من الأمور الجديرة بالبحث والتحقيق والمطالعة والتنقيب، معرفة ودراسة الجذور الفكرية للإرهاب المعاصر الشاذّ عن الإنسانية والخلقة السليمة، لما في ذلك الأثر البالغ لمعرفة الحقيقة والتعمّق في مزاج الفكر التطرّفي، لكشف القناع والستار عن آرائه ومتبنيّاته، وفهم مبادئه وارتكازاته التي يقرأ من خلالها الواقع، ليبني بذلك منظومة فكريّة مُؤسَّسة على أساس تكفير الآخر وفساد معتقداته وأنّه على الباطل لا محالة، ولا يرى إثبات هذه الفكرة وما توصل إليه لتطبيقها في الخارج، إلا من خلال إفناء وإعدام الرأي الآخر، وتصفيته والنيل منه بلغ ما بلغ.
وهذه الدراسة في واقع الأمر تربط بين الجانب الثبوتي وبين الجانب الإثباتي، ومن هنا ستكون الحيويّة والفاعليّة في قراءة الفكر الإسلامي، وخروج التنظير والتقنين من لباسه وثوبه العقلي والفكري إلى المبدأ الخارجي والعملي.
ومع التأمّل نجد بأنّ معظم الأسباب والعوامل التي جُعِلت كمحرك، وباعث للطرف المقابل لاتخاذ هذا الأسلوب وهذه الكيفية المنبوذة -وبنسبة كبيرة جداً- هي أسباب وعوامل عقائدية وفكرية.
ولم تكن المدرسة المُواجِهة والمتبنيّة لهذه العقيدة، عالمة ومنصفة بأركان الفكر الثقافي والمعرفي للطرف الآخر الذي له كيانه ووجوده.
فكما أنّ صاحب المدرسة التكفيرية المتشددة ينطلق في أعماله وخططه من بناء فكري وعقدي، يعتقد بصحتها ومطابقتها للتشريعات والتعاليم التي يؤمن بها، كذلك الآخر الذي يكون إقصائه ومواجهته بأشد أنواع التعذيب والترهيب، يمتلك مباني فكرية ودينية تحتّم عليه إما السكوت أو الردّ، حسب الموقف والقناعة الدينية، والإنسانية التي ينطلق منهما ويُذْعِن بأحقيتهما.
ومن الأخطاء الجسيمة والفادحة الحكم على المدارس الأخرى، والقناعات المباينة من دون التعمق في مدارسها السلوكية وبنيتها العلمية، مضافاً إلى عدم فهم الإسلام بصورة صحيحة ومنطقية، وبيانه على أنّه دين بعيد عن الواقع الإنساني الملائم والمتاخم للرفق والإحسان، أوصل تلك الجماعات إلى هذا المأزق وهذه الإشكالية. فأصبحت هذه الفئة تصوّر للعالم والمجتمعات، من خلال تصرفاتها وأعمالها بأنّ الإسلام دين القتل والعنف، وقطع الرؤوس وأكل الأكباد والتمثيل بالأجساد والأبدان، وما إلى ذلك من ممارسات، يندى لها الجبين، ويكون ضحيتها المسكين الذي لا ناصر له ولا معين.
ومن خلال المشاهد الأخيرة في العالم الإسلامي والمعاصر، نجد أنّ القراءة الناقصة لمدرسة الإسلام الأصيل والازدواجية في تقييم الصحيح من السقيم والحق من الباطل، هي السبب الرئيس والعلة التامة في إرباك الساحة الاجتماعية والبشرية، مع ملاحظة وعدم خفاء أنّ الإرهاب في فترة من الفترات، صار هدفاً وغرضاً لقوى الكفر والإلحاد في المجتمعات الأوربية والغربية أيضاً التي انطلقت من البعد العرقي فيما بينها تارة، فانتشرت فتنة العرق الأبيض والأسود، والطائفي أخرى مع الديانة الإسلامية والمسلمين، من خلال التعدّي على المقدّسات والأرواح بالقتل والحرق وما شابه، ولم تستمر هذه الفتنة كثيراً، إلى أن جاءت الموجة العارمة والعاصفة الشديدة، والتي مثّلت العنف بين أصحاب المدرسة الواحدة وهي فتنةٌ وطْأتها أشدّ من الأولى، وتبيّن لمن هو خارج عن الغطاء الداخلي من قبيل الديانات الأخرى كاليهودية والمسيحية وغيرهما، عدم وجود الحصانة والضمان بين أبناء الجِلدة الواحدة -وأنّ هذا الصراع يبيّن عدم اتقان المنهجية الإسلامية في رسم ضوابط الإصلاح حينما يقع الاختلاف في الفكر والعقيدة- مما يعود بالسلب عليه كما ستقرأه تلك المناهج، وعدم صلاحيته لإدارة البشر والمجتمع.
وجاءت هذه الأفكار والقناعات لتلك الفئة انطلاقاً، من بعض عقائد المدرسة الثانية وهي مدرسة شيعة أهل البيت(ع)، وأنّ هذه المفردات العبادية هي التي ترسم شخصية الفرد الشيعي روحياً وعبادياً -من قبيل زيارة القبور والتوسل بالصالحين والاعتقاد بالشفاعة وغير ذلك- تصيّره فرداً كافراً أو مرتداً، وبالتّالي: إذا تحقق الموضوع وأُحْرِز، صار الحكم واضحاً وفعلياً، وثبت عن طريقه (كفر تلك الفئة، وخروجهم عن الإسلام)، مما يعني وجود المسوّغ الفقهي الواضح للمدرسة الإسلامية الإقصائية -التي تدّعي فهم الإسلام ومعالمه- للقضاء على كلّ من يتبنّى تلك العقيدة أو يروّج لها، والتعامل معه دقيقاً كالتعامل مع الكفار والمشركين، بأنّ تسفك دماؤهم، ولا تُراعى أعراضهم، وتستحل حرماتهم، وإن شهدوا واعتقدوا بالله سبحانه، وبنبيه محمد(ص)، وقالوا: (نشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله)، إلا أنّ هذه الشهادة كاذبة وصورية، ولم تتعد الجوارح وعالم اللسان، وبتعبير القرآن: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ)، وعليه: فآيات الجهاد المذكورة في القرآن، والتي فيها حثٌّ على مقاتلة المشركين والكفار، ليسوا من مصاديقها الحصرية كفار أهل الكتاب والمشركين، بل حتى بعض المدارس الأخرى الإسلامية لهم نفس الحكم، بملاك عقائدهم الضالة التي صيّرتهم كذلك.
ومع التحقيق في كتب المدرسة التكفيرية تجد كلماتهم الشنيعة في حقّ الشيعة، وستعرف حينئذٍ منشأ الحقد لأتباعهم ومن يسير حذوهم على أصحاب العقائد الأخرى وكيف تشبَّعوا، وأُشْبِعوا بالأفكار المنحرفة، بغية بغضهم وتحاملهم الشديد والعنيف على من يخالفهم في الجزئيات والمفردات، التي تكون مورداً لقبول الآخرين، كمدرسة شيعة أهل البيت(ع)، وإليك بعض كلماتهم:
وهذا حال من قاتل المرتدين، وأولهم الصديق ومن اتبعه إلى يوم القيامة، فهم الذين جاهدوا المرتدين كأصحاب مسيلمة الكذاب، ومانعي الزكاة وغيرهما، وهم الذين فتحوا الأمصار وغلبوا فارس والروم، وكانوا أزهد الناس، كما قال عبد الله بن مسعود لأصحابه أنتم أكثر صلاة وصياماً من أصحاب محمد، وهم كانوا خيراً منكم قالوا: لِم يا أبا عبد الرحمن قال: لأنّهم كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة، فهؤلاء هم الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم، بخلاف الرافضة فإنّهم أشدّ الناس خوفاً من لوم اللائم ومن عدوّهم وهم كما قال تعالى: (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ).
إذاً، الرافضة وهم الشيعة، أعداء للدين الإسلامي، فيجب مقاتلتهم والوقوف أمامهم، وحالهم حال المنافقين في صدر الإسلام، الذين يحسبون كل صيحة عليهم.
وفي مقطع آخر: (وأما من دخل في غلو الشيعة كالإسماعيلية، الذين يقولون بإلهيّة الحاكم ونحوه من أئمتهم، ويقولون: إنّ محمد بن إسماعيل نسخ شريعة محمد بن عبد الله، وغير ذلك من مقالات الغالية من الرافضة، فهؤلاء شرّ من أكثر الكفار من اليهود والنصارى والمشركين وهم ينتسبون إلى الشيعة يتظاهرون بمذاهبهم).
وقال أيضاً: (وإنّما يخالف في ذلك الغالية من الرافضة، وأشباه الرافضة من الغالية في بعض المشايخ ومن يعتقدون أنّه من الأولياء، فالرافضة تزعم أنّ الإثني عشر إماماً معصومون من الخطأ والذنب، ويرونه من أصول دينهم، والغالية في المشايخ قد يقولون: إنّ الولي محفوظ والنبيّ معصوم، وكثير منهم إن لم يقل ذلك بلسانه، وقد بلغ الغلو بالطائفتين إلى أن يجعلوا بعض من غلوا فيه بمنزلة النبيّ وأفضل منه، وإن زاد الأمر جعلوا له نوعاً من الإلهية وكل هذا من الضلالات الجاهلية المضاهية للضلالات النصرانية، فإنّ في النصارى من الغلو في المسيح والأحبار والرهبان، ما ذمّهم الله عليه في القرآن، وجعل ذلك عبرة لنا لئلا نسلك سبيلهم، ولهذا قال سيّد ولد آدم: لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنّما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله).
هل اكتفى علماء تلك المدرسة برمي الآخر بالفهم الخاطئ، بلحاظ معتقداته وسلوكياته أم أنّ هناك مبالغات في تصوير بعض الأمور التي لا صحة لها على أرض الواقع، من قبيل كلام ابن القيم الجوزية حينما قال: (وكذلك الرافضة ينقمون على أهل السنة محبتهم للصحابة جميعهم وترضّيهم عنهم وولايتهم إياهم، وتقديم من قدمه رسول اللله(ص) منهم وتنزيلهم منازلهم التي أنزلهم الله ورسوله بها).
فإن كان مراده من النقمة -كما يفهم ذلك من القرائن- هو تكفير أهل السنة أو قل بغضهم والحقد عليهم كما هو حال المدارس الإقصائية التي تكفّر وتتخذ المواقف التكفيرية سريعاً بسبب محبّتهم واعتقادهم في الصحابة، فهذا فهم خاطئ ولا يُصار إليه، بل يُكذّبه الوجدان قبل البرهان، وأما إن كان المقصود الموقف العلمي والتحقيقي لمدرسة أهل البيتi, فهذا أمر خاضع للموازين العلمية، وأنّ هذه المدرسة لا تعتقد بعدالة الصحابة كلّهم؛ أي على نحو الموجبة الكلية، ولهم على إثبات ذلك أدلّة وبراهين معتمدة ومحكمة تُطلب من محلّها.
وبالتالي لا ينبغي تصوير هذا الخلاف العلمي والمدرسي، على أنّه صراع ونزاع اجتماعي بأن يُبيّن فيه الاختلاف في مقام النظريات بألفاظ فيها حزازة واشمئزاز تكشف عن حالة نفسية، كما عبّر وقال: (كذلك الرافضة ينقمون). ولذا أشرنا في السابق إلى أنّ هذه الأفكار والمتبنيّات التي صِيغت بصياغات علمية -كما يُدّعى- وبراهين مقلوبة هي أساس الإرهاب المعاصر، ولولا تنظير النخبة العلمائية وبيانها للمدارس المقابلة على أنّها مدارس انحرافية وباطلة، لما تأثرت الطبقة العادية، وهي الطبقة التي تأخذ تعاليمها من علمائها ومربّيها بهذه الأفكار.
فإذا كانت الشيعة مثلاً تعتقد بعقيدة معيّنة، كعقيدة الإمام الغائب والمنتظر وغيرها من العقائد مثلاً، فهل هناك مبرر ومسوغ لتسخيف هذه الفكرة والعقيدة، ورميها بالأباطيل والترّهات، ومن ثمّ يتطور الأمر إلى الحروب الطائفيّة وغير ذلك؟!
هذه هي المشكلة الكبيرة التي تحتاج لإمعان في الأنظار والسلوكيات الأخلاقية والقلبية فإذا كان العَالِم المُنظِّر للمدرسة الإسلامية، هو صاحب فكر إقصائي وصاحب تسخيف لعقول المدارس الأخرى، فهل تتوقع حينئذٍ من المتبوع والرعية الحكمة والتعامل الحسن مع أصحاب المعتقدات والمذاهب؟! مع أنّ هذا مخالف مخالفةً صريحة لسلوكيات النبي| وسيرته العملية، في تعامله مع أصحاب الديانات الأخرى والعقائد الباطلة، منذ أن أقام في مكة المكرمة، إلى أن هاجر إلى المدينة؛ لتأسيس أركان الإسلام والحال أنّ تلك الجماعات تدعي أنّها تطبّق سيرة الرسول، وسننه الكريمة!!
ولذا تكفير بعض الطوائف الإسلامية انطلق من ملاحظة عقائدهم، وصارت القراءات السطحيّة وغير العلميّة لمتبنّياتهم هي حالة الحكم النهائي، إلى أن تم الوصول إلى النتائج الفاسدة، وهو أمر طبيعي جداً ولا غرابة فيه، حيث إنّ المقدمات الفاسدة تُوصِل إلى نتائج فاسدة، مما جعل بعضهم يُفتي بقتل الشيعة وهدر دمائهم بشكل واضح وصريح، والتّاريخ يحدّثنا ما حصل في مدينة حلب، حيث أفتى الشيخ نوح الحنفي بكفر الشيعة واستباحة دمائهم وأموالهم، تابوا أو لم يتوبوا، فزحفوا على شيعة حلب وأبادوا منهم أربعين ألفاً أو يزيدون، وانتهبت أموالهم وأخرج الباقون منهم من ديارهم، وأما ما يجري اليوم في الدول العربية والإسلامية هو بعينه ما حصل لأهل حلب وغيرهم، والتاريخ يعيد نفسه، مع بشاعة في منظر القتل والفتك.
والعجيب الملفت في ذلك أنّ الّذي قام بتكفير بعض المدارس الإسلامية، اتُخِذت اتجاهه مواقف علمية، أوصلته إلى حدّ الانحراف والضلال، من قِبل بعض الاتجاهات التي يشترك معها في الانتماء، فجاء في بعض المقالات -حيث كان الكلام عن فرع من الفروع الفقهية-: (ولا اعتبار بما قالته طائفة من الشيعة والظاهرية، من وقوع واحدة فقط، وإن اختاره من المتأخرين من لا يعبأ به، واقتدى به من أضله الله، قال السبكي وابتدع بعض أهل زماننا أي: ابن تيمية، ومن ثم قال العز بن جماعة إنّه ضال مضل).
ونقل الدسوقي أيضاً في حاشيته بما يخص المورد المتقدم: (ونقل ابن عبد البر وغيره الإجماع على لزوم الثلاث في حق من أوقعها، وحكى في الارتشاف عن بعض المبتدعة أنّه إنّما يلزمه واحدة، ونقل أبو الحسن عن ابن العربي أنّه قال: ما ذبحت بيدي ديكاً قط ولو وجدت من يردّ المطلقة ثلاثاً لذبحته بيدي، وهذا منه مبالغة في الزجر عنه اهـ. وقد اشتهر هذا القول عن ابن تيمية، قال بعض أئمة الشافعية: ابن تيمية ضالّ مضلّ لأنّه خرق الإجماع وسلك مسلك الابتداع وبعض الفسقة نسبه للإمام أشهب لأجل أن يضلّ به الناس، وقد كذب وافترى على هذا الإمام، لما علمت من أنّ ابن عبد البر وهو الإمام المحيط قد نقل الإجماع على لزوم الثلاث، وأنّ صاحب الارتشاف نقل لزوم الواحدة عن بعض المبتدعة).
ووقع الكلام أيضاً في إهداء الثواب للنبي| من خلال القراءة، وجاء النقض على أحد أكابر هذه المدرسة، وإليك نصّ ما نُقِل: (ذكر ابن حجر في الفتاوى الفقهية أنّ الحافظ ابن تيمية زعم منع إهداء ثواب القراءة للنبيّ لأنّ جنابه الرفيع لا يتجرأ عليه إلا بما أذن فيه، وهو الصلاة عليه وسؤال الوسيلة له.
قال: وبالغ السبكي وغيره في الردّ عليه، بأنّ مثل ذلك لا يحتاج إلى إذن خاصّ، ألا ترى أنّ ابن عمر كان يعتمر عنه| عمراً بعد موته من غير وصيّة، وحج ابن الموّفق وهو في طبقة الجنيد عنه سبعين حجة، وختم ابن السراج عنه| أكثر من عشرة آلاف ختمة وضحّى عنه مثل ذلك.
قلت: رأيت نحو ذلك بخطّ مفتي الحنفية الشهاب أحمد بن الشلبي شيخ صاحب البحر عن شرح الطيبة للنويري، ومن جملة ما نقله أن ابن عقيل من الحنابلة قال: يستحبّ إهداؤها له.
قلت: وقول علمائنا له أن يجعل ثواب عمله لغيره يدخل فيه النبی(ص)، فإنّه أحق بذلك حيث أنقذنا من الضلالة، ففي ذلك نوع شكر وإسداء جميل له، والكامل قابل لزيادة الكمال وما استدل به بعض المانعين من أنّه تحصيل الحاصل؛ لأنّ جميع أعمال أمّته في ميزانه، يجاب عنه بأنّه لا مانع من ذلك، فإنّ الله تعالى أخبرنا بأنّه صلّى عليه، ثم أمرنا بالصلاة عليه، بأن نقول: اللهم صلّ على محمّد).
الخلاصة: نفس المدرسة التابعة للصحابة، وقعت بينهم نزاعات علمية، واختلافات فكرية بل وصل الحال ببعضهم إلى رمي العلماء الذين ينتسبون إلى نفس المدرسة بالضلال والانحراف، كما قرأنا قبل قليل كلمات بعض أعلام المدارس السنيّة في حقّ ابن تيميه. وينبغي ختم هذا البحث ببيان مهم حاصله: إنّ القناعات والأفكار خاضعة للموازين العلمية والمعايير الدقيقة، ولا ينبغي التمسّك بالمنطق الفرعوني الذي فيه نمط الاستعلاء والتكبّر، وأنّ الأغراض لا تتحقق إلا بالعنف والقتل.
كما يحدثنا القرآن عن السحرة الذين آمنوا برب العالمين، فهددهم بالقتل والتصفية، كما هو حال الجماعات الإرهابية والتكفيرية في عالمنا، حيث يدَّعون الإسلام ظاهراً، إلا أنّ روح دعواهم هي الروح الفرعونية المتمرّدة على التعاليم الإلهية، (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ * قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ)، فما طلبه فرعون من أولئك، هو ما يطلبه إرهابيو العصر لكن مع اختلاف في العنوان واللغة ففرعون قال لهم: كيف تؤمنون قبل أن آذَن لكم، والحال أنّ الإيمان من مقولات الجوانح ولا داعي لتحققها وإنشائها لإذن الآدميين، فكذلك في زماننا حيث إنّهم لا يرتضون عقائد الآخرين، بمعنى: أننا لم نأذن لكم حتى تعتقدوا وتؤمنوا بهذه الأمور والمعتقدات فتأمل.
والنموذج الآخر هو خطاب القرآن الذي بيَّن استبداد اليهود والنصارى، وأنّهم يدّعون المركزيّة في الفهم الديني والعقدي، وهم المحور والميزان في التخطئة والصواب، ولا بدّ للجميع من أن يخضعوا لآرائهم ومعتقداتهم، ولخطورة هذا الفكر نبَّه الله نبيه الخاتم(ص) بقوله: (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)، والكلام هو الكلام، فلن ترضى عنك المنظمات الإرهابية والمتطرفة، إلا إذا اتبعتهم ولنت لهم.
وفي الأخير: اتضح لنا أنّ جذور الإرهاب المعاصر، يكمن في عدم فهم البعد الديني والعقدي للطوائف الأخرى، والقراءة الفاسدة والمضمحلّة البعيدة عن العلم والحِكمة لمعتقدات الآخرين.
*الخاتمة
وهذه مجموعة من النتائج أذكرها على نحو الاختصار:
1- تبيّن من خلال هذا البحث، أنّ موضوع (الجهاد والإرهاب) ليس موضوعاً فقهياً وفكرياً بحتاً، بل هناك جوانب تاريخية مهمة تبين حقيقتهما ومنشأهما؛ بحيث يعرف الباحث والكاتب مبدأ هاتين القضيتين، ليرتبط بعد ذلك بالبيئة المعاصرة والحديثة، وهذه دلالة على أنّ دراسة (الجهاد والإرهاب لا بدّ من أن تكون بصورة تحليلية وسردية للوقائع والأحداث) التي وقع فيها هاتان القضيتان.
2- اتضح أنّ منشأ الإرهاب، هو فكرة عدم تقبل الآخر ومشروعه، مع العلم تارة بالأحقية فتكون المحاربة حينئذٍ بسبب الأهواء والمطامع، أو عدم وضوح الصورة للطرف المقابل، أو دراسته بصورة ناقصة وجزئية؛ مما يشوش الفكر ويجعل اعتقاد الفرد يتمحور في فكرة حاصلها: (حتميّة حرب البقاء والوجود)؛ بمعنى أنّ وجود المنافس هو حرب وإبادة، فلا بدّ من القضاء على كيانه وفكره، وكل ما يمثله.
3- موقف الإسلام صريح وعلني بالنسبة إلى الجهاد والإرهاب، وأوامره التشريعية بخصوصهما نابع من أدبيّاته الواقعية، والمُلائَمة التكوينية التي خُلق الإنسان عليها.
4- إدراكات العقل -بخصوص الجهاد والإرهاب- قطعية وغير قابلة للتخصيص، ولا تتأثر بعوامل الزمان والمكان والوقت، ما دامت الضابطة هي (حسن العدل وقبح الظلم) وبالتالي الجهاد جهادٌ متى ما تحقق وتمت شروطه، وكذا الإرهاب، ولا دخالة لهما بعامل الزمان والوقت، مما يعني: (عدم النسبية في مفهوميهما).
5ـ عرفنا أنّ السبب الرئيسي للإرهاب المعاصر، هو الفهم المغلوط والقراءة الناقصة للطوائف الأخرى بلحاظ عقائدها وأفكارها، وأن الاقتتال الذي يحصل في زماننا، والحروب الطائفية منشأها، التحريض العلمي والعملي من النخب المتصدرة للفتاوى، والتي بيدها القرار.
المصدر: رسالة القلم، العدد 47