الباحث : أ. محمد نوري
ترجمة: علي آل دهر الجزائري
لقد سبق اثنان من بين متكلمي الشيعة وهما مهدي بن محمد النجفي الأصفهاني (المولود في 1298 هـ)، ومحمد أبو المجد الأصفهاني (1278ـ1361هـ ) لنقد ومناقشة نظرية التكامل. فقد تصدى الأصفهاني في كتاب (المرتفق) لنقد وتحليل الدارونية. وأمّا أبو المجد الأصفهاني فحرر كتاباً مستقلاً بمجلدين عنوانه (نقد فلسفة دارون). وذكر صاحب الذريعة كاتباً باسم اقا رضا الأصفهاني، وقال: إنه ألّفَ هذا الكتاب في عهد الشباب، حيث انتشرت نظرية دارون في إيران. وكتب جميل صدقي الزهاوي الفيلسوف والأديب الكردي نقداً عليه، مما حدى بأبي المجد الأصفهاني على تدوين (القول الجميل إلى صديقي الجميل ) كإجابة وردٍّ على الرد.
وكان عالم الأحياء الإنجليزي جارلز دارون (1809 ـ 1882م ) قد توصل إلى نظرية التكامل التدريجي والطبيعي للأحياء بعد دراسات كثيرة، وألّفَ عدة كتب مهمة أولها وأهمها كتاب (منشأ الأنواع ). وقد أحدثت نظريته تحولاً في الطبيعيات وبتبعها في علم الأجناس البشرية (الأنثروبولوجيا=Anthropology)، وحتى في علم الكلام والأخلاق. مما شكل تحدّياً جديّاً للنظريات السابقة، ولم تتعرض نظرية التكامل للتعاليم المسيحية فحسب، بل أرغمت علماء ومتكلمي المسلمين على التفكير والتأمل.
ورغم أن دارون نفسه كان يرفض تهمة الإلحاد وإنكار الدين، ولم يكن يعتقد بالتعارض والتنافي بين كشوفاته العلمية والدين. لكن، الفهم العام للمتكلمين هو تعارضها مع الدين، ولهذا تصدّوا لنقودها وتفنيدها.
*أما تاريخ تعرّف المسلمين على هذه النظرية ودخولها العالم الإسلامي، فهو باختصار كالآتي:
الإيرانيون ومنذ عهد أمير كبير وتأسيس دار الفنون تعرّفوا بالتدريج على العلم والفلسفة الغربية. وقد ترجمت بعض كتب الغرب العلمية إلى الفارسية، فمثلاً ترجم أميل برنه، والعازار رحيم موسائي الهمداني المشهور بـ(لاله زار نو) كتاب (مقال في المنهج ) لديكارت بعنوان (حكمت ناصري ) أو (كتاب ديكارت)، وطُبع عام 1279 هـ. وأورد الميرزا تقي خان الأنصاري الكاشاني الأُستاذ في دار الفنون شيئاً من آراء دارون في كتاب (جانور نامه =الأحياء) الذي كان منهجا دراسياً في تلك المدرسة، وذلك عام 1278هـ، أي بعد نشر كتاب (أصل الأنواع بناءً على الانتخاب الطبيعي) بقليل. وترجم علي بخش قاجار (كتاب ليودور) أو (الكتاب الذهبي) تحت عنوان (أسرار الوجود) وذلك عام 1291. هذا الكتاب نُظّم في خمسة فصول تتحدث عن التاريخ الطبيعي واكتشافات القرن التاسع عشر الميلادي، واختص فصله الأخير بسيرة عدد من العلماء والمكتشفين الكبار.
ولا تختلف الحالة في بقية البلدان الإسلامية عن إيران، فقد ترجم إسماعيل مظهر كتاب دارون تحت عنوان (أصل الأنواع ونشوئها بالانتخاب الطبيعي) وطُبع لأول مرة في اللغة العربية ونشر في القاهرة سنة 1928، وتُرجم نفس هذا الكتاب مرتين في إيران؛ ترجمه عباس شوقي أولاً في طهران سنة 1318 بعنوان (بنياد أنواع به وسيله انتخاب طبيعي يا تنازع بقاء در عالم طبيعت = أصل الأنواع عن طريق الانتخاب الطبيعي أو تنازع البقاء في عالم الطبيعة)، وبعد ذلك ترجمه نور الدين فرهيخته بعنوان (منشأ انواع = منشأ الأنواع) ونشره في طهران سنة 1357.
*وكانت أهم الأعمال المبكرة الأُخر للباحثين العرب بهذا الترتيب:
كتب إبراهيم بن عيسى الحوراني (المسيحي) نقدين للمذهب الداروني بالمواصفات التالية:
1ـ الحق اليقين في الرد على بطل دارون، بيروت 1886 م.
2ـ مناهج الحكماء في نفي النشوء والارتقاء أي إبطال مذهب دارون، بيروت 1884م.
ولما كان شبلي الشميل من المثقفين والمروّجين للدارونية، فقد تصدّى أحد المفكرين المسيحيين اللبنانيين لنقد آرائه في كتاب وسمه بـ(أصل الإنسان والكائنات)، والذي نشره في بيروت سنة 1890 م.
وقامت مجلة المقتطف التي استهوتها البحوث الحديثة بنشر عدة مقالات لبيان وتحليل الدارونية، وإحدى هذه المقالات لمحمد صالح غنوم تحت عنوان (دارون ومذهبه عند العرب) المنشور في المجلد 35 لسنة (1909م) من تلك المجلة.
وكان محمد فريد وجدي من منتقدي هذه النظرية، وقد نشر مقالته (مذهب النشوء والارتقاء في الميزان) في مجلة نور الإسلام عدد (شوال 1352) (14).
ويشير انتشار كتابي (المرتفق) (و نقد فلسفة دارون) الناقدَيْن لدارون بعد نصف قرن من نشر كتابه الاصلي إلى اهتمام ووعي علماء الشيعة، ويحكيان عن قلقهم الإيماني.
يحتوي (المرتفق) على الأبحاث التالية: ردّ فلسفة دارون، أدلة إثبات الباري تعالى، علم النجوم الحديث ودلالة الروايات والأخبار عليه، ردّ الهيئة القديمة، الفلسفة اليونانية، أُصول الدين، ردّ المسيحية، جامعية الإسلام، الأخلاق الإسلامية، فلسفة الاحكام والإسلام، عدم التنافي بين العلم والدين وتوافقهما، أدلة أهمية الدين الإسلامي، إثبات الروح.
وقد انبرى الكاتب بعد بيان برهان النظم وإثبات الباري تعالى في ست صفحات، لنقد نظرية دارون، ويمكن القول إن الإشكال الأساسي، بل الوحيد الذي سجله مهدي الأصفهاني على نظرية دارون هو القول بأن الخلق نشأ صدفة واتفاقاً، وهذا لا ينسجم مع برهان النظم، وعبارته هي: يقول الطبيعيون إن الإنسان وُجد بنفسه، وحصلت تلك الهيئة في هذا التركيب من باب الصدفة، والحال أنهم يعلمون ويرون أن هيئة الإنسان لا توجد نفسها بنفسها بلا صانع، وكيف يكون الإنسان الذي في كل جزء منه ألف حكمة حيّرت العقول أوجد نفسه بنفسه؟ وأن الموجودات البدائية تنازعت في البقاء وبقي الاقوى منها، وأن الإنسان كان في الأصل أجزاء متفرقة واجتمع وانتظم بمرور الزمن، وأن فلسفة النشوء والارتقاء هي لدارون الإنجليزي، الذي يرى أن المادة هي أصل العالم.
و الكاتب يقع في اشتباه، وهو نسبة تكوّن عالم الطبيعة من الغاز لدارون. ونقود الأصفهاني سطحية وغير تخصصية، ومع الأخذ بنظر الاعتبار أنه لم يذكر مصادره، فانه ينقل عن دارون قائلاً: إنه يرى أن أصل العالم مادة سيّالة أخف من الهواء تسمى بالأثير، وقد ملأت الفضاء، وأجزاؤها في حركة دائمة، وليس لوجودها ولا لحركتها سبب، بل كانت صدفة، واحياناً تجتمع هذه الأجزاء مع بعضها وتكوّن أجساماً من مادة السديم، وبانجذابها إلى بعضها تتكون كرات كبيرة.
والحال أن دارون والمذهب الداروني كان بصدد نظرية التكامل الحيوي للأحياء، ولم يطرح أي نظرية حول تكون الأرض والكرات الأُخرى.
ونحن لا ندري هل أنّ الكاتب كان قد اطّلع على أصل كتاب دارون أم لا؟ سيما وأنّ كتاب دارون قد عرِّب بعد ذلك الكتاب؛ لأنّ (المرتفق) قد حُرر في 4 ربيع الأول 1313 بينما التعريب في سنة 1938، وقد وسم الكاتب دارون بالبلاهة والبلادة. وبعد عدة سنوات ظهر كتاب (نقد فلسفة دارون) بالعربية وهو أعمق وأحكم أُسلوباً من (المرتفق)، وعنوان هذا الكتاب (نقد فلسفة دارون) وطبع مرة واحدة في بغداد سنة 1331 هـ، واسم مؤلفه المثبت على الغلاف هو: أبو المجد الشيخ محمد رضا آل العلامة التقي الأصفهاني، ويبدأ الكتاب بهذه العبارة: «كُتب دارون وسائر رؤساء هذه الفلسفة عندنا غير موجودة وبلادنا عن البلاد التي نشأت فيها هذه الآراء بعيدة». وتنبئ هذه العبارة عن أنّ المصادر الأصلية للدارونية لم تكن متوفرة لديه، وكان تحليله ونقده على أساس نقول الآخرين، وهو لا يشير طبعاً إلى مصادر نقله.
يعتقد الكاتب أنّ بعض الناس اعتبروا هذه النظرية أساس التعارض مع الدين، وترويج الزندقة والإلحاد، وإنكار الشرائع؛ لكنه يرى أنّ فيها شيئاً من الحقيقة، ولا يمكن الادعاء أنّها مخالفة للدين بالمرة، ويفهم الكاتب أنّ دارون بيّن نظريته في ضوء المعطيات والبحوث العلمية، ولذا فانّ تعارضها أو توافقها مع الدين هو في الحقيقة نوع من العلاقة بين الدين والعلم، ويجب أن تناقش في ضوء قواعد حل التعارض بين العلم والدين؛ ولهذا يمكن القول إنّ هذا الكتاب من أوائل المصادر التي طرحت فكرة التعارض أو التوازي بين الدين والعلم في الثقافة الإسلامية.
*وقد رتّبت أبحاث هذا الكتاب بهذا الشكل:
المجلد الأول: ويشتمل على ثلاث مقالات: الإسلام والدارونية، تطور الأحياء، تنازع البقاء والانتخاب الطبيعي.
ويحتوي المجلد الثاني على بحثين: أدلة إثبات الباري تعالى ونظرية التكامل، وفائدة الدين والدفاع عنه.
وفي مطلع المجلد الأول بحث المؤلف وقارن في مقدمة طويلة دخول الآراء العلمية والفلسفية لليونان في الماضي، ودخول الأفكار العلمية الجديدة من الغرب إلى العالم الإسلامي، وشرح تأثيرات العلوم الجديدة على المسلمين.
وفي المقالة الأُولى من المجلد الأول يرى الكاتب أنّ نظرية التكامل تعارض بعض التعاليم الدينية في بعض المسائل كمعرفة الإنسان دينياً لا في جميع المعارف والتعاليم. وهو يعتقد أنّ هذه النظرية لا تعارض المعارف الدينية في معرفة الله تعالى. وقد ذكر بالتفصيل شارحاً تصريحات العلماء الذين يقبلون هذه النظرية ويقولون إنّ الله تعالى موجود. وتحليلات الكاتب في هذا البحث الناظرة إلى درء تعارض العلم والدين مفيدة وتستحق المطالعة. وتنصب جهود المؤلف على مناقشة التحول و التطور في الكائنات الأولية إلى الأحياء إلى أن تصل إلى القرد والإنسان ومخالفة أو موافقة ذلك لتعاليم الإسلام.
وفي المقالة الثانية وضّح تنازع بقاء الأحياء والانتخاب الطبيعي في دوامة تنازع البقاء. ويرى المؤلف أنّ معرفة الإنسان في ضوء المذهب الداروني لا يتناسب مع شأن وكرامة الإنسان.
وفي المقالة الأُولى من المجلد الثاني يشرح المؤلف النتائج الكلاميةلنظرية التكامل في بحث معرفة الله. وفي المقالة الثانية طرح ضرورة الدين وفوائده للبشرية.
وتحكي هذه المؤلفات اهتمام علماء ومفكري المسلمين بالأبحاث الجديدة، وتعبر عن قدرة الكلام الإسلامي وقابليته على تحليل الموضوعات الجديدة في العصر الحديث.
إنّ تعارض وتوازي العلم والدين لم يكن همّاً شغل ذهن الغرب فقط، بل دفع بعض مفكري العالم الإسلامي إلى التأمل والكتابة، وقد دونت بعض المؤلفات الجيدة منذ ما يربو على قرن من الزمان. وليست المسائل الدينية والمعضلات الإيمانية للجيل الجديد مرهونة بمباحث الصورة والهيولى ونظائرها من المسائل البعيدة عن الحياة الدينية، بل هي ذلك القلق الذهني والشبهات الجديدة التي واجهت الدين بعد عصر النهضة، ولا سيما في القرنين الأخيرين، ولذا فإنّ هكذا مؤلفات ستكون دليلاً لمعالجة معضلات الجيل المعاصر.
المصدر: مجلة المنهاج، العدد: 48، السنة: السنة الثانية عشر شتاء 1429هجـ 2008 م