printlogo


printlogo


مقالة/ الجزء الثالث والأخیر
نظرة في وظائف الحوزة العلميّة ومسؤولياتها ‏وفق رؤية الإمام الخامنئي ‏
المعالم العامة للعملية التعليمية والتربوية المرجوّة: نستعرض فيما يلي بعض جوانب فكر الإمام الخامنئي ‏في تفاصيل العملية التربوية والتعليمية في الحوزة، وذلك ضمن المحاور التالية: ‏‏

 *المحور الأول: البرنامج الدراسي: ‏
إنَّ الأهداف بأقسامها البعيدة والمتوسطة والقريبة هي التي ينبغي أن تتحكّم في وضع البرامج ‏الدراسية، فإن كانت الأهداف البعيدة لمؤسسة تعليمية عريقة مثل الحوزة العلمية عبارة عن فهم الدين (أهدافاً، ‏وأحكاماً، ومفاهيماً) وتنمية وإثراء الوعي الديني، والمساهمة الجادة في مجال بناء الحضارة الإسلامية، فإن ‏الأهداف المتوسط هي تربية المدرسين، والمحقّقين والباحثين في مجال الدراسات الإسلامية، إضافة إلى ‏المبلّغين القادرين على حمل مسؤولية التبليغ والإرشاد الديني. كما أنّ الأهداف القريبة تتمثّل في إنجاز ‏وتطبيق مجموعة من المقرّرات الدراسية والتربوية التي تحمل في طياتها بلورة الأهداف البعيدة والمتوسطة ‏في أمد زماني محدّد وضمن آلية معيّنة. ‏
ثم إنّ "الاجتهاد" الذي يمثّل المستوى العالي والتخصّصي لتجسيد الفهم الديني ليس هو الهدف ‏الوحيد للحوزة العلمية، باعتبار أنّ العمل التعليمي والفكري لا ينحصر ببلوغ هذه المرحلة، وذلك لأسباب ‏عدة بعضها راجع إلى القدرات الشخصية للطلاّب، والبعض الأخر راجع إلى الحاجات الفعلية والميدانية ‏للعالم الديني بمستوى أقل من الاجتهاد، كما أنّ العمل الاجتهادي لا ينحصر بالفقه بل هناك مجالات أخرى ‏في دائرة العلوم الإسلامية تحتاج إلى الاجتهاد والتحقيق والتأصيل، ولم تأخذ حقها من البحث والتحقيق ‏وعليه فـ "نحن بحاجة إلى حوزويين في كافة المستويات وبقدرات وتخصّصات متعدّدة، لدينا قابليات ‏وقدرات مختلفة ومتعدّدة، وعلينا بالدرجة الأولى أن نقوم بدراسة هذه القابليات، وعلى ضوء ذلك تتحدّد ‏الدروس وتجزّأ المراحل والدورات... إن الحوزة العلمية يراد لها أن تكون كالمعمل توفّر للمجتمع متطلّباته، ‏ومن خلال العمل الدؤوب والسعي المتواصل، تعمل وتزوّد المجتمع بمنتوجاتها التي هي عبارة عن ‏مجموعات من المحقّقين والمبلّغين والمدرّسين والمؤلّفين وغيرهم من المتخصّصين"‏‏. ‏
يقول الإمام الخامنيئي: "الأمر الأساس المطروح دائماً بالنسبة لنا، هو: ما هي الوجهة العلمية التي ينبغي ‏للطلاّب والعلماء أن يتخذوها في تحصيلهم العلمي؟ وهذا الأمر مطروح منذ قديم الأيام ولسنا نحن أول من ‏طرحه في ظلّ الجمهورية الإسلامية. بل هو تساؤل قديم، هل يكتفي الطالب بدراسة الفقه والأصول، أم لابد ‏من وجود شيء إلى جانبها؟"‏‏. ‏
*المحور الثاني: المجالات الدراسيّة في العلوم الإسلامية:‏
تشمل اليوم "الدراسات الإسلامية" مجالاً واسعاً من المعارف والعلوم على المستوى الكمّي والنوعي، ‏من الدراسات التي تتناول النصوص الدينية الأساسية أي الكتاب والسنة والمعارف المرتبطة بهما، أي علوم ‏القرآن والتفسير وغيرها وعلوم الحديث والدراسات الكلامية والفلسفية، والفقه والأصول وغيرها. ومع أن ‏الإمام الخامنئي وفي مناسبات عدة قد فصّل الكلام في وجه الحاجة إليها، وبيان أهمية هذه العلوم في ‏المجتمعات الإسلامية، وارتباطها ببقية العلوم، فإننا سنقتصر - في هذه المقالة- على نظرة الإمام الخامنئي في: ‏العلوم القرآنية، علم الحديث، علم الفقه.‏
وفيما يلي نعرض لهذه العلوم والحث على الاهتمام بها تحقيقاً وبحثاً واستثماراً في الحوزة العلمية: ‏
‏1 ـ الدراسات القرآنية: إنّ الحوزة العلمية، ونتيجة ظروف وملابسات ولسيادة توجّه خاص ابتعدت ‏تاريخياً عن الاهتمام الكبير بالقرآن والدراسات القرآنية، يقول الإمام الخامنئي: "إنّ الانزواء عن القرآن الذي ‏حصل في الحوزات العلمية وعدم استئناسنا به أدّى إلى إيجاد مشكلات كثيرة في الحاضر والمستقبل ‏وكذلك فإنّ البعد عن القرآن يؤدّي إلى وقوعنا في قصر النظر"‏‏. ‏
وأكثر ما يدعو إلى الاستغراب أن طالب العلوم الدينية من الممكن أن يصبح عالماً ومجتهداً في مجال ‏الإسلام والفكر والفقه بمعزل عن القرآن الكريم "كتاب الوحي، يقول الإمام الخامنئي ": "مما يؤسف له أن ‏بإمكاننا بدأ الدراسة ومواصلتها إلى حين استلام إجازة الاجتهاد من دون أن نراجع القرآن ولو مرَّة واحدة.. ‏لماذا هكذا؟ لأن دروسنا لا تعتمد على القرآن، وقد ترد في الفقه بعض الآيات القرآنية ولكن لا تدرس، ولا ‏تبحث بشكل مستفيض كما يجري في الروايات"‏‏. ‏
إنّ الأمر لم يقتصر في الحوزة العلمية على هذا الحد، بل تجاوز ذلك، وأصبح الاهتمام بمجالات ‏الدراسة القرآنية مدعاة للاستهزاء – في فترة زمنية من تاريخ الحوزة العلمية - عند بعض دعاة العلم، القائلين ‏بأن العلم كل العلم ينحصر بدائرة الأبحاث الأصولية والفقهية، وهذا ما دعا إلى توجيه سهام التجريح إلى ‏المنشغلين بالقرآن والعلوم القرآنية، واصفين هذه العلوم بالمسائل الجانبية التي يمكن تحصليها لكل قادر ‏على ضبط بعض مصطلحات الأصولية وشذرات من هنا وهناك: "إذا ما أراد شخص كسب أي مقام علمي ‏في الحوزة العلمية كان عليه أن لا يفسّر القرآن حتى لا يتّهم بالجهل... حيث كان ينظر على العالم المفسّر ‏الذي يستفيد الناس من تفسيره أنّه جاهل ولا وزن له علمياً لذا يضطر إلى ترك درسه... ألا تعتبرون ذلك ‏كارثة؟!"‏‏. ‏
من هنا، فإنَّ الحلَّ يكمن في إعادة الأمور إلى مجاريها الصحيحة، وبناء العلوم الإسلامية على محورية ‏‏"الكتاب والسنّة" لا أن تتحوّل المعارف المؤسّسة على هامش الكتاب والسنة إلى معارف محورية، وتتحوّل ‏دراسة الكتاب والسنة إلى دراسات فرعية، هذا نقضٌ للغرض، إنّ الأصول، والفقاهة، والمنطق، وعلوم العربية، ‏وغيرها نحتاج إليها من أجل فهم الكتاب والسنّة لا العكس: "فيجب أن لا نغفل عن القرآن، وعن علوم ‏القرآن، وعن فهم القرآن، والأنس به، ويجب أن يكون القرآن جزءاً من دروسنا في الحوزات العلمية، وعلى ‏طلابنا حفظ القرآن أو جزء منه على الأقل"‏‏. ‏
‏2 ـ علوم الحديث : تدور العلوم الإسلامية حول محور "الكتاب والسنّة"، حيث يعتبران المنطق ‏والأساس لهذه العلوم، والأهم من ذلك أنّ باقي العلوم الإسلامية نشأت من أجل تفعيل البحث حول الكتاب ‏والسنّة، فعلمي الأصول والفقه مثلاً، تم تأسيسهما بهدف قراءة أفضل (أقل خطأً وأكثر صواباً) للكتاب ‏والسنة، وما يحصل في الحوزات العلمية، هو أنّ العلوم المقدمية تأخذ حيّزاً وموقعاً أهم من العلوم الأساسية، ‏ويتم التعاطي معها كعلوم مستقلة ومحورية، فإن النظرة الشمولية تقتضي أن يتمّ التركيز على المعارف والعلوم ‏التي تخدم فهم الكتاب والسنّة بشكل أفضل. ومن هذه العلوم التي ينبغي أن يتمّ تفعيلها بشكل موضوعي ‏ودقيق، هي العلوم المرتبطة بدراسة الحديث بشكل مباشر، أو ما أصطلح عليها بـ "علوم الحديث"، وتشتمل ‏بدورها على علمي الرجال والدراية وفقه الحديث. ‏
وينبغي تجسير العلاقة الحميمة والعضوية بين علمي الدراية والرجال، وفقه الحديث. كما أنّه ينبغي أن تسبق ‏ذلك كلّه دراسة موضوعية ومترابطة للحديث كبناء متكامل يجسّد الإسلام بوصفه كلاً واحداً، ومنظومةً ‏متكاملةً ومترابطةً. ‏
وما ينبغي وعيه من قبل الدارسين للحديث، هو أنّ النظريات المعتمدة في الجرح والتعديل، وتقييم الروايات ‏ليست نظريات نهائية ناجزة، بل هي قابلة للتعديل والتصحيح. ولا سيّما على ضوء العديد من المعارف ‏والدراسات المطروحة اليوم على صعيد معالجة النصوص، والتي تساعد الباحث في التأكّد من صحة أو عدم ‏صحة الصدور: "إن الحديث لم يكن مطروحاً في مناهجنا، إلا بعد الدخول في مباحث الفقه ‏الاستدلالي حيث يتمّ طرح مجموعة من الأحاديث الفقهيه"‏‏. من دون معالجة الكثير من الأمور المتصلة ‏بالحديث والتي تلقي بظلالها على مجمل الأبحاث الفقهية وغيرها. ‏
‏3 ـ محورية الفقه وأصوله في الدراسة الحوزوية: ‏
يمثّل "علم الفقه" المحور الأساس للدراسات الحوزوية، وتمَّ التركيز عليه تاريخياً من جهة الكم ‏والنوع والعمق، بحيث أصبح الدرس الحوزوي يساوي الدرس الفقهي، وتحوّل الفقه إلى الدرس الأساس في ‏الحوزة: "إنّ الفقه الذي هو بمعنى استنباط الأحكام الفرعية من الأدلة التفصيلية و أساس الحوزات العلمية"‏‏. ‏ونتيجة ذلك تحولت "الفقاهة" أي "طريقة ردّ الفروع إلى الأصول والاستنباط من الأصول ومن الأسس التي ‏هي الكتاب والسنة والإجماع والعقل"‏ إلى الهدف الأسمى للحوزوي. ‏
ولقد كان علماؤنا الأعلام يؤمنون بأنّ القدرة على استنباط الأحكام الشرعية الفرعية تعطي القدرة على ضبط ‏باقي العلوم الإسلامية أيضاً؛ وذلك نظراً إلى وجود "علم أصول الفقه" في جنب الفقه والذي يعتبر "عصب ‏العلوم الإسلامية" أو "منطق الفقه"‏ ‏ كما هو الحال بالنسبة إلى باقي العلوم الإسلامية. فالأصول إذن "منهج ‏البحث" عند الفقيه أو هو منطق مسائله أو بمعنى أوسع "هو قانون عاصم لذهن الفقيه من الخطأ في ‏الاستدلال على الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية"‏. ولهذا ينبغي مراعاة عدّة أمور في هذا العلم ‏هي: ‏
أ- الرؤية الشمولية لدراسة الفقه: تشكّل المكتبة الفقهية تراثاً غنياً وثميناً بالنسبة إلى المسلمين كافة ‏والحوزات العلمية خاصة، فالجهود التي بذلها علماء المسلمين ولاسيَّما الإمامية في مجال الأحكام وقواعدها ‏ومبادئها وطرق استخراجها واستنباطها من المصادر الأساسية والفرعية لا تقدّر بثمن، وكانت المكتبة الفقهية ‏يغلب عليها طابع التحشية والتعليقة وإضافة الهوامش واستدراك موارد وما إلى ذلك، وينقصها التعمّق ‏المباشر في المسائل الفقهية، وهذه حاجة ماسّة للباحثين في هذه المجالات وينبغي على هذا الأساس "... ‏توسيع قاعدة التعمّق بالفقه، والتعمّق لا يعني تناول الحواشي والهوامش والزوايا والتعليقات الزائدة، بل هو ‏معالجة المسائل وضعها موضع التفحّص والتحقيق باستعمال الطرق والأساليب الجديدة حتى يتحقق ‏التعمّق"‏‏. ‏
ب- وجوب التعمّق في البحث الفقهي:إنّ التركيز على عنصري الزمان والمكان من القضايا ذات ‏الأهمية في هذا المجال، بينما نلاحظ أن الواقع الموجود مختلف تماماً، فإنَّ المسائل التي تطرح اليوم ‏والمشاكل التي يواجهها الإنسان ويحتاج إلى معرفة الحكم والرأي الشرعيين فيها تختلف نسبياً عن المشاكل ‏والمسائل التي كانت مطروحة في الأزمنة السابقة، كما أن تجارب وخبرات واجتهادات السابقين من العلماء ‏والمجتهدين ينبغي أن تسخّر لأجل تعميق الفقه وتطويره: "فإن الفقه في زماننا يجب أن يكون أعمق من ‏الفقه في زمن الشيخ [الأنصاري] وتلامذته الذين كانوا مشايخ المرحلة السابقة، لا يجوز أن نحصر اهتمامنا ‏في المسائل السطحية، بل علينا أن نعطي الفقه عمقاً، وهذا من أهم أبعاد تطوّر الفقه"‏. ‏ج- المحافظة على التوسًع الموضوعي للأبحاث الفقهية: لقد توسّع الفقه في بعض الأبعاد ‏وأهملت الأبعاد الأخرى، فمثلاً لم يأخذ الشأن العام والفقه السياسي والاجتماعي حقه من البحث والتعميق ‏والاجتهاد كما أخذت سائر أبواب الفقه مثل العبادات، والمعاملات، والأحوال الشخصية وغيرها؛ ولذلك يجد ‏الباحث في فقه الشأن العام والمعاملات، والأحوال الشخصية وغيرها من فقه الشأن العام صعوبةً كبيرة؛ لأنّ ‏موضوعاتها مبعثرة في ثنايا علوم مختلفة كالكلام والتاريخ، والسيرة، والفقه وأصوله، والحديث وشروحه، ‏والتفسير وما إلى ذلك من علوم، فضلاً عن أن الباحث لا يجد ضالته في أبواب معيّنة من تلك العلوم، بل ‏يجدها مبعثرة في ثنايا ذلك العلم كله، ففي الفقه مثلاً، نجد البحث حول الحكم والإدارة في أبواب عدةّ مثل: ‏الوصية، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقضاء، والبيع، والحسبة وغيرها، وعليه، "يجب أن ‏لا نكتفي ببعض أبواب الفقه التي لها أهمية فردية وليس لها أهمية اجتماعية. مثلاً تلاحظون وفرة في البحث ‏عن الطهارة، لا تلاحظ في باب الجهاد، أو الفقه السياسي والمسائل الاقتصادية في الإسلام. ولو أجريتم ‏مقارنة، لوجدتم أن ما كتب في باب الطهارة أكثر بكثير مما كتب في المسائل الأخرى، وحتّى أن كتب بعض ‏العلماء لا بحث عن الجهاد فيها‏". ‏
د- تحديد أهداف الفقه ومهمته: إنَّ الاتجاه العام في الدراسة الفقهية وتحديد الأهداف مسألة في ‏غاية الأهمية، فإذا بنينا على أن مهمّة الفقه هي بيان المسائل الفردية المبتلى بها، فإننا نكون بذلك قد رسمنا ‏الاتجاه الذي ينبغي أن نسلكه في العلم الاجتهادي والفقهي. وأما لو اعتبرنا أنّ الفقه لا تنحصر مهمته بذلك، ‏فسوف نسير في اتجاه مختلف عما سبق، لأنّنا نعتبر أنَّ الفقه يتولّى بيان الأحكام الاجتماعيّة، ونظم الحياة ‏إضافة إلى القضايا الفردية. فالسؤال الأساسي هو ما هي مهمّة الفقه؟ ولهذا
‏"يجب أن نستنبط نظامنا الاقتصادي من الإسلام، يجب أن نستنبط مسائلنا العسكرية من الإسلام، وكذلك ‏الأحكام المتعلِّقة بسياستنا الخارجية والروابط الأخلاقية..."‏. هذا التوجه يفرض علينا " إعادة النظر فقهياً في ‏كثير من الأحكام الشرعية الفردية، ولا يجوز التساهل في ذلك؛ فإنّنا نطرح الدين بوصفه نظاماً للدولة، وإطاراً ‏للحكومة، وطوال العصور الماضية لم ننظر إلى الفقه من هذا المنظار"‏‏. ‏
و"هل هناك فقيه يجرؤ على القول: "إنّه قد استنبط هذه المسائل [مسائل الحكم والدولة]؟ وأنّها كلها جاهزة ‏للتطبيق والتنفيذ؟ طبعاً، الإجابة سلبية، ولم يدّع أحد ذلك لا في الحاضر، ولا في الماضي، بل لا يجرؤ أحد ‏على دعوى كهذه"‏‏. إذاً، فهذه الدعوة مبنيّة على نظرة جديدة، ومعطيات مختلفة، وظروف مؤاتية: "وبناءً ‏على ذلك يجب علينا أن نستخرج هذه المسائل من الفقه، وهذا يعني فكراً جديداً أو مستحدثاً"‏. ‏
هـ- كيف يمكن لنا أن نقوم بتأسيس فقه يأخذ بعين الاعتبار تلك المجالات والاهتمامات؟ ‏
إنّ الخطوة الأساسية في هذا المضمار هو الانطلاق من أن "الإسلام كل واحد" بمعنى أن استنباط ‏حكم فرعيّ من أحكام الإسلام، يتّصل اتصالاً عضوياً بسائر المجالات الإسلامية كالعقيدة، والأخلاق، ونظم ‏الشريعة في مجال السياسة والتربية والاقتصاد، والمجتمع، والأسرة وغيرها. ‏
ثم بعد ذلك، فإنّنا نملك "تراثاً غنياً" في مجال الفقه وأصوله، وهذا التراث يحتاج إلى البلورة ‏والتهذيب والتكميل. ونعني بـ "تكميل الفقه" ملأ الفراغات التشريعية في مجالات مختلفة؛ حيث إنّ ‏الحاجات والموضوعات وظروف البيئة والواقع المرتبطة بهما في تغيّر دائم وهذا ما يتطلّب اجتهاداً يتلاءم ‏مع هذه العوامل كلِّها، "فهناك بعض الموضوعات التي بيّنت أحكامها في السابق، قد طرأ عليها من التغيير ‏والتحوّل ما جعل من المتعذّر تطبيق نفس الأحكام السابقة عليها بسهولة في الوقت الحاضر، ففي مثل هذه ‏الموارد، لابد لفقهاء العصر وبالاعتماد على دقّة النظر والإحاطة العلمية، والالتزام بأسلوب الفقاهة من جهة، ‏والحرية في التفكير والشجاعة العلمية من جهة أخرى، من اكتشاف مفاهيم فقهية جديدة، وتقديم أحكام ‏جديدة مستندة إلى الكتاب والسنّة، وهذا هو معنى تكميل الفقه"‏‏. ‏
و- بلورة الفقه واستثماره: وأما المقصود ببلورة و"استثمار" الفقه، فهو أن نستفيد من الفقه قواعداً ‏وأصولاً ومبادئً لاستنباط الأحكام الشرعية في مجالات عديدة، لم تكن من موضوعات الفقه التقليدي في ‏الحوزات العلمية أي الأمور المتّصلة بالشأن العام، حيث إنّه: "لابد من الإجابة عن الأسئلة والإشكاليات ‏المطروحة حول مظاهر الحياة المتجدّدة يوماً بعد يوم، وتوضيح أحكامها بشكل مقنع ومدلِّل، كما أنه يمكن ‏الاستفادة من الفقه المعاصر ـ بما يتمتع به من الدقة والقوة في الاستدلال ـ في تكميل علم القانون وتطويره ‏وفتح منافذ جديدة أمام باحثي مراكز القانون في العالم"‏‏. ‏
وفي الختام من المناسب الإشارة إلى جنبة التخصّص في العلوم الإسلامية كحاجة ماسة في هذا العصر، فإنّ ‏ما يسود في الحوزات العلمية هو التوجّه الموسوعي في حقول العلوم الإسلامية. بمعنى أنّ طالب العلوم ‏الدينية يسعى لكسب أكبر قدر ممكن من المعلومات في مجالات شتى وهذا ما يؤدّي في الغالب إلى ما ‏يقال من "أنه يعلم كل شيء ولا يعلم أي شيء" ويكمن الحل في بناء التخصّصات المختلفة في الحوزة في ‏مجالات العلوم الإسلامية بهدف إشباع المطالب العلمية وإثراء المضامين والاهتمام بالمناهج والخصائص ‏التفصيلية للعلوم، وعليه: "يجب على الحوزة العلمية أن تتجه نحو التخصّص، ولحسن الحظ هناك الآن ‏خطوات أولية في هذا المجال، ولكن يجب بذل جهود أكثر... يجب أن يحمل التخصّص محمل الجدية أكثر ‏لما في العلوم الإسلامية من سعة وشمولية، يجب التخصّص حتى في الفقاهة، والمعاملات والعبادات، وإن ‏كانت هذه الموضوعات مرتبطة مع بعضها. ولكن في نفس الوقت لكل منها باب مستقل ويمكن أن يكون ‏لكل باب منها متخصّص"‏. ‏
ويجب علينا أن نخطّط لفكر وحركة ونهضة جديدة في منهجنا العلمي وفي مباحثنا الإسلامية، في ضوء هذه ‏الظاهرة العالمية، فحينما نشاهد العلم الذي انطلقت منه هذه الحركة السياسية على أساسه؛ أي العلوم الإسلامية ‏والمعارف والكلام والفقه، الذي يحظى اليوم بكل هذا الاهتمام من قبل الأوساط العلمية والسياسية والعالمية، ‏يجب علينا بذلك المزيد من الاهتمام والدقّة وتقييم علمنا من جديد بصفتنا علماء دين وأصحاب رأي في ‏القضايا الدينية"‏. ‏
انتهت
المصدر: مرکز الأبحات و الدراسات التربویة*