ذكر أهلُ السِّيَر أنّ العقيلة زينب(س) كان لها مجلس خاصّ لتفسير القرآن الكريم تحضره النساء، وليس هذا بمُستكثَر عليها، فقد نزل القرآن في بيتها، وأهلُ البيت أدرى بالذي فيه، وخليقٌ بامرأةٍ عاشت في ظِلال أصحاب الكساء وتأدّبت بآدابهم وتعلّمت من علومهم أن تحظى بهذه المنزلة السامية والمرتبة الرفيعة. ذكر السيّد نور الله الجزائري في كتاب «الخصائص الزينبيّة» أنّ السيّدة زينب(س) كان لها مجالس في بيتها في الكوفة أيّام خلافة أبيها أمير المؤمنين (ع)، وكانت تفسّر القرآن للنساء. وفي بعض الأيّام كانت تفسّر «كهيعص» إذ دخل عليها أمير المؤمنين(ع) فقال لها: يا قرّةَ عيني، سمعتكِ تفسّرين «كهيعص» للنساء، فقالت: نعم. فقال(ع): هذا رمز لمصيبة تُصيبكم عترة رسول الله (ص). ثمّ شرح لها تلك المصائب، فبكت بكاءً عالياً9.
السيّدة زينب (س) المحدِّثة العالِمة
رُوي أن العقيلة زينب (س) خَطَبت في الكوفة خُطبتَها الغرّاء فتركت أهل الكوفة يَموجُ بعضُهم في بعض، قد رَدُّوا أيديهم في أفواههم، حيارى يبكون وقد تمثّل لهم هولُ الجناية التي اقترفوها، قال الإمام زين العابدين(ع) لعمّته زينب (س): أنتِ بحمد الله عالِمةٌ غيرُ مُعلَّمة، فَهِمةٌ غيرُ مُفهَّمة10. وكلام الإمام زين العابدين (ع) يدلّ ـ بما لا غبار عليه ـ على المنزلة العلميّة الرفيعة التي ارتقت إليها عقيلة الهاشميّين (س)، فهي عالمة بالعلم اللدُنّيّ المُفاض من قِبل ربّ العزّة تعالى وليس بالعلم المتعارَف الذي يُكتسب بالدرس والبحث. وقال الشيخ المامقانيّ في تنقيح المقال في معرض حديثه في السيّدة زينب (س): زينب، وما زينب! وما أدراك ما زينب! هي عقيلة بني هاشم، وقد حازت من الصفات الحميدة ما لم يَحُزْها بعد أمّها أحد، حتّى حقّ أن يُقال: هي الصدّيقة الصغرى، هي في الحجاب والعفاف فريدة، لم يَرَ شخصَها أحدٌ من الرجال في زمان أبيها وأخوَيها إلى يوم الطفّ، وهي في الصبر والثبات وقوّة الإيمان والتقوى وحيدة، وهي في الفصاحة والبلاغة كأنّها تُفرِغ عن لسان أمير المؤمنين (ع) كما لا يَخفى على مَن أنعم النظر في خُطبتها. ولو قلنا بعصمتها لم يكن لأحد أن يُنكر ـ إن كان عارفاً بأحوالها في الطفّ وما بعده. كيف ولولا ذلك لما حمّلها الحسين (ع) مقداراً من ثقل الإمامة أيّام مرض السجّاد (ع)، وما أوصى إليها بجملة من وصاياه، ولَما أنابَها السجّادُ (ع) نيابةً خاصّة في بيان الأحكام وجملة أخرى من آثار الولاية11.
العقيلة تُحدِّث بعهد رسول الله (ص)
للسيّدة زينب (ع) مواقف عديدة في الذبّ عن إمام زمانها، فنراها تستمر في مواقفها في المنافحة عن الإمام زين العابدين (ع) بعد استشهاد أبيه سيّد الشهداء الحسين (ع)، تعزّيه تارةً وتصبّره، وتحافظ عليه من القتل وتَفديه بنفسها تارة أخرى. وقد نقل لنا التاريخ ـ من ضمن مواقفها ـ أنّها شاهدت حزنَ الإمام زين العابدين (ع) الشديد على أبيه الحسين (ع)، فقالت له: ما لي أراك تجود بنفسك يا بقيّةَ جدّي وأبي وإخوتي؟ فقال (ع):
وكيف لا أجزَع وأهلَع وقد أرى سيّدي وأخوتي وعُمومتي ووُلد عمّي مُصرَّعين بدمائهم مُرمَّلين بالعراء مُسلَّبين لا يُكفَّنون ولا يُوارَون ولا يُعرّج عليهم أحد، ولا يَقرَبُهم بشرٌ، كأنّهم أهلُ بيتٍ من الدَّيلم والخَزَر ؟! فقالت (س): لا يُجزعَنّك ما تَرى، فواللهِ إنّه لَعهدٌ من رسولِ الله (ص) إلى جدّكَ وأبيكَ وعمّك، ولقد أخذ اللهُ ميثاقَ أُناسٍ من هذه الأمّةِ لا تَعرِفُهم فَراعنةُ هذه الأمّة، وهم معروفون في أهل السماوات، أنّهم يجمعون هذه الأعضاءَ المتفرّقةَ فيوارونها، وهذه الجسومَ المضرّجة، ويَنصِبون بهذا الطفّ عَلماً لقبرِ أبيك سيّد الشهداء لا يُدرَسُ أثرُه، ولا يَعفو رسمُه على كُرور الليالي والأعوام، ولَيجهَدَنّ أئمّةُ الكفر وأشياعُ الضلالةِ في مَحوه وتَطميسه، فلا يزدادُ إلاّ ظهوراً، وأمرُه إلاّ عُلوّاً12.
إخبار أمير المؤمنين(ع) ابنتَه العقيلةَ بواقعة الطفّ
روى الشيخ المجلسيّ عن السيّدة زينب(س) ـ في حديث طويل ـ أنّها قالت: لمّا ضَرَب ابنُ مُلجَم لعنه الله أبي (ع)، ورأيتُ أثرَ الموت منه، قلت له: يا أبَه، حَدَّثَتني أمُّ أيمن بكذا وكذا، وقد أحببتُ أن أسمعه منك. فقال: يا بُنيّة، الحديثُ كما حدّثتكِ أمُّ أيمن، وكأنّي بكِ وببنات أهلكِ سبايا بهذا البلد أذلاّء خاشعين تخافون أن يَتخطّفكم الناس، فصبراً صبراً! فَوَالذي فَلَق الحبّةَ وبرأ النسمةَ، ما للهِ على ظهر الأرض يومئذٍ وليٌّ غيركم وغير محبّيكم وشيعتكم، ولقد قال لنا رسولُ الله (ص) حين أخبرَنا بهذا الخبر: إنّ إبليسَ في ذلك اليوم يطير فَرَحاً فيجول الأرضَ كلَّها في شياطينه وعَفاريته فيقول: يا معشرَ الشياطين، قد أدركنا من ذريّةِ آدم الطَّلِبَة، وبَلَغنا في هلاكهم الغايةَ، وأورثناهُمُ النارَ إلاّ من اعتصمَ بهذه العصابة، فاجعلوا شُغلكم بتشكيك الناس فيهم، وحَملِهم على عداوتهم، وإغرائهم بهم وأوليائهم، حتّى تستحكمَ ضلالةُ الخلق وكُفرهم، ولا ينجو منهم ناجٍ، ولقد صَدّق عليهم إبليسُ وهو كذوب، أنّه لا ينفع مع عداوتكم عملٌ صالح، ولا يضرّ مع محبّتكم وموالاتكم ذنب من غير الكبائر13.
السيّدة زينب (س) تنقل خطبة أمّها الزهراء
(س) قال أبو الفرج الإصفهانيّ: والعقيلةُ هي التي روى ابنُ عبّاس عنها كلامَ فاطمةَ (س) في فدك، فقال: حَدّثتني عقيلتُنا زينبُ بنت عليّ (ع)14. وروى الشيخ الصدوق بإسناده عن أحمد بن محمّد بن جابر، عن زينب بنت عليّ (ع) قالت: قالت فاطمة (س) في خطبتها في معنى فدك: «للهِ فيكم عَهدٌ قَدَّمه إليكم، وبقيّةٌ استخلفها فيكم: كتاب الله بيّنة بصائره، وآيٌ منكشفة سرائره، وبرهان متجلّية ظواهره، مديمٌ للبريّة استماعُه، وقائد إلى الرضوان اتّباعُه، ومُؤدٍّ إلى النجاة أشياعَه، فيه تِبيانُ حُجج الله المنيرة ومَحارمِه المحرّمة، وفضائله المدوّنة، وجُمَله الكافية، ورُخَصه الموهوبة، وشرائعه المكتوبة، وبيّناته الجالية؛ فَفَرَض الإيمانَ تطهيراً من الشِّرك، والصلاةَ تنزيهاً من الكِبْر، والزكاةَ زيادةً في الرزق، والصيامَ تثبيتاً للإخلاص، والحجَّ تسيليةً للدِّين، والعدلَ مَسْكاً للقلوب، والطاعةَ نظاماً للملّة، والإمامةَ لَمّاً من الفُرقة، والجهادَ عِزّاً للإسلام، والصبرَ مَعونةً على الاستيجاب، والأمرَ بالمعروف مصلحةً للعامّة، وبِرَّ الوالدين وِقايةً عن السخط، وصِلةَ الأرحام مَنْماةً للعَدد، والقِصاصَ حَقْناً للدماء، والوفاءَ للنَذرِ تعرّضاً للمغفرة، وتوفيةَ المكائيل والموازين تغييراً للبخسة، واجتنابَ قَذف المُحصَناتِ حَجْباً عن اللعنة، واجتنابَ السرقةِ إيجاباً للعِفّة، ومُجانبةَ أكلِ أموالِ اليتامى إجارةً عن الظلم، والعدلَ في الأحكامِ إيناساً للرعيّة، وحرّمَ اللهُ عزّوجلّ الشِّركَ إخلاصاً للبربويّة، فاتّقوا الله حقَّ تُقاته فيما أمَرَكم به، وانتَهُوا عمّا نهاكم عنه». ثمّ ذكر الشيخ الصدوق أنّه يروي هذا الحديث بطريقين آخرين عن السيّدة زينب (س)15.
السيّدة زينب (س) تروي قصّة ولادة أخيها الحسين (ع)
روى الخزّاز القمّي بإسناده عن الإمام زين العابدين (ع)، عن عمّته زينب بنت عليّ (س)، عن فاطمة (س)، قالت: دخل إليَّ رسولُ الله (ص) عند ولادة ابني الحسين، فناولتُه إيّاه في خِرقةٍ صفراء، فرمى بها وأخَذ خِرقةً بيضاءَ فلفّه بها ، ثمّ قال: خُذيه يا فاطمة، فإنّه الإمام وأبو الأئمّة؛ تسعةٌ من صُلبه أئمّة أبرار، والتاسع قائمهم16. العقيلة تروي عبادةَ أمّها الزهراء (س) وروي عن عبدالله بن الحسن، عن أمّه فاطمة الصغرى، عن أبيها الحسين (ع) وعمّتها زينب بنت أمير المؤمنين (ع)، أنّ فاطمة (س) قامت في محرابها في جُمعتِها، فلم تَزَل راكعةً ساجدةً حتّى اتّضحَ عمود الصبح، وكانت تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتُسمّيهم وتُكثِرُ الدعاءَ لهم ولا تَدعو لنفسِها بشيء، فقال لها الحسين (ع): ألا تَدعِينَ لنفسكِ كما تَدعِينَ لغيرِك ؟ فقالت: الجارُ ثمّ الدار17.
العقيلة تروي قصّة دفن أمير المؤمنين (ع):
وروي عن السيّدة زينب (س) أنّها قالت: كان آخر عهدِ أبي إلى أخوَيّ (ع)أنّه قال لهما: يا بَنيّ، إذا أنا متُّ فغَسِّلاني ثمّ نَشّفاني بالبُردةِ التي نُشّفَ بها رسول الله (ص) وفاطمة، وحيِّظاني وسَجّياني على سريري، ثمّ انظُرا حتّى إذا ارتَفَع لكما مُقدَّمُ السرير فاحمِلا مؤخَّره. قالت: فخرجتُ أُشيّعُ جنازةَ أبي، حتّى إذا كنّا بظهرِ الكوفة وقَدِمنا بظهرِ الغَريّ ركزَ المقدَّم، فوَضَعنا المؤخّر، ثمّ بَرَز الحسنُ (ع) مُرتدياً بالبُردةِ التي نُشِّف بها رسولُ الله (ص) وفاطمةُ وأميرُ المؤمنين (ع)، ثمّ أخذَ المِعوَلَ فضرَبَ ضربةً فانشَقّ القبرُ عن ضريح، فإذا هو بساجةٍ مكتوبٍ عليها سطران بالسُّريانيّة: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا قبرٌ حَفَره نوحٌ النبيّ لعليٍّ وصيِّ محمّدٍ قَبلَ الطُّوفان بسبعمائة عام. قالت (س):... سمعتُ ناطقاً لنا بالتعزية وهو يقول: أحسَنَ اللهُ لكم العزاءَ في سيّدكم وحجّة الله على خلقه18.
السيّدة زينب (س) تروي قصّة نزول طعام الجنّة
روى عماد الدين الطوسيّ عن زينب بنت عليّ (ع)، قالت: صلّى رسول الله (ص) صلاة الفجر ثمّ أقبل على أمير المؤمنين (ع) فقال: هل عندكم طعام ؟ فقال: لم آكل منذ ثلاثة أيّام طعاماً، وما تركتُ في بيتنا طعاماً. فقال (ص): سِرْ بنا إلى فاطمة! فلمّا دخلا على فاطمة نظرا إليها وقد أخَذَها الضَّعف من الجوع وحولَها الحَسَنان (ع)، فقال رسول الله (ص): يا فاطمة فِداكِ أبوكِ، هل عندكِ شيء من الطعام ؟ فاستَحيَت فاطمةُ أن تقول لا وقامت واستقبلت القِبلة لتصلّي ركعتَين، فأحسّت بحسيس، فالتفتت وإذا بصُحفة ملأى ثَريداً ولحماً، فأتت بها ووضعتها بين يدَي أبيها (ص)، فدعا رسولُ الله (ص) بعليّ والحسن والحسين، ونظر عليّ (ع) إلى فاطمة متعجّباً وقال: يا بنتَ رسول الله، أنّى لكِ هذا ؟ فقالت: هو من عند الله، إنّ الله يَرزقُ من يشاء بغير حساب19.
العقيلة زينب (س) المتهجّدة العابدة
أشبَهَت عقيلةُ بني هاشم (س) أمَّها سيّدةَ نساء العالمين فاطمةَ الزهراء (س) في عبادتها، فكانت تقضي ليلها بالصلاة والتهجّد، ولم تترك نوافلها حتّى في أحلَك الظروف وأصعبها، فقد روي عن الإمام زين العابدين (ع) أنّه قال إنّ عمّته زينب ما تَرَكت نوافلها الليليّة مع تلك المصائب والمحن النازلة بها في طريقهم إلى الشام20. لم تَقعُد بها تلك المصائب الراتبة التي تَهدّ الجبالَ عن أن تتهجّد وتُناجي ربّها الكريم. ونُقل عن ريحانة رسول الله (ص)، الإمام الحسين (ع)، أنّه لمّا ودّع أخته زينب (س) وَداعَه الأخير قال لها: يا أُختاه، لا تنسيني في نافلة الليل21. وروى الجواهري في مثير الأحزان عن فاطمة بنت الإمام الحسين (ع) أنّها قالت:... وأمّا عمّتي زينب فإنّها لم تَزَل قائمةً في تلك الليلة ـ أي ليلة العاشر من المحرّم ـ في محرابها تستغيث إلى ربّها، فما هدأت لنا عين ولا سكنت لنا رَنّة22. وروي عن الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين (ع) إنّه قال: إنّ عمّتي زينب كانت تؤدّي صلواتها من قيام ـ الفرائض والنوافل ـ عند سير القوم بنا من الكوفة إلى الشام، وفي بعض المنازل كانت تصلّي من جلوس، فسألتها عن سبب ذلك، فقالت: أصلّي من جلوس لشدّة الجوع والضعف منذ ثلاث ليال؛ لأنّها كانت تُقسّم ما يُصيبها من الطعام على الأطفال، لأنّ القوم كانوا يدفعون لكلّ واحد منّا رغيفاً واحداً من الخبز في اليوم والليلة23. وفي هذه الأخبار دلالة لا أوضح منها على أنّ السيّدة زينب (س) كانت من القانتات اللائي وَقَفنَ حركاتهنّ وسكناتهنّ وأنفاسهنّ للباري تعالى، فحصلن بذلك على المنازل الرفيعة والدرجات العالية التي حَكَت برفعتها منازلَ المُرسلين ودرجات الأوصياء عليهم الصلاة والسلام.
المصدر: موقع الزکیة الإلکتروني