفقه؟ ولهذا
"يجب أن نستنبط نظامنا الاقتصادي من الإسلام، يجب أن نستنبط مسائلنا العسكرية من الإسلام، وكذلك الأحكام المتعلِّقة بسياستنا الخارجية والروابط الأخلاقية...". هذا التوجه يفرض علينا " إعادة النظر فقهياً في كثير من الأحكام الشرعية الفردية، ولا يجوز التساهل في ذلك؛ فإنّنا نطرح الدين بوصفه نظاماً للدولة، وإطاراً للحكومة، وطوال العصور الماضية لم ننظر إلى الفقه من هذا المنظار".
و"هل هناك فقيه يجرؤ على القول: "إنّه قد استنبط هذه المسائل [مسائل الحكم والدولة]؟ وأنّها كلها جاهزة للتطبيق والتنفيذ؟ طبعاً، الإجابة سلبية، ولم يدّع أحد ذلك لا في الحاضر، ولا في الماضي، بل لا يجرؤ أحد على دعوى كهذه". إذاً، فهذه الدعوة مبنيّة على نظرة جديدة، ومعطيات مختلفة، وظروف مؤاتية: "وبناءً على ذلك يجب علينا أن نستخرج هذه المسائل من الفقه، وهذا يعني فكراً جديداً أو مستحدثاً".
هـ- كيف يمكن لنا أن نقوم بتأسيس فقه يأخذ بعين الاعتبار تلك المجالات والاهتمامات؟
إنّ الخطوة الأساسية في هذا المضمار هو الانطلاق من أن "الإسلام كل واحد" بمعنى أن استنباط حكم فرعيّ من أحكام الإسلام، يتّصل اتصالاً عضوياً بسائر المجالات الإسلامية كالعقيدة، والأخلاق، ونظم الشريعة في مجال السياسة والتربية والاقتصاد، والمجتمع، والأسرة وغيرها.
ثم بعد ذلك، فإنّنا نملك "تراثاً غنياً" في مجال الفقه وأصوله، وهذا التراث يحتاج إلى البلورة والتهذيب والتكميل. ونعني بـ "تكميل الفقه" ملأ الفراغات التشريعية في مجالات مختلفة؛ حيث إنّ الحاجات والموضوعات وظروف البيئة والواقع المرتبطة بهما في تغيّر دائم وهذا ما يتطلّب اجتهاداً يتلاءم مع هذه العوامل كلِّها، "فهناك بعض الموضوعات التي بيّنت أحكامها في السابق، قد طرأ عليها من التغيير والتحوّل ما جعل من المتعذّر تطبيق نفس الأحكام السابقة عليها بسهولة في الوقت الحاضر، ففي مثل هذه الموارد، لابد لفقهاء العصر وبالاعتماد على دقّة النظر والإحاطة العلمية، والالتزام بأسلوب الفقاهة من جهة، والحرية في التفكير والشجاعة العلمية من جهة أخرى، من اكتشاف مفاهيم فقهية جديدة، وتقديم أحكام جديدة مستندة إلى الكتاب والسنّة، وهذا هو معنى تكميل الفقه".
و- بلورة الفقه واستثماره: وأما المقصود ببلورة و"استثمار" الفقه، فهو أن نستفيد من الفقه قواعداً وأصولاً ومبادئً لاستنباط الأحكام الشرعية في مجالات عديدة، لم تكن من موضوعات الفقه التقليدي في الحوزات العلمية أي الأمور المتّصلة بالشأن العام، حيث إنّه: "لابد من الإجابة عن الأسئلة والإشكاليات المطروحة حول مظاهر الحياة المتجدّدة يوماً بعد يوم، وتوضيح أحكامها بشكل مقنع ومدلِّل، كما أنه يمكن الاستفادة من الفقه المعاصر ـ بما يتمتع به من الدقة والقوة في الاستدلال ـ في تكميل علم القانون وتطويره وفتح منافذ جديدة أمام باحثي مراكز القانون في العالم".
وفي الختام من المناسب الإشارة إلى جنبة التخصّص في العلوم الإسلامية كحاجة ماسة في هذا العصر، فإنّ ما يسود في الحوزات العلمية هو التوجّه الموسوعي في حقول العلوم الإسلامية. بمعنى أنّ طالب العلوم الدينية يسعى لكسب أكبر قدر ممكن من المعلومات في مجالات شتى وهذا ما يؤدّي في الغالب إلى ما يقال من "أنه يعلم كل شيء ولا يعلم أي شيء" ويكمن الحل في بناء التخصّصات المختلفة في الحوزة في مجالات العلوم الإسلامية بهدف إشباع المطالب العلمية وإثراء المضامين والاهتمام بالمناهج والخصائص التفصيلية للعلوم، وعليه: "يجب على الحوزة العلمية أن تتجه نحو التخصّص، ولحسن الحظ هناك الآن خطوات أولية في هذا المجال، ولكن يجب بذل جهود أكثر... يجب أن يحمل التخصّص محمل الجدية أكثر لما في العلوم الإسلامية من سعة وشمولية، يجب التخصّص حتى في الفقاهة، والمعاملات والعبادات، وإن كانت هذه الموضوعات مرتبطة مع بعضها. ولكن في نفس الوقت لكل منها باب مستقل ويمكن أن يكون لكل باب منها متخصّص".
ويجب علينا أن نخطّط لفكر وحركة ونهضة جديدة في منهجنا العلمي وفي مباحثنا الإسلامية، في ضوء هذه الظاهرة العالمية، فحينما نشاهد العلم الذي انطلقت منه هذه الحركة السياسية على أساسه؛ أي العلوم الإسلامية والمعارف والكلام والفقه، الذي يحظى اليوم بكل هذا الاهتمام من قبل الأوساط العلمية والسياسية والعالمية، يجب علينا بذلك المزيد من الاهتمام والدقّة وتقييم علمنا من جديد بصفتنا علماء دين وأصحاب رأي في القضايا الدينية".
انتهت
المصدر: مرکز الأبحات و الدراسات التربویة*