هفته‌نامه سیاسی، علمی و فرهنگی حوزه‌های علمیه

نسخه Pdf

المرجعية الدينية الشيعية بين المنصب والموقع

مقالة/ الجزء الثاني

المرجعية الدينية الشيعية بين المنصب والموقع

د. علي المؤمن

 *دور الأُمة في تفعيل منصب الفقيه
ربما يُطرح استفهام هنا عن دور الأمة والشعب والجمهور، أو ــ على أقل التقادير ــ دور المتدينين ‏المقلّدين للمرجع في تفعيل منصب الفقيه المتصدي وموقعه، وأين يكمن هذا الدور في مثلث السلطة ‏وأضلاعه؟.‏
الحقيقة أن الشعب أو الجمهور الشيعي هو مادة أضلاع المثلث المذكور، وليس سلطةً بذاته؛ فهو ‏موجود في إطار السلطة السياسية للمكون وأحزابها، وفي إطار القوات المسلحة وجماعات المقاومة، ‏وفي إطار مؤسسات المجتمع الشيعي الاقتصادية، وهو داعم ومقوم لها ومتفاعل معها، وبدون الأُمة أو ‏الجمهور سيكون المثلث بلا مضمون ومحتوى.‏
حال قيام الدولة الإسلامية الشيعية؛ فإن دور الأمة التابعة للدولة من الناحية القانونية، يتمثل في تفعيل ‏ولاية الفقيه الجامع لشرائط القيادة، من خلال اختياره وترجيحه ومبايعته، بشكل مباشر، من بين ‏مجموعة المراجع والفقهاء الحائزين على شروط الولاية، أو انتخابه بشكل غير مباشر عبر مجلس ‏أهل الخبرة (المجتهدون). وهنا تعطي الأُمة المشروعية القانونية للفقيه لكي يتولى أمور الأُمة والدولة، ‏وليس إعطائه شرعية المنصب؛ فالمنصب يمتلكه الفقيه بالأصالة كما ذكرنا سابقاً. وبعد اختياره؛ ‏سيكون إمساكه بالموقع تلقائياً، لأن الدولة توفر للفقيه كل سلطات تفعيل منصبه، وفي مقدمتها الحكم ‏والسلاح والمال.‏
 
اقرأ أكثر
*ثوابت العدوان في العقيدة الصهيونية
*تحولات الاجتماع الشيعي العراقي
أما في حال عدم وجود دولة؛ فإن الأُمة لا تستطيع تحقيق مطلب تفعيل منصب المرجعية وموقعها، ‏دون وجود أدوات السياسة والسلاح والمال، لأن الجمهور، وخاصة المؤمن بقيادة المرجعية ودورها، ‏سيتفاعل ابتداءً مع أوامر المرجعية وفتاواها وأحكامها، لكنه سيُواجه بسلطة سياسية تعيق حركته، وإذا ‏استمر في مقاومتها، بهدف تفعيل موقع المرجعية؛ فإن السلطة السياسية ستضربه بشده، وستلقيه في ‏المعتقلات، وتقوده الى ساحات الإعدام. وهكذا بالنسبة للعدو الداخلي أو الخارجي المهاجم؛ فإن ‏الجمهور لن يستطيع مواجهته بأيدٍ عزلاء وبالشعارات والهتافات. وهو ما يشبه دور المال؛ فإذا لم يكن ‏هناك المال اللازم لأي مشروع تدعو إليه المرجعية؛ فإن الشعب سيكون عاجزاً عن تحويل المشروع ‏الى واقع قائم. وفي النتيجة؛ ستتمكن السلطات السياسية والعسكرية والمالية المعادية أو المخاصمة، ‏تحييد الجمهور وعزله عن قيادته المرجعية بكل سهولة، أي أنّ الرهان على الأُمة، دون وجود أدوات ‏وظروف ملائمة، هو رهان خاسر أو مغامرة يصعب التكهن بنتائجها.‏
ومهما كانت شخصية المرجع الديني قوية وكان كفأً وعبقرياً، كالشيخ المفيد أو الشيخ الطوسي أو ‏العلامة الحلي أو السيد محمد باقر الصدر أو الإمام الخميني؛ فإنه لا يستطيع تفعيل منصبه وموقعه ‏المرجعي، ولا يستطيع تنفيذ أي من أفكاره ومشروعاته، دون توافر السلطة السياسية، أو الانفراج ‏السياسي حداً أدنى، إضافة الى السلاح والمال، على حسب طبيعة المشروع أو الحكم الشرعي المراد ‏تنفيذه.‏
وهناك نماذج في التاريخ الشيعي المعاصر، لها دلالات واضحة على هذه الحقيقة:‏
ثورة التنباك في إيران التي فجّرها الميرزا السيد محمد حسن الشيرازي في العام 1890م من خلال ‏فتوى من سطر واحد فقط، قال فيها بأن استخدام التنباك (التبغ) حرام، وذلك لإفشال اتفاقية حصر ‏استثمار التبغ في إيران بشركة بريطانية؛ فامتنع الشعب الإيراني عن التدخين، وتحرك ضد السلطة، ‏وكادت الثورة أن تزلزل عرش الشاه ناصر الدين القاجاري. وفي النتيجة؛ رضخ الشاه للفتوى، وفشلت ‏حكومته في تمرير الاتفاقية مع بريطانيا، وحققت الفتوى كامل أهدافها، لأن الشاه كان شيعياً والسلطة ‏شيعية، وإن لم تكن ملتزمة بأحكام الشريعة، لكنها تخشى سطوة المرجع الأعلى في تحريك الشارع ‏الشيعي والجماعات الشيعية ضدها. ولو كان المرجع قد أصدر حينها فتوى مشابهة تخص تركيا ‏العثمانية؛ لقام سلطانها عبد الحميد الثاني بتمزيق الفتوى واعتقال كل من يلتزم بتنفيذها، بل واعتقال ‏المرجع نفسه.‏
فتوى الشيخ محمد تقي الشيرازي بإشعال ثورة العشرين في العراق في العام 1920 ضد الاحتلال ‏الإنجليزي، والتي سبقتها فتاوى استنهضت الشيعة وسلاحهم وأموالهم ضد بريطانيا، منذ العام 1914. ‏حينها أعلن المرجع الشيرازي الثورة لأنه يعلم أن العشائر الشيعية المسلحة ستلبي فتواه، وأن الأحزاب ‏الشيعية ستمسك بزمام الثورة، وأن منظومة المرجعية تستطيع توفير المال اللازم، أي أن المرجعية ‏كانت تحرز وجود الأدوات التي ستفعِّل الفتوى، وقبلها تفعِّل موقعه المرجعي.‏
فتوى المرجع الأعلى السيد محسن الحكيم وباقي مراجع الشيعة في العام 1960 بـ ((عدم جواز ‏الانتماء إلى الحزب الشيوعي فإن ذلك كفر وإلحاد))؛ فقد كان الظرف السياسي مؤاتياً، وكانت ‏أغلب الأدوات التنفيذية متوافرة.‏
فتاوى الإمام الخميني وتعاليمه التي فجّرت الثورة ضد نظام الشاه بهلوي، لأنه كان يمتلك أدواتها، من ‏جماعات سياسية ونخب، الى شبكة وكلاء منظمة، الى أموال شرعية وتبرعات وتجار البازار، الى ‏مقلديه الكثر وعموم المتدينين داخل القوات المسلحة الإيرانية، وبينهم ضباط كبار. كما أنّ النخب ‏الاجتماعية والسياسية والعسكرية، بمن فيها العاملة مع الدولة، لم تكن تخش انقلاباً على مذهب الدولة ‏وعقيدتها، لأن هذه النخب شيعية والدولة شيعية والشاه كان شيعياً، ولا يوجد أي هاجس طائفي حيال ‏التحرك ضد النظام، لكي تستنفر هذه النخب كل ما لديها من عقد طائفية تراكمية لقمع التحرك ‏المضاد. وإن كان كثير من تلك النخب منفلتاً دينياً. وفي النتيجة؛ فلولا مجموع هذه الأدوات التي ‏استشرف الإمام الخميني توافرها، لربما لم يكن سيعلن الثورة، رغم أنّ الشعب كان مادة الثورة، لكنه ‏ليس أدواتها.‏
فتاوى المرجع السيد محمد باقر الصدر؛ فقد كانا يمتلك كثيراً من أدوات التأثير والتغيير والثورة، ‏لكنها لم تكن كافية؛ فأدّت فتاواه إلى إعدامه، لأن السلطة السياسية كانت تمارس التوحش المفرط ‏وأبشع أساليب القمع الإجرامي ضد حراكه. وهو ما حدث أيضاً مع السيد محمد الصدر، رغم اختلاف ‏ظروف المرجعين.‏
هذا التوحش المفرط، الذي ينزع عن المرجع أدوات تفعيل فتواه في الشأن العام، وصولاً الى منع ‏تفعيل منصبه، ربما هو ما كان يمنع المراجع السيد الخوئي والسيد السبزواري والسيد السيستاني ‏والسيد محمد سعيد الحكيم من إصدار فتاوى الجهاد ضد نظام البعث، رغم أنه دمّر البلاد والعباد، ‏وارتكب كل أنواع المحرمات والموبقات التي لم يشهد التاريخ البشري مثيلاً لها ضد الواقع الشيعي، بل ‏كادت ممارساته تقضي على النظام الاجتماعي الشيعي العراقي، وهو ما كان سيحدث لأول مرة منذ ‏واقعة كربلاء في العام 60 للهجرة.‏
فهل كان سكوت مرجعية النجف علامة رضا على الاحتلال البعثي وإمضاءً لمذابحه وجرائمة؟؛ كلّا ‏قطعاً، بل لأنّ المرجعية كانت تعلم أن أدوات تفعيل الفتوى ضد النظام ونجاحها في تحقيق أهدافها ‏غير متوافرة، وأن أي فتوى جهادية ستُعرِّض المرجع وعائلته وحاشيته الى الاعتقال والقتل، وأن ‏النظام سيقوم بوضع من يستجيب لفتوى المرجعية في فرامة اللحم أو يدفنه حياً، مهما بلغ عدد ‏المستجيبين للفتوى، كما فعل خلال حراك السيد محمد باقر الصدر، ثم في مواجهة الانتفاضة الشعبانية ‏ومجاهدي الأهوار وغيرها.‏
ولعل هذا الموضوع ــ هو الآخر ــ بحاجة الى دراسة موضوعية معمقة، رغم حساسيته، لأن جدوى ‏السكوت على السلطة السياسية المفرطة في الظلم وفي قمع الشيعة، أو التحرك ضدها، تكمن في ‏مآلات ونتائج كل منهما، ومن هو أكثر ضرراً وأكثر نفعاً، وفقاً لأهداف الدين ومقاصد الشريعة.‏
 
*موقع السيد السيستاني أنموذجاً لتوافر أدوات تفعيل المنصب
يقودنا الحديث السابق الى نموذج تطبيقي قائم، ظل الواقع الشيعي العراقي والإقليمي والعالمي يعيش ‏تفاصيله ويتغنى بثماره طيلة مرحلة ما بعد العام 2014، وهي فتوى المرجع الأعلى السيد علي ‏السيستاني في الدفاع الكفائي ضد خطر تنظيم (داعش) الوهابي، الذي كان يهدد استقرار العراق ‏ووحدته ودولته. وقد نجحت الفتوى في تحقيق أهدافها، لأن المرجع الأعلى كان يحرز وجود الظرف ‏والأدوات التي ستفعِّل فتواه، وهي الظروف والأدوات نفسها التي فعّلت منصب السيد السيستاني ‏وموقعه بعد العام 2003، لأن موقع السيد السيستاني قبل 2003 هو غير موقعه بعد العام 2003، رغم ‏أن منصبه لم يتغير في المرحلتين؛ فخلال حكم النظام البعثي الطائفي، كان السيد السيستاني هو ‏المرجع الأعلى، لكنه كان محاصَراً، وبذلت السلطة كل ما تمتلك من قوة لمنعه من تفعيل منصبه، وبلغ ‏الأمر أن يغلق بابه ويمتنع عن التدريس وصلاة الجماعة بعد قيام السلطة باغتيال المراجع الثلاثة في ‏النجف (الشيخ الغروي والشيخ البجنوردي والسيد محمد الصدر)، رغم أن الغروي والبجنوردي لم ‏يكونا يمارسان أي نشاط سياسي أو اجتماعي، وكان محتملاً جداً أن يكون السيد السيستاني هو ‏هدف الاغتيال اللاحق.‏
ولكن السيد السيستاني تحوّل بعد العام 2003 الى مرجع أعلى فاعل بقوة في الواقع السياسي ‏والاجتماعي، وبكل صلاحيات منصب الفقيه وموقع المرجعية، حتى باتت لديه القدرة على تغيير أعلى ‏مسؤول تنفيذي في الدولة، ثم يفتي في العام 2014 بالدفاع الكفائي ضد الخطر الداهم للعراق والشيعة، ‏وهو ما يعني أن انقلاباً جذرياً حصل في الواقع العراقي بعد العام 2003، مكّن المرجعية من تفعيل ‏موقعها. وهذا الانقلاب الكبير أو الصدمة التاريخية، كان عنوانها الرئيس التحول في السلطة السياسية، ‏أي أن السلطة التي سقطت في العام 2003 كانت تحجر على المرجع الأعلى وتمنعه بالقوة من تفعيل ‏منصبه وموقعه، في حين أن السلطة التي جاءت بعد العام 2003، ظلت تضع نفسها طوعاً تحت ‏تصرف المرجع الأعلى، وهي التي استجابت الى ظروف تفعيل موقعه، لأنها سلطة تعتمد على أغلبية ‏حكومية شيعية ملتزمة نسبياً.‏
وهكذا بالنسبة لفتوى الدفاع الكفائي؛ فإن السيد السيستاني أصدرها لأنه كان يعلم بوجود أدوات ‏وسلطات ستنفذ فتواه، وهذه السلطات ليس المقصود بها سلطة الشعب الذي استجاب للفتوى، لأن هذا ‏الشعب كان موجوداً نفسه قبل العام 2003، لكن السيد السيستاني لم يحرك الشعب حينها بفتوى ضد ‏حزب البعث، رغم أن خطر نظام صدام على العراق والشيعة والحوزة والمرجعية كان أكبر بمئات ‏الأضعاف من خطر (داعش) و(القاعدة) وعموم الحركات التكفيرية الإرهابية الوهابية؛ فقد احتل نظام ‏صدام الوسط والجنوب الشيعي العراقي بأكمله، طيلة (35) عاماً، احتلالاً لم يمر على العراق أبغض ‏وأقسى منه، وكان يضع الشيعة بين خياري الاستعباد أو الذبح، كما يضع المرجعية بين خيارين: القتل ‏والاعتقال والتسفير، أو سلب الصلاحيات والمنع من أداء الوظائف الموكولة لها شرعاً، وهو ما لم يكن ‏لتنظيم (داعش) من تكرار فعله إطلاقاً، وبالتالي؛ لا يمكن قياس خطر نظام البعث بخطر (داعش) ‏وأمثاله.‏
وقد كشفت فتوى السيد السيستاني عن الدور المصيري لأضلاع مثلث السلطة: السياسية والعسكرية ‏والمالية، والتي توافرت حينها لتنفيذ الفتوى، وليس لإنجاحها وحسب، وهي نفسها التي فعّلت موقع ‏السيد السيستاني بعد العام 2003؛ فسلطة السياسة في عام الفتوى (2014)، كانت ذات أغلبية شيعية، ‏ورئيس الحكومة كان شيعياً، والأحزاب السياسية الأكثر تأثيراً وفاعلية كانت شيعية، وأغلبها تأسس ‏قبل العام 2003، وكانت أغلبية الشعب مسيّسة باتجاه الأحزاب الشيعية والعملية السياسية، وهناك ‏أيضاً دولة شيعية داعمة في إيران.‏
وكذلك على مستوى سلطة السلاح؛ فإن القائد العام للقوات المسلحة ورئيس هيئة الحشد الشعبي ‏وأغلب قادة القوات المسلحة كانوا شيعة، وكانت هناك تشكيلات جهادية مسلحة كبيرة قائمة، يعود ‏تاريخ بعضها الى الأعوام 1979 الى 1991، وصولاً الى الأعوام 2003 الى 2006، والتي تشكلت ‏فيها تنظيمات شيعية مسلحة كبيرة. وأغلب هذه التشكيلات قام بأذونات مراجع دين كبار، كالسيد ‏محمد باقر الصدر والإمام الخميني والسيد علي الخامنئي والسيد كاظم الحائري.‏
أما السلطة الثالثة، وهي سلطة المال؛ فقد وفرتها الدولة العراقية، ولولا توافر المال اللازم، لما استطاعت ‏القوات المسلحة العراقية وقوات الحشد الشعبي من تحشيد الملتحقين الجدد وتنظيم صفوفهم في فرق ‏وألوية ووحدات تخصصية، إضافة الى شراء السلاح والذخيرة والمعدات، هذا فضلاً عن أموال الحقوق ‏الشرعية والتبرعات التي كانت تضخها المرجعية الدينية ومؤسسات ولاية الفقيه في جسد التشكيلات ‏الجهادية المسلحة.‏
ولذلك؛ فإن دراسة الجهود المضنية للمرجعية الدينية المعاصرة في تحويل منصبها وموقعها من القوة ‏الى الفعل، وخاصة جهود السيد محمد باقر الصدر والإمام الخميني والسيد علي الخامنئي والسيد علي ‏السيستاني، وفتاواهم وإرشاداتهم الاستنهاضية، التي يتمثل حصادها على أرض الواقع في صعودٍ شيعي ‏تاريخي غير مسبوق، وازدهارٍ لعصر الشيعة السادس الذي أسسه الإمام الخميني؛ هدفها تكريس رهان ‏الشيعة على مثلث السلطة وأضلاعه، ولكي لا تتوقف هذه الفتاوى والأحكام التاريخية وتجف ثمارها، ‏سواء بعد خمسين أو مائة أو خمسمائة سنة؛ فمن خلال الإمساك بسلطات السياسة والسلاح والمال، ‏ودفع الأمة للتفاعل معها، يستطيع الشيعة الاستمرار في عصرهم الجديد، وفاعلية نظامهم الاجتماعي ‏الديني الشيعي بكل أجهزته ومؤسساته وأدواته ووسائله وسياقاته.‏
المصدر: آفاق

برچسب ها :

ارسال دیدگاه