الانتباه: الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي «الآفاق» بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها
ثالثاً: سد الذرائع:
الذريعة كما ذكر ابن القيم وهو أسلم التعاريف: هي كلّ ما كان وسيلة وطريقاً إلى الشيء، والشيء يقصد به الأحكام الشرعية من طاعة أو معصية وهذا يشمل سد الذرائع؛ أي الحيلولة دون الوصول إلى المفسدة إذا كانت النتيجة فساداً؛ لأن الفساد ممنوع، وفتح الذرائع: ومعناه الأخذ بالذرائع إذا كانت النتيجة مصلحة، لأن المصلحة مطلوبة، قال القرافي.
«إعلم أن الذريعة كما يجب سدها، يجب فتحها، وتكره وتندب وتباح، فغن الذريعة هي الوسيلة، فكما أن وسيلة المحرم محرمة، فوسيلة الواجب كالسعي للجمعة والحج...»
فإذا أدت الذريعة إلى قربة وخير أو عمل مبرور كانت مطلوبة، لأن المصلحة مطلوبة، وإذ أدت إلى ممنوع هو مفسدة أو مضرة كانت ممنوعة، لأن المفاسد أو المضار ممنوعة.
ويكن حكم الذريعة أو الوسيلة ـ كما ذكر القرافي وابن القيم وجماعة ـ حكم ما أفضت إليه من تحريم أو تحليل، والوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل، إلى ما يتوسط متوسطة؛ فإذا كان الجهاد فريضة فكل الأعباء والمتاعب المؤدية إليه يكون المجاهد مثابا عليها، لقوه تعالى (ذلك بأنه لا يصبهم ظلما ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله، ولا يطؤون موطئاً يغيظ الكفار، ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح).
وبما أن الفاحشة حرام، كون النظر إلى عورة الأجنبية حراماً، لأنه يؤدي إلى الفاحشة.
وتكون وسيلة المحرم محرمة، ووسيلة الواجب واجبة، وهذا مبني على القاعدة المشهورة المقررة عند جماهير العلماء وهي مقدمة الواجب: «ما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب».
وقد اعتبر الإمامان مالك وأحمد مبدأ الذرائع أصلاً من أصول الفقه، سواء تعينت الوسيلة للغاية أم لم تتعين، ويتفق أكثر الفقهاء على الحالة الأولى. قال ابن القيم.
أن سد الذرائع ربع الدين. ثم أورد حوالي مائة دليل من الآيات والأحاديث على اعتبار الوسائل. وأخذ بالمبدأ الإمامان أبو حنيفة والشافعي في بعض الحالات، وأنكرا العمل به في حالات أخرى، وأنكره ابن حزم الظاهري مطلقاً.
وأخذ الشيعة الإمامية بالذرائع فتحا وسدا، وبخاصة إذا كانت بمعنى المقدمة، فإنهم كالشافعية يعتبرون المقدمة تابعة في حكمها للمقدم له أو الغاية، على اختلاف في معنى هذه التبعية وفي حدودها من حيث الإطلاق والتقييد. وأنكر بعض المتأخرين كالشيخ حسين الاصفهاني والسيد محسن الحكيم والسيد أبو القاسم الخوئي تبعيتها للنتيجة أو الغاية في حكمها، وقررا أن لها حكها المستقل المأخوذ من أدلته الخاصة. وانتهى المحقق العلامة محمّد تقي الحكيم إلى اعتبار سد الذرائع وفتحها أصلا في مقابل الأصول على أنها من السنة، أو العقل أخذاً بقاعدة الملازمة وانتقد اعتبارها عند مالك وأحمد وابن تيمية وابن القيم من أصول الأحكام في مقابل بقية الأصول وأما ما ورد على لسان الشرع مما هو صريح بالردع عن الآتيان بالمقدمات المحرمة، فهو من قبيل الإرشاد إلى حكم العقل.والتأكيد له،لا أنها أحكام تأسيسية.
وفي تقديري وتقدير المحققين كالقرافي أن ما دلت عليه نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية من الأخذ بالذرائع لا إشكال في الأخذ به، مثل النهي في القرآن استعمال كلمة «راعنا» في آية (يا أيها الّذين آمنوا لا تقولوا راعنا، وقولوا انظرنا واسمعوا) والنهي عن سب آلهة المشركين أمامهم حتّى لا يحملهم ذلك على سب الإله الحق في آية: (ولا تسبوا الّذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم).
ومثل الشواهد القولية والعملية الكثيرة من السنة كالنهي عن شتم الرجل أبوي غيره حتّى لا يكون ذريعة إلى سب أبوي نفسه، والنهي عن خطبة المعتدة كيلا يؤدي إلى الزواج في العدة، والنهي عن بيع وسلف لئلا يؤدي إلى الربا، والنهي عن قبول هدي المقترض لئلا يتخذ ذريعة إلى تأخير الدين لاجل الهدية، فيكون ربا.
وينحصر محل الخلاف في الذرائع في البيوع الربوية أو بيوع الآجال، ومنها بيوع العينية، لأنه يتوسط في التعامل بالربائين، كأن يبيع الشخص سلعة بثمن مؤجل ثم يشتريها من المشتري بثمن معجل أقل، فيكون الفرق ربا. لقد حرم المالكية والحنابلة.
هذه البيوع بسبب كثرة قصد الناس التواصل بها إلى ممنوع شرعاً في الباطن كبيع بسلف، وسلف بمنفعة وروي في السنة حديث يمنع من بيع العينة وهو: «إذا ضمن الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، وابتعها أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، أنزل الله عليهم بلاء، فلا يرفعه حتّى يراجعوا دينهم».
ومنع أبو حنيفة بيع العينة لا بسبب الذرائع، وإنّما بسبب فساد البيع الثاني لعدم تمام البيع الأول، وللنهي عن بيع الشيء قبل قبضه وصحح الشافعي هذا البيع لسلامته في الظاهر واستيفاء أركانه وشرائطه، وترك ناحية القصد الباطن إلى الله بتقرير الإثم والعقاب الاخروي، أي أن العقد حرام للنهي عنه، صحيح في الظاهر، حتّى يقوم الدليل على قصد الربا المحرم.
وأما الإمامية فيرون في الأصح أو الأشبه كراهة بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه، وليس البيع حراماً ولا باطلاً، لان المشتري باع ما يملكه بمجرد انعقاد العقد، وهم لا يبطلون العقد بالباعث السيئ، أو الخبيث.
جاء في المختصر النافع في فقه الإمامية ص (146) ويصح أن يبتاع ما باعه نسيئة قبل الأجل بزيادة ونقصان بجنس الثمن وغيره، حالاً ومؤجلاً إذا لم يشترط ذلك. وفي الاتجاه الجديد منع الإمام الخميني في البيع والعلامة باقر الصدر كلّ بيع يتخذ في الظاهر سبيلاً للربا.
رابعاً: العرف:
العرف: هو ما اعاده الناس وساروا عليه من كلّ فعل شاع بينهم، أو لفظ تعارفوا إطلاقه على معنى خاص لا تألفه اللغة، ولا يتبادر غيره عند سماعه، وهو بمعنى العادة الجماعية. وقد شمل هذا التعريف العرف العملي والعرف القولي.
وبعبارة أخرى: العرف: ما تعارفه الناس، وساروا عليه من قول أو فعل أو ترك، ويسمى العادة.
والفرق بينه وبين الإجماع: أنّه يكفي فيه سلوك الاكثرية من عوام وخواص، فهو أشبه بالسيرة، وأما الإجماع فمبناه اتفاق الأمة أو مجتهديها.
وهو حجة في التشريع عند فقهاء السنة إذا كان عرفا صحيحاً: وهو ما تعارفه الناس دون أن يحل حراماً أو يحرم حلالاً، كتقديم عربون في عقد الاستصناع، وقسمة المهر إلى مقدم ومؤخر. أما العرف الفاسد فلا يعمل به، وهو ما تعارف الناس، ولكنه يحل حراماً أو يحرم حلالا، كتعارفهم أكل الربا والتعامل مع المصارف الربوية بالفائدة، واختلاط النساء بالرجال في المناسبات العامة كالحفلات والزفاف، والرقص والغناء المبتذل.
لذا قالوا: العادة محكمة، والثبات بالعرف ثابت بدليل شرعي. والمعروف عرفاً كالمشروط شرطاً وتطبيقاته كلّ ما ورد به الشرع مطلقاً، ولا ضابط له فيه ولا في اللغة، يرجع فيه إلى العرف، كالحرز في السرقة، والتفرق في البيع، ووسائل تحقيق القبض في تسلم المعقود عليه أو العوض.
والأئمة الأربعة بنوا بعض أحكامهم على أعراف زمانهم، وتتغير الأعراف بتغيير الأزمان، والوقائع متجددة، والحاجة إلى معرفة حكم الله فيها مستمرة، لأن شريعة الله تخاطب الناس في كلّ العصور، لذا قال الإمام علي(ع): «لم تخل الأرض من قائم لله بحجة» ورتب الإمامية على هذا القول الدعوة إلى فتح باب الاجتهاد، وكذلك مجدو السنة الّذين حاربوا التقليد وأعلنوا فرضية الاجتهاد، كالسيوطي في كتابه «الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كلّ عصر فرض» وكابن تيمية وابن القيم والشوكاني لكن انتقد العلامة محمّد تقي الحكيم أنّه لا موضع لإطلاق وتعميمات العبارات السابقة مثل العادة محكمة ونحوها ثم صرح بأن العرف ليس أصلا قائماً بذاته في مقابل الأصول، وذكر أن مجالاته ثلاثة.
1 ـ ما يستكشف منه حكم شرعي فيما لا نص فيه، مثل الاستصناع وعقد الفضولي، إذا كان عرفاً عاماً يشمل مختلف الأزمنة والأمكنة، بما فيها عصر المعصومين. وهذا راجع إلى السنة فإنه يرجع للعرف لمعرفة حكم الشارع، ولابد من الرجوع إليه.
2 ـ ما يرجع إلى لتشخيص بعض المفاهيم التي أوكل الشارع أمر تحديدها إلى العرف، ثمل لفظ الإناء والصعيد، وأكثر مصارف الزكاة التي ذكرتها الآية المباركة، فهي عرفية ن ومنها مصرف الفقراء والمساكين وفي سبيل الله. وهذا أمر يتعلق بتحديد المراد من السنة حكما أو موضوعاً.
3 ـ تحديد مراد المتكلمين، سواء أكان المتكلم هو الشارع أم غيره، ويشمل هذا الدلالات الالتزامية في مراد الشارع إذا كان منشأ الدلالة الملازمات العرفية، كحكم الشارع مثلاً بطهارة الخمر إذا انقلب خلاً، فهو ملازم عرفاً للحكم بطهارة جميع أطراف إنائه. ويدخل في هذا القسم تحديد مراد كلام غير الشارع في أبواب الإقرارات والوصايا والشروط والأوقاف وغيرها، سواء كان العرف عاماً أو خاصاً وهذا كالمجال الثاني مرجعه إلى السنة، لان الشارع أو كلّ تحديد موضوعاته إلى العرف، كما أو كلّ إليه تحديد مراد المتكلمين.
والحق أنّه لا خلاف في حجية العرف إلاّ في التكييف بين السنة والشيعة، فالفريق الأول اعتبروه حجة ودليلهم الحاجة والواقع واجتهاد الصحابة والفريق الثاني لم يسعهم إلاّ أن يعترفوا بحجية العرف ولكن بإرشاد الشارع، فالكلام متقارب أو واحد في الجملة وصرح بعض علماء الأصول من أهل السنة بما يتفق مع كلام الإمامية: إنّ العرف عند التحقيق ليس دليلا شرعياً مستقلاً.
خامساً: شرع من قبلنا:
وهو أحكام الشرائع التي أنزلها الله عز وجل على الأنبياء السابقين كإبراهيم وموسى وعيسى ـ عليهم السلام ـ، فصارت ديناً كالحنيفية ملة إبراهيم، واليهودية شريعة موسى، والنصرانية ديانة عيسى.
وانقسم أهل السنة بشأن هذا المصدر فريقين. الجمهور (الحنفية والمالكية والحنابلة) يرون أن ما صح من شرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخ في شريعتنا، من طريق الوحي في القرآن أو السنة النبوية، لا من جهة كتبهم المبدلة، فيعمل به ما لم يرد في شرعنا خلافه، ولم يظهر إنكار له؛ لأنه شرع من الشرائع التي أنزلها الله، لوم يوجد ما يدل على نسخه، فنكون مطالبين به، لقوله تعالى: (أولئك الذي هداهم الله فبهداهم اقتده) وقوله سبحانه: (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً).
وفريق الشافعية ومثلهم الأشاعرة والمعتزلة والشيعة: يرون أن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا مطلقا إلاّ ما أقرته شريعتنا، لقوله تعالى: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً) ولأنه لو كان شرع السابقين شرعاً لنا لكان تعلمه ونقله وحفظه من فروض الكفايات كالقرآن والأخبار النبوية، ولرجع الصحابة إليها في مواضع اختلافهم حيث أشكل عليهم، كمسألة العول، وميراث الجدة، والمفوضة ن وبيع أم الولد، وحد الشرب، ربا النسيئة، ومتعة النساء، ودية الجنين، وحكم المكاتب إذا كان عليه شيء من النجوم، والرد بالعيب بعد الوطء، والتقاء الختانين، وغير ذلك من أحكام تقررها الأديان والكتب، ولم ينقل عنهم مراجعة التوارة، ولا يجوز القياس إلاّ بعد اليأس من الكتاب.
ويمكن التوفيق بين الرأيين بأن أدلة المثبتين تدل على أصل إمضاء الشرائع السابقة واقرارها دون الأخذ بظواهرها جميعاً وإذا أقرت شيعتنا أصل الشرائع كانت حجة وعلينا اتباعها على كلّ حال، لكن الكتب المتداولة عند اليهود والنصارى ليست حجة بالنسبة الينا لتحريفها، وهذا متفق عليه.
ولدى التحقيق تبين أن شرع من قبلنا ليس دليلا مستقلاً من أدلة التشريع، وإنّما مردود إلى الكتاب أو السنة، لأنه لا يعمل به إلاّ إذا قصه الله تعالى أو رسوله(ص) من غير إنكار أو تصريح بالقبول، ولم يرد في شرعنا ما يدل على نسخه، والسكوت عنه لدى جماعة المثبتين في قوة الإقرار في مجال التشريع.
وقرر جماعة من الأصوليين كإمام الحرمين الجويني والمازري والماوردي والشوكاني أنّه لا فائدة عملية ولا ثمرة للخلاف بالنسبة إلينا، بل يجري مجرى التواريخ المنقولة.
سادساً: مذهب الصحابي:
قول الصحابي أو مذهبه: هو الاجتهاد الصادر عنه قولاً أو سلوكا من غي معرفة مستند له. وفي حجيته أقوال أشهرها اتجاهان:
اتجاه الجمهور (الحنفية والمالكية والحنابلة): أنّه حجة شرعية مقدمة على القياس، لما ورد في شأن الصحابة من أحاديث مثل: «اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكرو عمر».
«عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي».
ولان احتمال سماعهم عن النبي(ص) قائم، ولأن اجتهادهم أقرب للإصابة في الرأي ببركة صحبة النبي، واطلاعهم على أسرار التشريع وأحوال التنزيل وأسباب نزوله، ويتميزون بالعدالة والفضل في السبق للإسلام، ومناصرته، وتثبيت الدين، وفهم مراميه ومقاصده العامة والخاصة.
واتجاه الشافعية وجمهور الأشاعرة والمعتزلة والشيعة: أنّه ليس بحجة: لأن الصحابي من أهل الاجتهاد، والمجتهد يجوز الخطأ أو السهو عليه، فلا يجب على التابعي المجتهد ولا من بعده العمل بمذهبه، والذي يروى عنه لا يرقى إلى مرتبة الخبر المرفوع، وكان الصحابة يقرون التابعين على اجتهادهم، وكان للتابعين آراء مخالفة لمذهب الصحابي، فلو كان قول الصحابي حجة على غيره، لما ساغ للتابعي الاجتهاد، ولأنكر عليه الصحابي مخالفته لقوله.
ويلاحظ أن محل النزاع في حجية قول الصحابي هو بالنسبة لغير الصحابة وهم من بعد الصحابة من التابعين ومن بعدهم، لا مجتهدة الصحابة.
والواقع أن مذهب الصحابي كمشرع مثل القرآن والسنة لا يقبل بحال، واما مذهبه كمجتهد فهو كبقية المجتهدين، يؤخذ من قوله ويرد، فلا يكون مذهب الصحابي دليلاً شرعياً مستقلاً فيما هو مقول بالاجتهاد المحض؛ لأن المجتهد يجوز عليه الخطأ، ولم يثبت أن الصحابة ألزموا غيرهم بأقوالهم. ومرتبة الصحبة وان كانت شرفاً كبيراً، لا تجعل صاحبها معصوما، ولا تلازم ـ كما قال الشوكاني بين فضل الصحابة وارتفاع درجتهم وعظمة شأنهم، وبين جعل كلّ واحد منهم بمنزلة رسول الله(ص) في حجية قوله، والزام الناس باتباعه، فإن ذلك مما لم يأذن الله به، ولا ثبت عنه فيه حرف واحد. فإن كان قول الصحابي مما لا مجال للرأي والاجتهاد فيه، بأن كان قولاً يخالف القياس، فيعتبر من السنة، ولا خلاف فيه، لأنه لا محمل له الأسماع خبر فيه.
سابعاً: الاستصحاب:
الاستصحاب يعمل به إذا لم يوجد دليل آخر، قال الخوارزمي في الكافي: وهو آخر مدار الفتوى. والذي عليه أكثر متأخري الأصوليين أنّه من قبيل الأصول لا الامارات وان كان يختلف عنها من بعض الجهات.
وتعريفه عند الأصوليين: هو الحكم بثبوت أمر أو نفيه في الزمان الحاضر أو المستقبل، بناء على ثبوته أو عدمه في الزمان الماضي، لعدم قيام الدليل على تغيره. مثل أن يقال: الحكم الفلاني قد كان، ولم يظن عدمه، وكل ما كان كذلك فهو مظنون البقاء؛ لان الظن حجة متبعة في الشرعيات كاستدلال الشافعية على أن الخارج من غير السبيلين لا ينقض الوضوء: بأن الشخص كان على الوضوء قبل خروجه إجماعا، فيبقى على ما كان عليه.
وعرفه الأستاذ خلاف بقوله: استبقاء الحكم الذي ثبت بدليل في الماضي قائماً في الحال، حتّى يوجد دليل يغيره.
ويسمى هذا الأصل عند متأخري الشيعة بالأصل الاحرازي، وبذلك يختلف عن الأمارة، لان الامارة تحكي عن الواقع والشارع، والاستصحاب لا يقرر الواقع فعلاً، وإنّما يأمرك باعتباره واقعا.
وللعلماء في حجيته أقوال ثلاثة.
1 ـ مذهب أكثر المتكلمين كأبي الحسين البصري: وهو أنّه في نطاق الشرعيات ليس بحجة لان الثبوت في الزمان الأول يفتقر إلى الدليل، فكذلك في الزمان الثاني، لأنه يجوز أن يكون هناك دليل وألا يكون، أما الحسيات فتجري على أساس الاستصحاب بإجراء الله العادة فيها.
2 ـ مذهب أكثر المتأخرين من الحنفية: وهو أن الاستصحاب حجة للدفع والنفي لا للإثبات والاستحقاق، أي أنّه حجة لدفع ما يخالف الأمر الثابت بالاستصحاب، وليس هو حجة على إثبات أمر لم يقم الدليل على ثبوته فهو يصلح لأن يدفع به من ادعى تغير الحال، لا بقاء الأمر على ما كان، أي أن الاستصحاب لا يثبت به إلاّ الحقوق السلبية بمعنى بقاء الحقوق المررة الثابتة من قبل، دون إثبات حكم جديد، فالاستصحاب لبراءة ذمة ليس بحجة لبراءتها حقاً، بل يصلح فقط لمدافعة الخصم الذي يدعي شغل هذه الذمة، بدون دليل يثبت دعواه.
3 ـ مذهب أكثر العلماء وهم المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية: وهو أن الاستصحاب حجة مطلقا لتقرير الحكم الثابت، حتّى يقوم الدليل على تغييره، أي أنّه يثبت الحقين الايجابي والسلبي ما دام لم يقم دليل مانع من الاستمرار. وثمرة الخلاف بين هذا المذهب والمذهب الثاني تظهر في المفقود، فإنه في المذهب الثالث يتلقى خلوفاً ايجابيةً من غيره، فيرث من قريبه، وتثبت له الوصايا، استصحاباً لحياته، وتظل على ملكيته الحقوق التي كانت قبل فقده. وهذا هو الجانب السلبي، فهو يرث ولا يورث، وعند الحنفية لا يثبت له الارث والوصية من غيره، فلا يرث ولا يورث.
وللشعية الإمامية تفصيلات كثيرة في أقسام الاستصحاب، مفادها أنّه معتبر عندهم في الجملة أن توافرت فيه أركان سبعة مستفادة من تعريفه9 وهي اليقين، والشك، ووحدة المتعلق فيهما، ووحدة القضية المتيقنة والقضية المشكوكة في جميع الجهات (أي اتحاد الموضوع والمحمول والنسبة والحمل والرتبة) واتصال زمان الشك بزمان اليقين (أي ألا يتخلل بينهما فاصل من يقين آخر) وسبق اليقين على الشك.
فيكون الاستصحاب حجة عند أكثر العلماء من السنة والشيعة؛ لان ما فطر عليه الناس وجرى به عرفهم في عقودهم وتصرفاتهم ومعاملاتهم أنهم إذا تحققوا من وجود أمر، غلب على ظنهم بقاؤه موجوداً، حتّى يثبت لهم عدمه، وإذا تحققوا من عدم أمر، غلب على ظنهم بقاؤه معدوما، حتّى يثبت لهم جوده.
قال العلامة محمّد تقي الحكيم: والذي يبدو لي أن الاستصحاب من الظواهر الاجتماعية العامة التي ولدت مع المجتمعات ودرجت معها، وستبقى ـ ما دامت المجتمعات ـ ضمانة لحفظ نظامها واستقامتها، ولو قدر للمجتمعات أن ترفع يدها عن الاستصحاب لما استقام نظامها بحال.
وفرع العلماء على الاستصحاب المبادئ الشرعية الكلية التالية. وهي: «الأصل بقاء ما كان على ما كان، حتّى يثبت ما يغيره» و«الأصل في الأشياء الإباحة» و«الأصل في الذمة البراءة من التكاليف والحقوق» وهو استصحاب البراءة، و«اليقين لايزول بالشك» أي لا يرفع حكمه بالتردد، لكن الإمام مالك لا يجيز الصلاة مع الشك بالطهارة، ويوجب الوضوء؛ لأن وإن كان الأصل بقاء الطهارة فإن الأصل أيضا بقاء الصلاة في ذمته.
الخلاصة:
يتبين مما تقدم أن هناك جسور التقاء كثيرة بين المذاهب الإسلاميّة من سنة وشيعة سواء في مجال المصادر أو في مجال التفريعات أو الفروع والتطبيقات الفقهية، مما يدل على وحدة الأمة الإسلاميّة، وإمكان توحيدها في كلّ زمان ومكان، ما دام المصدران الأصليان وهما الكتاب والسنة أساس التشريع.
والخلاف الفقهي بين هذه المذاهب ليس خلافا جوهرياً يمنع من إمكان التلاقي، وإنّما هو خلاف في الفروع التي لا تضر، ما دام منشؤها الاجتهاد.
والأسس والمصادر الاجتهادية المشتركة ـ كما تقدم ـ كثيرة وواضحة، كلّ ما في الأمر الاختلاف في العناوين والأسماء أما في الواقع أو النتيجة فالكل يؤيد بعضهم بعضا من حيث لا يدري، والعبرة عادة بالنتائج. وقد تبين لدينا أن العقل المصدر الثالث عند الشيعة الإمامية يوازي المقرر عند فقهاء السنة من المصادر التبعية للتشريع التي هي في الواقع قواعد كلية ولا تصلح أدلة مستقلة في مواجهة الكتاب والسنة.
ويلاحظ أن بعض المصادر الأصلية والمصادر التبعية قسمان؛ قسم يعتمد على النقل وهو مذهب الصحابي وشرع من قبلنا والعرف، وقسم يعتمد على العقل وهو القياس وهو مذهب الصحابي وشرع من قبلنا والعرف، وقسم يعتمد على العقل وهو القياس والاستحسان والاستصلاح وسد الذرائع والاستصحاب. أما الإجماع فالسابق منه يعتمد على النقل عن المجمعين، والإجماع الذي يراد عقده يعتمد على العقل والنقل معا؛ لأنه يحتاج إلى معرفة مستند الإجماع، وبذل أقصى الجهد في تتبع كلّ ما له صلة بالمسألة التي يراد الإجماع عليها.
ولم أتحدث عن مجال البراءة الأصلية (وهو استواء الفعل والترك في حكم الشريعة) وما قد يلجأ إليه فقهاً من القرعة والاستخارة، كما لم أتحدث عن الاحتياط الشرعية والعقلي، لقلة الكلام والخلاف في شأنهما.
تمت
المصدر: الموقع الإلکتروني لمجمع التقریب بین المذاهب الإسلامیة