printlogo


printlogo


مقالة
الأسس والمصادر الاجتهادية المشتركة الجزء الثالث والأخیر

الانتباه: الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي «الآفاق» بالضرورة ، بل تعبر عن رأي ‏أصحابها
 
ثالثاً: سد الذرائع:‏
الذريعة كما ذكر ابن القيم وهو أسلم التعاريف: هي كلّ ما كان وسيلة وطريقاً إلى الشيء، ‏والشيء يقصد به الأحكام الشرعية من طاعة أو معصية وهذا يشمل سد الذرائع؛ أي الحيلولة دون ‏الوصول إلى المفسدة إذا كانت النتيجة فساداً؛ لأن الفساد ممنوع، وفتح الذرائع: ومعناه الأخذ بالذرائع ‏إذا كانت النتيجة مصلحة، لأن المصلحة مطلوبة، قال القرافي.‏
‏«إعلم أن الذريعة كما يجب سدها، يجب فتحها، وتكره وتندب وتباح، فغن الذريعة هي الوسيلة، فكما ‏أن وسيلة المحرم محرمة، فوسيلة الواجب كالسعي للجمعة والحج...»‏
فإذا أدت الذريعة إلى قربة وخير أو عمل مبرور كانت مطلوبة، لأن المصلحة مطلوبة، وإذ أدت إلى ‏ممنوع هو مفسدة أو مضرة كانت ممنوعة، لأن المفاسد أو المضار ممنوعة.‏
ويكن حكم الذريعة أو الوسيلة ـ كما ذكر القرافي وابن القيم وجماعة ـ حكم ما أفضت إليه من ‏تحريم أو تحليل، والوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل، إلى ما يتوسط متوسطة؛ فإذا كان ‏الجهاد فريضة فكل الأعباء والمتاعب المؤدية إليه يكون المجاهد مثابا عليها، لقوه تعالى (ذلك بأنه لا ‏يصبهم ظلما ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله، ولا يطؤون موطئاً يغيظ الكفار، ولا ينالون من عدو ‏نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح).‏
وبما أن الفاحشة حرام، كون النظر إلى عورة الأجنبية حراماً، لأنه يؤدي إلى الفاحشة.‏
وتكون وسيلة المحرم محرمة، ووسيلة الواجب واجبة، وهذا مبني على القاعدة المشهورة المقررة عند ‏جماهير العلماء وهي مقدمة الواجب: «ما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب».‏
وقد اعتبر الإمامان مالك وأحمد مبدأ الذرائع أصلاً من أصول الفقه، سواء تعينت الوسيلة ‏للغاية أم لم تتعين، ويتفق أكثر الفقهاء على الحالة الأولى. قال ابن القيم.‏
‏أن سد الذرائع ربع الدين. ثم أورد حوالي مائة دليل من الآيات والأحاديث على اعتبار الوسائل. ‏وأخذ بالمبدأ الإمامان أبو حنيفة والشافعي في بعض الحالات، وأنكرا العمل به في حالات أخرى، ‏وأنكره ابن حزم الظاهري مطلقاً.‏
وأخذ الشيعة الإمامية بالذرائع فتحا وسدا، وبخاصة إذا كانت بمعنى المقدمة، فإنهم كالشافعية يعتبرون ‏المقدمة تابعة في حكمها للمقدم له أو الغاية، على اختلاف في معنى هذه التبعية وفي حدودها من ‏حيث الإطلاق والتقييد. وأنكر بعض المتأخرين كالشيخ حسين الاصفهاني والسيد محسن الحكيم ‏والسيد أبو القاسم الخوئي تبعيتها للنتيجة أو الغاية في حكمها، وقررا أن لها حكها المستقل المأخوذ ‏من أدلته الخاصة. وانتهى المحقق العلامة محمّد تقي الحكيم إلى اعتبار سد الذرائع وفتحها أصلا في ‏مقابل الأصول على أنها من السنة، أو العقل أخذاً بقاعدة الملازمة وانتقد اعتبارها عند مالك وأحمد ‏وابن تيمية وابن القيم من أصول الأحكام في مقابل بقية الأصول وأما ما ورد على لسان الشرع مما ‏هو صريح بالردع عن الآتيان بالمقدمات المحرمة، فهو من قبيل الإرشاد إلى حكم العقل.والتأكيد ‏له،لا أنها أحكام تأسيسية.
وفي تقديري وتقدير المحققين كالقرافي أن ما دلت عليه نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية من ‏الأخذ بالذرائع لا إشكال في الأخذ به، مثل النهي في القرآن استعمال كلمة «راعنا» في آية (يا أيها ‏الّذين آمنوا لا تقولوا راعنا، وقولوا انظرنا واسمعوا) والنهي عن سب آلهة المشركين أمامهم ‏حتّى لا يحملهم ذلك على سب الإله الحق في آية: (ولا تسبوا الّذين يدعون من دون الله فيسبوا الله ‏عدوا بغير علم).‏
‏ومثل الشواهد القولية والعملية الكثيرة من السنة كالنهي عن شتم الرجل أبوي غيره حتّى لا يكون ‏ذريعة إلى سب أبوي نفسه، والنهي عن خطبة المعتدة كيلا يؤدي إلى الزواج في العدة، والنهي عن بيع ‏وسلف لئلا يؤدي إلى الربا، والنهي عن قبول هدي المقترض لئلا يتخذ ذريعة إلى تأخير الدين لاجل ‏الهدية، فيكون ربا.‏
وينحصر محل الخلاف في الذرائع في البيوع الربوية أو بيوع الآجال، ومنها بيوع العينية، لأنه يتوسط ‏في التعامل بالربائين، كأن يبيع الشخص سلعة بثمن مؤجل ثم يشتريها من المشتري بثمن معجل أقل، ‏فيكون الفرق ربا. لقد حرم المالكية والحنابلة.‏
هذه البيوع بسبب كثرة قصد الناس التواصل بها إلى ممنوع شرعاً في الباطن كبيع بسلف، وسلف ‏بمنفعة وروي في السنة حديث يمنع من بيع العينة وهو: «إذا ضمن الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا ‏بالعينة، وابتعها أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، أنزل الله عليهم بلاء، فلا يرفعه حتّى يراجعوا ‏دينهم».‏
ومنع أبو حنيفة بيع العينة لا بسبب الذرائع، وإنّما بسبب فساد البيع الثاني لعدم تمام البيع الأول، وللنهي ‏عن بيع الشيء قبل قبضه وصحح الشافعي هذا البيع لسلامته في الظاهر واستيفاء أركانه وشرائطه، ‏وترك ناحية القصد الباطن إلى الله بتقرير الإثم والعقاب الاخروي، أي أن العقد حرام للنهي عنه، ‏صحيح في الظاهر، حتّى يقوم الدليل على قصد الربا المحرم.‏
وأما الإمامية فيرون في الأصح أو الأشبه كراهة بيع المكيل أو الموزون قبل قبضه، وليس البيع حراماً ‏ولا باطلاً، لان المشتري باع ما يملكه بمجرد انعقاد العقد، وهم‏ لا يبطلون العقد بالباعث السيئ، أو الخبيث.‏
جاء في المختصر النافع في فقه الإمامية ص (146) ويصح أن يبتاع ما باعه نسيئة قبل الأجل بزيادة ‏ونقصان بجنس الثمن وغيره، حالاً ومؤجلاً إذا لم يشترط ذلك. وفي الاتجاه الجديد منع الإمام ‏الخميني في البيع والعلامة باقر الصدر كلّ بيع يتخذ في الظاهر سبيلاً للربا.‏
رابعاً: العرف:‏
العرف: هو ما اعاده الناس وساروا عليه من كلّ فعل شاع بينهم، أو لفظ تعارفوا إطلاقه على معنى ‏خاص لا تألفه اللغة، ولا يتبادر غيره عند سماعه، وهو بمعنى العادة الجماعية. وقد شمل هذا التعريف ‏العرف العملي والعرف القولي.‏
وبعبارة أخرى: العرف: ما تعارفه الناس، وساروا عليه من قول أو فعل أو ترك، ويسمى العادة.‏
والفرق بينه وبين الإجماع: أنّه يكفي فيه سلوك الاكثرية من عوام وخواص، فهو أشبه بالسيرة، وأما ‏الإجماع فمبناه اتفاق الأمة أو مجتهديها.‏
وهو حجة في التشريع عند فقهاء السنة إذا كان عرفا صحيحاً: وهو ما تعارفه الناس دون أن يحل ‏حراماً أو يحرم حلالاً، كتقديم عربون في عقد الاستصناع، وقسمة المهر إلى مقدم ومؤخر. أما العرف ‏الفاسد فلا يعمل به، وهو ما تعارف الناس، ولكنه يحل حراماً أو يحرم حلالا، كتعارفهم أكل الربا ‏والتعامل مع المصارف الربوية بالفائدة، واختلاط النساء بالرجال في المناسبات العامة كالحفلات ‏والزفاف، والرقص والغناء المبتذل.‏
لذا قالوا: العادة محكمة، والثبات بالعرف ثابت بدليل شرعي. والمعروف عرفاً كالمشروط شرطاً وتطبيقاته كلّ ما ورد به الشرع مطلقاً، ولا ضابط له فيه ولا في اللغة، يرجع فيه إلى ‏العرف، كالحرز في السرقة، والتفرق في البيع، ووسائل تحقيق القبض في تسلم المعقود عليه أو ‏العوض.‏
والأئمة الأربعة بنوا بعض أحكامهم على أعراف زمانهم، وتتغير الأعراف بتغيير الأزمان، والوقائع ‏متجددة، والحاجة إلى معرفة حكم الله فيها مستمرة، لأن شريعة الله تخاطب الناس في كلّ ‏العصور، لذا قال الإمام علي(ع): «لم تخل الأرض من قائم لله بحجة» ورتب ‏الإمامية على هذا القول الدعوة إلى فتح باب الاجتهاد، وكذلك مجدو السنة الّذين حاربوا التقليد ‏وأعلنوا فرضية الاجتهاد، كالسيوطي في كتابه «الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في ‏كلّ عصر فرض» وكابن تيمية وابن القيم والشوكاني لكن انتقد العلامة محمّد تقي الحكيم أنّه لا موضع ‏لإطلاق وتعميمات العبارات السابقة مثل العادة محكمة ونحوها ثم صرح بأن العرف ليس أصلا قائماً ‏بذاته في مقابل الأصول، وذكر أن مجالاته ثلاثة.‏
‏1 ـ ما يستكشف منه حكم شرعي فيما لا نص فيه، مثل الاستصناع وعقد الفضولي، إذا كان عرفاً ‏عاماً يشمل مختلف الأزمنة والأمكنة، بما فيها عصر المعصومين. وهذا راجع إلى السنة فإنه يرجع ‏للعرف لمعرفة حكم الشارع، ولابد من الرجوع إليه.‏
‏2 ـ ما يرجع إلى لتشخيص بعض المفاهيم التي أوكل الشارع أمر تحديدها إلى العرف، ثمل لفظ ‏الإناء والصعيد، وأكثر مصارف الزكاة التي ذكرتها الآية المباركة، فهي عرفية ن ومنها مصرف الفقراء ‏والمساكين وفي سبيل الله. وهذا أمر يتعلق بتحديد المراد من السنة حكما أو موضوعاً.‏
‏3 ـ تحديد مراد المتكلمين، سواء أكان المتكلم هو الشارع أم غيره، ويشمل هذا الدلالات الالتزامية ‏في مراد الشارع إذا كان منشأ الدلالة الملازمات العرفية، كحكم الشارع مثلاً بطهارة الخمر إذا انقلب ‏خلاً، فهو ملازم عرفاً للحكم بطهارة جميع أطراف إنائه. ويدخل في هذا القسم تحديد مراد كلام غير ‏الشارع في أبواب الإقرارات والوصايا والشروط والأوقاف وغيرها، سواء كان العرف عاماً أو خاصاً ‏وهذا كالمجال الثاني مرجعه إلى السنة، لان الشارع أو كلّ تحديد موضوعاته إلى العرف، كما أو كلّ ‏إليه تحديد مراد المتكلمين.‏
والحق أنّه لا خلاف في حجية العرف إلاّ في التكييف بين السنة والشيعة، فالفريق الأول اعتبروه حجة ‏ودليلهم الحاجة والواقع واجتهاد الصحابة والفريق الثاني لم يسعهم إلاّ أن يعترفوا بحجية العرف ولكن ‏بإرشاد الشارع، فالكلام متقارب أو واحد في الجملة وصرح بعض علماء الأصول من أهل السنة بما ‏يتفق مع كلام الإمامية: إنّ العرف عند التحقيق ليس دليلا شرعياً مستقلاً.‏
خامساً: شرع من قبلنا:‏
وهو أحكام الشرائع التي أنزلها الله عز وجل على الأنبياء السابقين كإبراهيم وموسى وعيسى ـ عليهم ‏السلام ـ، فصارت ديناً كالحنيفية ملة إبراهيم، واليهودية شريعة موسى، والنصرانية ديانة عيسى.‏
وانقسم أهل السنة بشأن هذا المصدر فريقين. الجمهور (الحنفية والمالكية‏ والحنابلة) يرون أن ما صح من شرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخ في شريعتنا، من طريق الوحي في ‏القرآن أو السنة النبوية، لا من جهة كتبهم المبدلة، فيعمل به ما لم يرد في شرعنا خلافه، ولم يظهر ‏إنكار له؛ لأنه شرع من الشرائع التي أنزلها الله، لوم يوجد ما يدل على نسخه، فنكون مطالبين به، لقوله ‏تعالى: (أولئك الذي هداهم الله فبهداهم اقتده) وقوله سبحانه: (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة ‏إبراهيم حنيفاً).‏
وفريق الشافعية ومثلهم الأشاعرة والمعتزلة والشيعة: يرون أن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا مطلقا إلاّ ‏ما أقرته شريعتنا، لقوله تعالى: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً) ولأنه لو كان شرع ‏السابقين شرعاً لنا لكان تعلمه ونقله وحفظه من فروض الكفايات كالقرآن والأخبار النبوية، ولرجع ‏الصحابة إليها في مواضع اختلافهم حيث أشكل عليهم، كمسألة العول، وميراث الجدة، والمفوضة ن ‏وبيع أم الولد، وحد الشرب، ربا النسيئة، ومتعة النساء، ودية الجنين، وحكم المكاتب إذا كان عليه ‏شيء من النجوم، والرد بالعيب بعد الوطء، والتقاء الختانين، وغير ذلك من أحكام تقررها الأديان ‏والكتب، ولم ينقل عنهم مراجعة التوارة، ولا يجوز القياس إلاّ بعد اليأس من الكتاب.‏
ويمكن التوفيق بين الرأيين بأن أدلة المثبتين تدل على أصل إمضاء الشرائع السابقة واقرارها دون ‏الأخذ بظواهرها جميعاً وإذا أقرت شيعتنا أصل الشرائع كانت حجة وعلينا اتباعها على كلّ حال، لكن ‏الكتب المتداولة عند اليهود والنصارى ليست حجة بالنسبة الينا لتحريفها، وهذا متفق عليه.‏
‏ولدى التحقيق تبين أن شرع من قبلنا ليس دليلا مستقلاً من أدلة التشريع، وإنّما مردود إلى الكتاب ‏أو السنة، لأنه لا يعمل به إلاّ إذا قصه الله تعالى أو رسوله(ص) من غير إنكار أو ‏تصريح بالقبول، ولم يرد في شرعنا ما يدل على نسخه، والسكوت عنه لدى جماعة المثبتين في قوة ‏الإقرار في مجال التشريع.‏
وقرر جماعة من الأصوليين كإمام الحرمين الجويني والمازري والماوردي والشوكاني أنّه لا فائدة ‏عملية ولا ثمرة للخلاف بالنسبة إلينا، بل يجري مجرى التواريخ المنقولة.‏
سادساً: مذهب الصحابي:‏
قول الصحابي أو مذهبه: هو الاجتهاد الصادر عنه قولاً أو سلوكا من غي معرفة مستند له. وفي ‏حجيته أقوال أشهرها اتجاهان:‏
اتجاه الجمهور (الحنفية والمالكية والحنابلة): أنّه حجة شرعية مقدمة على القياس، لما ورد في شأن ‏الصحابة من أحاديث مثل: «اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكرو عمر».‏
‏«عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي».‏
ولان احتمال سماعهم عن النبي(ص) قائم، ولأن اجتهادهم أقرب للإصابة في الرأي ‏ببركة صحبة النبي، واطلاعهم على أسرار التشريع وأحوال التنزيل وأسباب نزوله، ويتميزون بالعدالة ‏والفضل في السبق للإسلام، ومناصرته، وتثبيت الدين، وفهم مراميه ومقاصده العامة والخاصة.‏
واتجاه الشافعية وجمهور الأشاعرة والمعتزلة والشيعة: أنّه ليس بحجة: لأن الصحابي من أهل ‏الاجتهاد، والمجتهد يجوز الخطأ أو السهو عليه، فلا يجب على التابعي المجتهد ولا من بعده العمل ‏بمذهبه، والذي يروى عنه لا يرقى إلى مرتبة الخبر المرفوع، وكان الصحابة يقرون التابعين على ‏اجتهادهم، وكان للتابعين آراء مخالفة لمذهب الصحابي، فلو كان قول الصحابي حجة على غيره، لما ‏ساغ للتابعي الاجتهاد، ولأنكر عليه الصحابي مخالفته لقوله.‏
ويلاحظ أن محل النزاع في حجية قول الصحابي هو بالنسبة لغير الصحابة وهم من بعد الصحابة من ‏التابعين ومن بعدهم، لا مجتهدة الصحابة.‏
والواقع أن مذهب الصحابي كمشرع مثل القرآن والسنة لا يقبل بحال، واما مذهبه كمجتهد فهو كبقية ‏المجتهدين، يؤخذ من قوله ويرد، فلا يكون مذهب الصحابي دليلاً شرعياً مستقلاً فيما هو مقول ‏بالاجتهاد المحض؛ لأن المجتهد يجوز عليه الخطأ، ولم يثبت أن الصحابة ألزموا غيرهم بأقوالهم. ‏ومرتبة الصحبة وان كانت شرفاً كبيراً، لا تجعل صاحبها معصوما، ولا تلازم ـ كما قال ‏الشوكاني بين فضل الصحابة وارتفاع درجتهم وعظمة شأنهم، وبين جعل كلّ واحد منهم ‏بمنزلة رسول الله(ص) في حجية قوله، والزام الناس باتباعه، فإن ذلك مما لم يأذن ‏الله به، ولا ثبت عنه فيه حرف واحد. فإن كان قول الصحابي مما لا مجال للرأي والاجتهاد فيه، بأن ‏كان قولاً يخالف القياس، فيعتبر من السنة، ولا خلاف فيه، لأنه لا محمل له الأسماع خبر فيه.‏
سابعاً: الاستصحاب:‏
الاستصحاب يعمل به إذا لم يوجد دليل آخر، قال الخوارزمي في الكافي: وهو آخر مدار الفتوى. والذي عليه أكثر متأخري الأصوليين أنّه من قبيل الأصول لا الامارات وان كان ‏يختلف عنها من بعض الجهات.‏
وتعريفه عند الأصوليين: هو الحكم بثبوت أمر أو نفيه في الزمان الحاضر أو المستقبل، بناء ‏على ثبوته أو عدمه في الزمان الماضي، لعدم قيام الدليل على تغيره. مثل أن يقال: الحكم الفلاني قد ‏كان، ولم يظن عدمه، وكل ما كان كذلك فهو مظنون البقاء؛ لان الظن حجة متبعة في الشرعيات ‏كاستدلال الشافعية على أن الخارج من غير السبيلين لا ينقض الوضوء: بأن الشخص كان على ‏الوضوء قبل خروجه إجماعا، فيبقى على ما كان عليه.‏
وعرفه الأستاذ خلاف بقوله: استبقاء الحكم الذي ثبت بدليل في الماضي قائماً في الحال، حتّى يوجد ‏دليل يغيره.‏
ويسمى هذا الأصل عند متأخري الشيعة بالأصل الاحرازي، وبذلك يختلف عن الأمارة، لان الامارة ‏تحكي عن الواقع والشارع، والاستصحاب لا يقرر الواقع فعلاً، وإنّما يأمرك باعتباره واقعا.‏
وللعلماء في حجيته أقوال ثلاثة.‏
‏1 ـ مذهب أكثر المتكلمين كأبي الحسين البصري: وهو أنّه في نطاق الشرعيات ليس بحجة لان ‏الثبوت في الزمان الأول يفتقر إلى الدليل، فكذلك في الزمان الثاني، لأنه يجوز أن يكون هناك دليل وألا يكون، أما الحسيات فتجري على أساس الاستصحاب بإجراء الله ‏العادة فيها.‏
‏2 ـ مذهب أكثر المتأخرين من الحنفية: وهو أن الاستصحاب حجة للدفع والنفي لا للإثبات ‏والاستحقاق، أي أنّه حجة لدفع ما يخالف الأمر الثابت بالاستصحاب، وليس هو حجة على إثبات ‏أمر لم يقم الدليل على ثبوته فهو يصلح لأن يدفع به من ادعى تغير الحال، لا بقاء الأمر على ما كان، ‏أي أن الاستصحاب لا يثبت به إلاّ الحقوق السلبية بمعنى بقاء الحقوق المررة الثابتة من قبل، دون ‏إثبات حكم جديد، فالاستصحاب لبراءة ذمة ليس بحجة لبراءتها حقاً، بل يصلح فقط لمدافعة الخصم ‏الذي يدعي شغل هذه الذمة، بدون دليل يثبت دعواه.‏
‏3 ـ مذهب أكثر العلماء وهم المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية: وهو أن الاستصحاب حجة ‏مطلقا لتقرير الحكم الثابت، حتّى يقوم الدليل على تغييره، أي أنّه يثبت الحقين الايجابي والسلبي ما ‏دام لم يقم دليل مانع من الاستمرار. وثمرة الخلاف بين هذا المذهب والمذهب الثاني تظهر في المفقود، ‏فإنه في المذهب الثالث يتلقى خلوفاً ايجابيةً من غيره، فيرث من قريبه، وتثبت له الوصايا، استصحاباً ‏لحياته، وتظل على ملكيته الحقوق التي كانت قبل فقده. وهذا هو الجانب السلبي، فهو يرث ولا ‏يورث، وعند الحنفية لا يثبت له الارث والوصية من غيره، فلا يرث ولا يورث.‏
وللشعية الإمامية تفصيلات كثيرة في أقسام الاستصحاب، مفادها أنّه معتبر عندهم في الجملة أن ‏توافرت فيه أركان سبعة مستفادة من تعريفه9 وهي اليقين، والشك، ووحدة المتعلق فيهما، ووحدة ‏القضية المتيقنة والقضية المشكوكة في جميع الجهات (أي اتحاد الموضوع والمحمول والنسبة والحمل ‏والرتبة) واتصال زمان الشك بزمان اليقين (أي ألا يتخلل بينهما فاصل من يقين آخر) وسبق اليقين على الشك.‏
فيكون الاستصحاب حجة عند أكثر العلماء من السنة والشيعة؛ لان ما فطر عليه الناس وجرى به ‏عرفهم في عقودهم وتصرفاتهم ومعاملاتهم أنهم إذا تحققوا من وجود أمر، غلب على ظنهم بقاؤه ‏موجوداً، حتّى يثبت لهم عدمه، وإذا تحققوا من عدم أمر، غلب على ظنهم بقاؤه معدوما، حتّى يثبت ‏لهم جوده.‏
قال العلامة محمّد تقي الحكيم: والذي يبدو لي أن الاستصحاب من الظواهر الاجتماعية العامة ‏التي ولدت مع المجتمعات ودرجت معها، وستبقى ـ ما دامت المجتمعات ـ ضمانة لحفظ نظامها ‏واستقامتها، ولو قدر للمجتمعات أن ترفع يدها عن الاستصحاب لما استقام نظامها بحال.‏
وفرع العلماء على الاستصحاب المبادئ الشرعية الكلية التالية. وهي: «الأصل بقاء ما كان ‏على ما كان، حتّى يثبت ما يغيره» و«الأصل في الأشياء الإباحة» و«الأصل في الذمة البراءة من ‏التكاليف والحقوق» وهو استصحاب البراءة، و«اليقين لايزول بالشك» أي لا يرفع حكمه بالتردد، ‏لكن الإمام مالك لا يجيز الصلاة مع الشك بالطهارة، ويوجب الوضوء؛ لأن وإن كان الأصل بقاء ‏الطهارة فإن الأصل أيضا بقاء الصلاة في ذمته.‏
الخلاصة:‏
يتبين مما تقدم أن هناك جسور التقاء كثيرة بين المذاهب الإسلاميّة من سنة وشيعة سواء في مجال ‏المصادر أو في مجال التفريعات أو الفروع والتطبيقات الفقهية، مما يدل على وحدة الأمة الإسلاميّة، وإمكان توحيدها في كلّ زمان ومكان، ما دام المصدران الأصليان ‏وهما الكتاب والسنة أساس التشريع.‏
والخلاف الفقهي بين هذه المذاهب ليس خلافا جوهرياً يمنع من إمكان التلاقي، وإنّما هو خلاف في ‏الفروع التي لا تضر، ما دام منشؤها الاجتهاد.‏
والأسس والمصادر الاجتهادية المشتركة ـ كما تقدم ـ كثيرة وواضحة، كلّ ما في الأمر الاختلاف في ‏العناوين والأسماء أما في الواقع أو النتيجة فالكل يؤيد بعضهم بعضا من حيث لا يدري، والعبرة عادة ‏بالنتائج. وقد تبين لدينا أن العقل المصدر الثالث عند الشيعة الإمامية يوازي المقرر عند فقهاء السنة ‏من المصادر التبعية للتشريع التي هي في الواقع قواعد كلية ولا تصلح أدلة مستقلة في مواجهة الكتاب ‏والسنة.‏
ويلاحظ أن بعض المصادر الأصلية والمصادر التبعية قسمان؛ قسم يعتمد على النقل وهو مذهب ‏الصحابي وشرع من قبلنا والعرف، وقسم يعتمد على العقل وهو القياس وهو مذهب الصحابي وشرع ‏من قبلنا والعرف، وقسم يعتمد على العقل وهو القياس والاستحسان والاستصلاح وسد الذرائع ‏والاستصحاب. أما الإجماع فالسابق منه يعتمد على النقل عن المجمعين، والإجماع الذي يراد عقده ‏يعتمد على العقل والنقل معا؛ لأنه يحتاج إلى معرفة مستند الإجماع، وبذل أقصى الجهد في تتبع كلّ ما ‏له صلة بالمسألة التي يراد الإجماع عليها.‏
ولم أتحدث عن مجال البراءة الأصلية (وهو استواء الفعل والترك في حكم الشريعة) وما قد يلجأ إليه ‏فقهاً من القرعة والاستخارة، كما لم أتحدث عن الاحتياط الشرعية والعقلي، لقلة الكلام والخلاف في ‏شأنهما.‏
تمت
المصدر: الموقع الإلکتروني لمجمع التقریب بین المذاهب الإسلامیة