مقالة الشهيد مطهري وإحياء الفكر الاسلامي
محمّد علي آذرشب
الجزء الثاني والأخیر
الشهيد مطهري واجه في عملية الإحياء مشكلتين: الأولى، مشكلة الفئة المتحركة من الشباب والمثقفين الذين يتشبعون بأفكار الغرب ليبراليها واشتراكيها، ويحملون نظرات سلبية قاتمة عن الدين وعلماء الدين وكتب الدين. والثانية، مشكلة الفئة الجامدة الهامدة من المسلمين الإيرانيين التي تفتقد كل تحرك، وترى بأم أعينها ما يضجّ به المجتمع المسلم من فساد وانحراف، غير أنها تكل الأمر إلى الله! وتنتظر الفرج الغيبي!
أهم ما نهض به الشهيد مطهري هو مكافحة الانحرافات الفكرية كمقدمة ضرورية لإحياء الدين في المجتمع، وهذا ما يؤكد عليه الإمام الخميني(قد) في نعيه الشهيد مطهري إذ قال:
"مطهري كان لي ولداً عزيزاً وللحوزات العلمية الدينية سنداً قوياً، وللشعب والبلد خادماً معطاء.. ومايجب أن أقوله بشأنه هو إنه قدّم خدمات جلّى للإسلام والعلم..".
"إنه كان من النوادر في فهمه الإسلام ومختلف فنون الإسلام والقرآن الكريم..".
"لقد قضى عمره الشريف على طريق الأهداف الإسلامية المقدسة وقارع بشدّة الانحراف والالتقاط.. وأنا أوصي الطلبة والمثقفين الملتزمين أن لا يدَعوا كتب هذا الأستاذ العزيز يلفّها النسيان بفعل دسائس أعداء الإسلام..".
الأستاذ الشهيد مطهري يوضح بنفسه أهدافه في نشاطاته الفكرية ويقول:
"منذ سنة 1330 هجرية شمسية (استشهد في 1358هـ.ش / 1979م) حيث مسكت القلم لأكتب مقالاً أو لأخطّ كتاباً ماكان أمامي هدف سوى حلّ المشاكل والإجابة على الأسئلة المطروحة في الشؤون الإسلامية المعاصرة. كتاباتي بعضها فلسفي، وبعضها أخلاقي وبعضها اجتماعي وبعضها تاريخي، ومع اختلاف موضوعات هذه الكتابات فإنها توخّت هدفاً واحداً لا غير".
«الدين الإسلامي الحنيف دين مجهول، حقائقه قد انقلبت بالتدريج في نظر الناس، والسبب الأساس في إعراض طائفة من الناس هو المفاهيم الخاطئة التي قُدِّمت باسم هذا الدين. هذا الدين المقدس يتعرض في عصرنا الراهن أكثر من أي شيء آخر إلى إساءة بعض أدعياء حماية الدين".
"هجوم الاستعمار الغربي من جانب، بعملائه المرئيين وغير المرئيين، وقصور أو تقصير كثير من أدعياء حماية الإسلام في هذا العصر من جانب آخر، أدّى إلى تعرّض الفكر الإسلامي باستمرار في الحقول المختلفة أصولاً وفروعاً إلى هجوم غادر".
"من هنا فإنني العبد الضعيف رأيت أنّ واجبي يفرض عليّ العمل في هذا الميدان قدر استطاعتي..".
"لا أدّعي طبعاً أن الموضوعات التي تناولتها في كتاباتي كانت من أهم الموضوعات، ولكني أستطيع أن أدّعي بأني لم أتجاوز نطاق حل المسائل المستعصية في الفكر الإسلامي وعرض المفاهيم على حقيقتها بقدر الإمكان، وإن لم تستطع هذه الكتابات أن تحول دون الانحرافات على الصعيد العملي، فلعلها تستطيع أن تقف بوجه الانحرافات الفكرية وخاصة في المجالات التي يتذرع بها أعداء الإسلام. وفي هذا المجال حاولت، حسب تشخيصي رعاية الأولويات".
الأستاذ مطهري وجد أن مهمته الأولى هي تقديم الإسلام بلسان العصر، أو بعبارة أخرى الجمع بين "الأصالة" و"المعاصرة"، وبدون ذلك فإن الاتجاه الفكري في المجتمع الإسلامي سيتخذ أحد سبيلين: إما التقوقع والتخلف والابتعاد عن روح العصر، وإما تحريف الإسلام باسم التقدمية والبروتستانتية، وإلى هذا يشير الأستاذ الشهيد في تحذيره روّاد النهضة الإسلامية إذ يقول:
"أنا باعتباري فرداً أحسّ بمسؤوليتي الإلهية أوجه تحذيري إلى زعماء النهضة الإسلامية العظام، وأتم الحجة بيني وبين رب العالمين وأقول لهم: إن نشر الأفكار الغربية والتقاطها باسم الفكر الإسلامي بعد إضفاء الطابع الإسلامي عليها، سواء كان ذلك عن سوء نية أو عدم سوء نية، خطر يهدد كيان الإسلام".
"طريقة مواجهة هذا الخطر لا تتثمل في المنع والحظر، وهل يمكن منع العطشى المتلهفين إلى الماء من تناول الماء بحجة أنه ملوث؟!! إنها مسؤولياتنا التي تفرض علينا أن نقدم كتباً بلغة العصر في الحقول الإسلامية المختلفة، لو أننا عرضنا ماء قُراحاً سلسبيلاً بالمقدار الكافي لما اتجهوا إلى الماء الملوّث…".
"طريق المواجهة هو عرض المدرسة الإسلامية بشكل صحيح في كل المجالات وبلغة العصر. حوزاتنا العلمية التي تموج اليوم بالنشاطات الاجتماعية يجب أن تعي مسؤوليتها العظيمة العلمية والفكرية. يجب أن تضاعف أعمالها العلمية والفكرية عشر مرات. يجب أن تعلم أن الاقتصار على الدراسات الفقهية والأصولية الرسمية لا يلبي حاجات الجيل المعاصر".
وهكذا يلخّص الأستاذ مطهري نشاطه الفكري والثقافي لإحياء الدين في المجتمع، ونجد مصداق ذلك فيما كتبه الأستاذ من مقالات وألقاه من محاضرات ودوّنه من كتب. فهو قد جمع أولاً بين مختلف احتياجات المجتمع الفكرية، ابتداء بالفلسفة الإسلامية المعمّقة التي طرحها من خلال تعليقه على كتاب: "أصول فلسفه وروش رئاليسم" = "أصول الفلسفة وطريقة الواقعية"، في خمسة أجزاء، وانتهاء بكتابة القصص التربوية المبسطة المستقاة من السيرة والتاريخ الإسلامي في كتابه "داستان راستان" = "قصص الأبرار" في جزئين.
لقد استطاع مطهري أن يطرح القضايا الفلسفية من خلال معالجة الواقع الاجتماعي، كما فعل في "علل گرايش به ماديگرى" (أسباب النزوع إلى المادية)، وفي "عدل إلهي" كما طرح الخطوط العامة لنظرة الإسلام إلى الكون والحياة، في عدة كتب تعالج موضوع التوحيد والنبوة والقيامة. كما كتب دروساً في العلوم الإسلامية كالعرفان والفلسفة والمنطق والكلام؛ وقارع النظرية المادّية وتفسيرها للتاريخ والمجتمع في كتب عديدة؛ وتناول قضية المرأة في عدد من الكتب والمقالات؛ وحارب الالتقاط من خلال الكشف عن زيف الالتقاطيين وخوائهم الفكري؛ وله في تفسير القرآن وربط القرآن بالحياة دروس ومحاضرات ومقالات؛ وله في توضيح المفاهيم الإسلامية وبيان الانحرافات التي تراكمت على هذه المفاهيم باع طويل أيضاً.
كلّ هذا يمثل جهداً متواصلاً استمر قرابة ثلاثين عاماً في الجمع بين "الأصالة" و"المعاصرة" من أجل إحياء الإسلام في مجتمع تكالبت عليه قوى الشر والضلال والانحراف لتبعده عن المسيرة الإسلاميّة الصحيحة.
ولا يفوتنا أن نذكر هنا جهوده المبذولة من أجل استنهاض الهِمم وتحريك الطاقات وغرس روح التحرك وروح العمل والجهاد والشهادة في المجتمع، فقد كان لها تأثير كبير على دفع القطاعات المتقوقعة المنزوية إلى ساحة النشاط الاجتماعي الرسالي، وعلى إزالة الأفكار والمفاهيم السلبية التي عشعشت طويلاً في أذهان الفئة المتدينة التقليدية تجاه العمل السياسي والنشاط الاجتماعي الإسلامي.
بقي أن نؤكد هنا أن الجهاد الفكري الطويل، الذي خاضه الشهيد مطهري، لا يعني انصرافه عن الجهاد من أجل القضاء على النظام السياسي الظالم الحاكم في المجتمع. كل مصلح إسلامي حقيقي مخلص لايمكن أن ينسى مهمة تحرير الأمة ورفع الظلم عنها وهويخوض معترك الصراع الفكري.
الشهيد محمد باقر الصدر – مثلاً – مع كونه رائد الفكر الإسلامي المعاصر، يرى أن صفة محاربة الظالمين لا تنفك عن الإسلام وعن حركة الإنسان المسلم والمجموعة المسلمة، غير أن الظروف والملابسات هي التي تفرض طريقة ممارسة هذه الصفة. ويرى أن نزعة "الانتقام من الجبارين" نزعة تكاملية لا يمكن للإنسان السائر على طريق الله أن يتخلى عنها.
والأستاذ الشهيد حسن البنا عُرف بدعوته الفكرية والأخلاقية والتربوية، لكنه مثل سائر العاملين المتلزمين المخلصين كان يؤكد على ضرورة إعداد القوة اللازمة للمعركة العنيفة ضد الباطل. وجاء هذا التأكيد واضحاً في قوله:
"وفي الوقت الذي يكون فيه منكم – معشر الأخوان المسلمين – ثلاثمائة كتيبة قد جهزت كل نفسها روحياً بالإيمان والعقيدة، وفكرياً بالعلم والثقافة، وجسمياً بالتدريب والرياضة. في هذا الوقت طالبوني بأن أخوض بكم لجاج البحار، وأقتحم بكم عنان السماء، وأغزو بكم كل عنيد جبّار، فإني فاعل إن شاء الله..".
وهذا المفكر المسلم أبو الأعلى المودودي يشير إلى عقم الاكتفاء بأسلوب الوعظ والإرشاد فيقول: "يصبح من العبث الدعوة إلى الإسلام على طريقة التبشير المسيحي. ولو طُبعت ملايين النشرات تدعو إلى التمسك بالإسلام وتصيح بالناس أن (اتقوا الله) صباحا مساءا، لما كانت ذات فائدة تذكر، إذ ما هي الفائدة العملية التي ستنجم عن تأكيد أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان وأن فوائده ومزاياه ليس لها مثيل عن طريق القلم والخطابة؟! إن حاجة العصر تتطلب إبراز هذه المزايا بصورة عملية في عالم الواقع.. إن مشاكل العالم المادية لن تحلّ بمجرد القول بأن الإسلام يملك حلها. إن قيمة الإسلام الذاتية لابد وأن تبرز إلى الوجود في هيئة نظام عملي مهيمن يلمس الناس آثاره ويجنون ثماره.. إننا نعيش في عالم يقوم على الصراع والكفاح. والخطابة والوعظ لن تفلح في تغيير مجراه، ولكن الكفاح الثائر وحده هو الذي يستطيع ذلك»".
والمودودي لا يريد أن يستهين طبعاً بدور الكلمة في الدعوة إلى الله، وهو الكاتب والواعظ والخطيب، بل يردّ على الذين يقنعون أنفسهم بالاكتفاء بالكلمة، إنه بعبارة أخرى يردّ على تجار الكلمة وعلى المهزومين نفسياً أمام بطش الجبارين، ويؤكد أن الكلمة الجادة المخلصة لاتفترق عن الحركة الجادة، وعن الكفاح الثائر. والعمل الجاد هو الدليل الوحيد على صدق جدية الكلمة.
الشهيد مطهري كان أيضاً من المؤمنين بأن التغيير الاجتماعي في المنظور الإسلامي لا يمكن أن يتحقق دون ثورة كاملة تطيح بالظالمين، لكن هذه الثورة لا يمكن أن يُكتب لها البقاء، ولا يمكن صيانتها من الزلل والانحراف إلا إذا ساندتها نهضة فكرية عميقة أصيلة تقدم الإسلام في جميع مجالات الحياة وفق مقتضيات العصر.
يقول: ".. كل نهضة اجتماعية يجب أن يكون لها سند من نهضة فكرية وثقافية، وإلا فسوف تقع في فخ التيارات التي تمتلك ثروة فكرية، وتتجه نحو هذه التيارات فتغيّر مسارها. وقد رأينا أن الجماعات الفارغة من الفكر الإسلامي كيف سقطت كالذبابة في أوتار بيت العنكبوت".
ويقول في موضع آخر:
".. لو استيقظ الشرق واكتشف هويته الإسلامية، فلا تستطيع حتى القنبلة الذرية أن تصد هذه القوة العظيمة، وهذه الجماهير الثائرة. وطريق اليقظة التعرف على تاريخنا وثقافتنا وإيديولوجيتنا..".
كانت هذه وقفة قصيرة ضرورية – في خاتمة مطافنا – عند حقيقة هامة هي أن الشهيد مطهري، مثل سائر كبار المصلحين الإسلاميين المعاصرين ودعاة إحياء الفكر الإسلامي، لم يكن يرى العمل الفكري منفصلاً عن العمل الاجتماعي في المجتمع، بل كان يرى عملية الإحياء الفكري مقدمة ضرورية للتغيير الشامل، وضماناً أكيداً لسلامة المسير وللوقاية من الزلل والانحراف. والحمد لله أولاً وآخراً.
انتهت
المصدر: ثقافتنا - العدد 6
برچسب ها :
ارسال دیدگاه