*دور الأُمة في تفعيل منصب الفقيه ربما يُطرح استفهام هنا عن دور الأمة والشعب والجمهور، أو ــ على أقل التقادير ــ دور المتدينين المقلّدين للمرجع في تفعيل منصب الفقيه المتصدي وموقعه، وأين يكمن هذا الدور في مثلث السلطة وأضلاعه؟. الحقيقة أن الشعب أو الجمهور الشيعي هو مادة أضلاع المثلث المذكور، وليس سلطةً بذاته؛ فهو موجود في إطار السلطة السياسية للمكون وأحزابها، وفي إطار القوات المسلحة وجماعات المقاومة، وفي إطار مؤسسات المجتمع الشيعي الاقتصادية، وهو داعم ومقوم لها ومتفاعل معها، وبدون الأُمة أو الجمهور سيكون المثلث بلا مضمون ومحتوى. حال قيام الدولة الإسلامية الشيعية؛ فإن دور الأمة التابعة للدولة من الناحية القانونية، يتمثل في تفعيل ولاية الفقيه الجامع لشرائط القيادة، من خلال اختياره وترجيحه ومبايعته، بشكل مباشر، من بين مجموعة المراجع والفقهاء الحائزين على شروط الولاية، أو انتخابه بشكل غير مباشر عبر مجلس أهل الخبرة (المجتهدون). وهنا تعطي الأُمة المشروعية القانونية للفقيه لكي يتولى أمور الأُمة والدولة، وليس إعطائه شرعية المنصب؛ فالمنصب يمتلكه الفقيه بالأصالة كما ذكرنا سابقاً. وبعد اختياره؛ سيكون إمساكه بالموقع تلقائياً، لأن الدولة توفر للفقيه كل سلطات تفعيل منصبه، وفي مقدمتها الحكم والسلاح والمال.
اقرأ أكثر *ثوابت العدوان في العقيدة الصهيونية *تحولات الاجتماع الشيعي العراقي أما في حال عدم وجود دولة؛ فإن الأُمة لا تستطيع تحقيق مطلب تفعيل منصب المرجعية وموقعها، دون وجود أدوات السياسة والسلاح والمال، لأن الجمهور، وخاصة المؤمن بقيادة المرجعية ودورها، سيتفاعل ابتداءً مع أوامر المرجعية وفتاواها وأحكامها، لكنه سيُواجه بسلطة سياسية تعيق حركته، وإذا استمر في مقاومتها، بهدف تفعيل موقع المرجعية؛ فإن السلطة السياسية ستضربه بشده، وستلقيه في المعتقلات، وتقوده الى ساحات الإعدام. وهكذا بالنسبة للعدو الداخلي أو الخارجي المهاجم؛ فإن الجمهور لن يستطيع مواجهته بأيدٍ عزلاء وبالشعارات والهتافات. وهو ما يشبه دور المال؛ فإذا لم يكن هناك المال اللازم لأي مشروع تدعو إليه المرجعية؛ فإن الشعب سيكون عاجزاً عن تحويل المشروع الى واقع قائم. وفي النتيجة؛ ستتمكن السلطات السياسية والعسكرية والمالية المعادية أو المخاصمة، تحييد الجمهور وعزله عن قيادته المرجعية بكل سهولة، أي أنّ الرهان على الأُمة، دون وجود أدوات وظروف ملائمة، هو رهان خاسر أو مغامرة يصعب التكهن بنتائجها. ومهما كانت شخصية المرجع الديني قوية وكان كفأً وعبقرياً، كالشيخ المفيد أو الشيخ الطوسي أو العلامة الحلي أو السيد محمد باقر الصدر أو الإمام الخميني؛ فإنه لا يستطيع تفعيل منصبه وموقعه المرجعي، ولا يستطيع تنفيذ أي من أفكاره ومشروعاته، دون توافر السلطة السياسية، أو الانفراج السياسي حداً أدنى، إضافة الى السلاح والمال، على حسب طبيعة المشروع أو الحكم الشرعي المراد تنفيذه. وهناك نماذج في التاريخ الشيعي المعاصر، لها دلالات واضحة على هذه الحقيقة: ثورة التنباك في إيران التي فجّرها الميرزا السيد محمد حسن الشيرازي في العام 1890م من خلال فتوى من سطر واحد فقط، قال فيها بأن استخدام التنباك (التبغ) حرام، وذلك لإفشال اتفاقية حصر استثمار التبغ في إيران بشركة بريطانية؛ فامتنع الشعب الإيراني عن التدخين، وتحرك ضد السلطة، وكادت الثورة أن تزلزل عرش الشاه ناصر الدين القاجاري. وفي النتيجة؛ رضخ الشاه للفتوى، وفشلت حكومته في تمرير الاتفاقية مع بريطانيا، وحققت الفتوى كامل أهدافها، لأن الشاه كان شيعياً والسلطة شيعية، وإن لم تكن ملتزمة بأحكام الشريعة، لكنها تخشى سطوة المرجع الأعلى في تحريك الشارع الشيعي والجماعات الشيعية ضدها. ولو كان المرجع قد أصدر حينها فتوى مشابهة تخص تركيا العثمانية؛ لقام سلطانها عبد الحميد الثاني بتمزيق الفتوى واعتقال كل من يلتزم بتنفيذها، بل واعتقال المرجع نفسه. فتوى الشيخ محمد تقي الشيرازي بإشعال ثورة العشرين في العراق في العام 1920 ضد الاحتلال الإنجليزي، والتي سبقتها فتاوى استنهضت الشيعة وسلاحهم وأموالهم ضد بريطانيا، منذ العام 1914. حينها أعلن المرجع الشيرازي الثورة لأنه يعلم أن العشائر الشيعية المسلحة ستلبي فتواه، وأن الأحزاب الشيعية ستمسك بزمام الثورة، وأن منظومة المرجعية تستطيع توفير المال اللازم، أي أن المرجعية كانت تحرز وجود الأدوات التي ستفعِّل الفتوى، وقبلها تفعِّل موقعه المرجعي. فتوى المرجع الأعلى السيد محسن الحكيم وباقي مراجع الشيعة في العام 1960 بـ ((عدم جواز الانتماء إلى الحزب الشيوعي فإن ذلك كفر وإلحاد))؛ فقد كان الظرف السياسي مؤاتياً، وكانت أغلب الأدوات التنفيذية متوافرة. فتاوى الإمام الخميني وتعاليمه التي فجّرت الثورة ضد نظام الشاه بهلوي، لأنه كان يمتلك أدواتها، من جماعات سياسية ونخب، الى شبكة وكلاء منظمة، الى أموال شرعية وتبرعات وتجار البازار، الى مقلديه الكثر وعموم المتدينين داخل القوات المسلحة الإيرانية، وبينهم ضباط كبار. كما أنّ النخب الاجتماعية والسياسية والعسكرية، بمن فيها العاملة مع الدولة، لم تكن تخش انقلاباً على مذهب الدولة وعقيدتها، لأن هذه النخب شيعية والدولة شيعية والشاه كان شيعياً، ولا يوجد أي هاجس طائفي حيال التحرك ضد النظام، لكي تستنفر هذه النخب كل ما لديها من عقد طائفية تراكمية لقمع التحرك المضاد. وإن كان كثير من تلك النخب منفلتاً دينياً. وفي النتيجة؛ فلولا مجموع هذه الأدوات التي استشرف الإمام الخميني توافرها، لربما لم يكن سيعلن الثورة، رغم أنّ الشعب كان مادة الثورة، لكنه ليس أدواتها. فتاوى المرجع السيد محمد باقر الصدر؛ فقد كانا يمتلك كثيراً من أدوات التأثير والتغيير والثورة، لكنها لم تكن كافية؛ فأدّت فتاواه إلى إعدامه، لأن السلطة السياسية كانت تمارس التوحش المفرط وأبشع أساليب القمع الإجرامي ضد حراكه. وهو ما حدث أيضاً مع السيد محمد الصدر، رغم اختلاف ظروف المرجعين. هذا التوحش المفرط، الذي ينزع عن المرجع أدوات تفعيل فتواه في الشأن العام، وصولاً الى منع تفعيل منصبه، ربما هو ما كان يمنع المراجع السيد الخوئي والسيد السبزواري والسيد السيستاني والسيد محمد سعيد الحكيم من إصدار فتاوى الجهاد ضد نظام البعث، رغم أنه دمّر البلاد والعباد، وارتكب كل أنواع المحرمات والموبقات التي لم يشهد التاريخ البشري مثيلاً لها ضد الواقع الشيعي، بل كادت ممارساته تقضي على النظام الاجتماعي الشيعي العراقي، وهو ما كان سيحدث لأول مرة منذ واقعة كربلاء في العام 60 للهجرة. فهل كان سكوت مرجعية النجف علامة رضا على الاحتلال البعثي وإمضاءً لمذابحه وجرائمة؟؛ كلّا قطعاً، بل لأنّ المرجعية كانت تعلم أن أدوات تفعيل الفتوى ضد النظام ونجاحها في تحقيق أهدافها غير متوافرة، وأن أي فتوى جهادية ستُعرِّض المرجع وعائلته وحاشيته الى الاعتقال والقتل، وأن النظام سيقوم بوضع من يستجيب لفتوى المرجعية في فرامة اللحم أو يدفنه حياً، مهما بلغ عدد المستجيبين للفتوى، كما فعل خلال حراك السيد محمد باقر الصدر، ثم في مواجهة الانتفاضة الشعبانية ومجاهدي الأهوار وغيرها. ولعل هذا الموضوع ــ هو الآخر ــ بحاجة الى دراسة موضوعية معمقة، رغم حساسيته، لأن جدوى السكوت على السلطة السياسية المفرطة في الظلم وفي قمع الشيعة، أو التحرك ضدها، تكمن في مآلات ونتائج كل منهما، ومن هو أكثر ضرراً وأكثر نفعاً، وفقاً لأهداف الدين ومقاصد الشريعة.
*موقع السيد السيستاني أنموذجاً لتوافر أدوات تفعيل المنصب يقودنا الحديث السابق الى نموذج تطبيقي قائم، ظل الواقع الشيعي العراقي والإقليمي والعالمي يعيش تفاصيله ويتغنى بثماره طيلة مرحلة ما بعد العام 2014، وهي فتوى المرجع الأعلى السيد علي السيستاني في الدفاع الكفائي ضد خطر تنظيم (داعش) الوهابي، الذي كان يهدد استقرار العراق ووحدته ودولته. وقد نجحت الفتوى في تحقيق أهدافها، لأن المرجع الأعلى كان يحرز وجود الظرف والأدوات التي ستفعِّل فتواه، وهي الظروف والأدوات نفسها التي فعّلت منصب السيد السيستاني وموقعه بعد العام 2003، لأن موقع السيد السيستاني قبل 2003 هو غير موقعه بعد العام 2003، رغم أن منصبه لم يتغير في المرحلتين؛ فخلال حكم النظام البعثي الطائفي، كان السيد السيستاني هو المرجع الأعلى، لكنه كان محاصَراً، وبذلت السلطة كل ما تمتلك من قوة لمنعه من تفعيل منصبه، وبلغ الأمر أن يغلق بابه ويمتنع عن التدريس وصلاة الجماعة بعد قيام السلطة باغتيال المراجع الثلاثة في النجف (الشيخ الغروي والشيخ البجنوردي والسيد محمد الصدر)، رغم أن الغروي والبجنوردي لم يكونا يمارسان أي نشاط سياسي أو اجتماعي، وكان محتملاً جداً أن يكون السيد السيستاني هو هدف الاغتيال اللاحق. ولكن السيد السيستاني تحوّل بعد العام 2003 الى مرجع أعلى فاعل بقوة في الواقع السياسي والاجتماعي، وبكل صلاحيات منصب الفقيه وموقع المرجعية، حتى باتت لديه القدرة على تغيير أعلى مسؤول تنفيذي في الدولة، ثم يفتي في العام 2014 بالدفاع الكفائي ضد الخطر الداهم للعراق والشيعة، وهو ما يعني أن انقلاباً جذرياً حصل في الواقع العراقي بعد العام 2003، مكّن المرجعية من تفعيل موقعها. وهذا الانقلاب الكبير أو الصدمة التاريخية، كان عنوانها الرئيس التحول في السلطة السياسية، أي أن السلطة التي سقطت في العام 2003 كانت تحجر على المرجع الأعلى وتمنعه بالقوة من تفعيل منصبه وموقعه، في حين أن السلطة التي جاءت بعد العام 2003، ظلت تضع نفسها طوعاً تحت تصرف المرجع الأعلى، وهي التي استجابت الى ظروف تفعيل موقعه، لأنها سلطة تعتمد على أغلبية حكومية شيعية ملتزمة نسبياً. وهكذا بالنسبة لفتوى الدفاع الكفائي؛ فإن السيد السيستاني أصدرها لأنه كان يعلم بوجود أدوات وسلطات ستنفذ فتواه، وهذه السلطات ليس المقصود بها سلطة الشعب الذي استجاب للفتوى، لأن هذا الشعب كان موجوداً نفسه قبل العام 2003، لكن السيد السيستاني لم يحرك الشعب حينها بفتوى ضد حزب البعث، رغم أن خطر نظام صدام على العراق والشيعة والحوزة والمرجعية كان أكبر بمئات الأضعاف من خطر (داعش) و(القاعدة) وعموم الحركات التكفيرية الإرهابية الوهابية؛ فقد احتل نظام صدام الوسط والجنوب الشيعي العراقي بأكمله، طيلة (35) عاماً، احتلالاً لم يمر على العراق أبغض وأقسى منه، وكان يضع الشيعة بين خياري الاستعباد أو الذبح، كما يضع المرجعية بين خيارين: القتل والاعتقال والتسفير، أو سلب الصلاحيات والمنع من أداء الوظائف الموكولة لها شرعاً، وهو ما لم يكن لتنظيم (داعش) من تكرار فعله إطلاقاً، وبالتالي؛ لا يمكن قياس خطر نظام البعث بخطر (داعش) وأمثاله. وقد كشفت فتوى السيد السيستاني عن الدور المصيري لأضلاع مثلث السلطة: السياسية والعسكرية والمالية، والتي توافرت حينها لتنفيذ الفتوى، وليس لإنجاحها وحسب، وهي نفسها التي فعّلت موقع السيد السيستاني بعد العام 2003؛ فسلطة السياسة في عام الفتوى (2014)، كانت ذات أغلبية شيعية، ورئيس الحكومة كان شيعياً، والأحزاب السياسية الأكثر تأثيراً وفاعلية كانت شيعية، وأغلبها تأسس قبل العام 2003، وكانت أغلبية الشعب مسيّسة باتجاه الأحزاب الشيعية والعملية السياسية، وهناك أيضاً دولة شيعية داعمة في إيران. وكذلك على مستوى سلطة السلاح؛ فإن القائد العام للقوات المسلحة ورئيس هيئة الحشد الشعبي وأغلب قادة القوات المسلحة كانوا شيعة، وكانت هناك تشكيلات جهادية مسلحة كبيرة قائمة، يعود تاريخ بعضها الى الأعوام 1979 الى 1991، وصولاً الى الأعوام 2003 الى 2006، والتي تشكلت فيها تنظيمات شيعية مسلحة كبيرة. وأغلب هذه التشكيلات قام بأذونات مراجع دين كبار، كالسيد محمد باقر الصدر والإمام الخميني والسيد علي الخامنئي والسيد كاظم الحائري. أما السلطة الثالثة، وهي سلطة المال؛ فقد وفرتها الدولة العراقية، ولولا توافر المال اللازم، لما استطاعت القوات المسلحة العراقية وقوات الحشد الشعبي من تحشيد الملتحقين الجدد وتنظيم صفوفهم في فرق وألوية ووحدات تخصصية، إضافة الى شراء السلاح والذخيرة والمعدات، هذا فضلاً عن أموال الحقوق الشرعية والتبرعات التي كانت تضخها المرجعية الدينية ومؤسسات ولاية الفقيه في جسد التشكيلات الجهادية المسلحة. ولذلك؛ فإن دراسة الجهود المضنية للمرجعية الدينية المعاصرة في تحويل منصبها وموقعها من القوة الى الفعل، وخاصة جهود السيد محمد باقر الصدر والإمام الخميني والسيد علي الخامنئي والسيد علي السيستاني، وفتاواهم وإرشاداتهم الاستنهاضية، التي يتمثل حصادها على أرض الواقع في صعودٍ شيعي تاريخي غير مسبوق، وازدهارٍ لعصر الشيعة السادس الذي أسسه الإمام الخميني؛ هدفها تكريس رهان الشيعة على مثلث السلطة وأضلاعه، ولكي لا تتوقف هذه الفتاوى والأحكام التاريخية وتجف ثمارها، سواء بعد خمسين أو مائة أو خمسمائة سنة؛ فمن خلال الإمساك بسلطات السياسة والسلاح والمال، ودفع الأمة للتفاعل معها، يستطيع الشيعة الاستمرار في عصرهم الجديد، وفاعلية نظامهم الاجتماعي الديني الشيعي بكل أجهزته ومؤسساته وأدواته ووسائله وسياقاته.