الانحراف وماهيتهُ؛ تحليلاً وأسباباً ومعالجات
الباحثة: غانيا درغام
عرّفَ علم الاجتماع الانحراف انه وصف للأفعال أو السلوكيات التي تخرق أو تنتهك المعايير الاجتماعية، بما في ذلك القوانين المسنونة، مثل القيام بعمل إجرامي، أو الخروقات غير الرسمية، مثل رفض عادات وأعراف مجتمع ما، أي ان الانحراف سلوك لا يتوافق مع القواعد المؤسساتية أو قواعد السلوك.
والجدير بالتنويه أن الانحراف ليس بالضرورة أن يكون سلبياً، فقد يأتي ايجابياً، مثل التمرد على العادات والتقاليد الاجتماعية البالية ومحاولة خرق مسيرتها التي مفادها التخلف، لكن في موضوعنا البحثي هذا نسلط الضوء على الانحراف السلبي، نظراً لتفاقمه الاجتماعي ودور وسائل التواصل الاجتماعي في تغذيته والتي تعتبر أسرع عالمياً في التأثير بالنفس الانسانية خصوصا، وانعكاسها على السلوك الاجتماعي الغير اخلاقي عموماً.
وقد تختلف الأعراف الاجتماعية عبر المجتمع وبين الثقافات، فينظَر إلى فعل أو سلوك معين على أنه منحرف ويلاقي العقوبة أو الجزاء في مجتمع ما، بينما ينظر إليه نفسه في مجتمع آخر على أنه سلوك طبيعي، بالإضافة إلى ذلك يتغير التصور الجمعي للانحراف بتغير فهم المجتمع للمعايير الاجتماعية مع مرور الوقت، وفيما يخص هذا وضحت الطبيبة ايمان محمود سوريّة، تعمل في ألمانيا بقولها:«الانحراف السلبي ظاهرة اجتماعية غير اخلاقية من وجهة نظري، أتحدث وأنا مؤمنة بالأدب والاخلاق التي تعلمتها وتربيت عليها في بيئتي العربية التي تنظر إلى الشرف والكرامة من أهم مقومات الانسان في تكوين شخصيته القوية، وقد زادني العلم علماً أن صقل الشخصية الصحيحة المتوازنة يأتي بمتابعة ما يتعلمه المرء من بيئته الأسرية ثم المدرسية كما تتطور الى مستواها الجامعي ليتمخض عنها شخصية منطقية في العمل وفي الحياة، أما في المجتمعات الاوروبية فهناك خطب في علاقات التعارف بين الشاب والفتاة وما نسميه (عيبا)، بممارسة الجنس قبل الزواج بحيث اصبح هذا امر طبيعي ومتاح في المجتمعات الاوروبية، هذه المفارقة التي تجعل من يواكب المجتمعين يعي جيدا الاختلاف في مفهوم الانحراف بأقل تقدير فيما يخص هذا الموضوع«. وناقش عالم الاجتماع روبرت كيه ميرتون الانحراف من خلال النظر إلى الأهداف والوسائل على أنها جزء من نظرية »التوتر-الانحلال الاجتماعي«، ويمضي ميرتون أبعد من ذلك، حيث يرى أن الانحلال الاجتماعي هو حالة لا تتوافق فيها أهداف المجتمع و وسائل تحقيق هذه الأهداف التي يشرعها المجتمع، وافترض ميرتون أن استجابة الفرد لتوقعات المجتمع والوسائل التي يتبعها لتحقيق هذه التوقعات تساعد في فهم الانحراف، كما نظر إلى الفعل الجمعي على أنه مدفوع بالتوتر والإجهاد والإحباط في مجموعة من الأفراد نتيجة الانفصال بين أهداف المجتمع والوسائل الشائعة لتحقيق تلك الأهداف.
في أحيان كثيرة، يقال إن السلوك الجمعي غير الروتيني» كأعمال الشغب والتمرد وما إلى ذلك« يرجع إلى تفسيرات اقتصادية وأسباب متعلقة بالتوتر، بالتالي يحدد هذان البعدان مدى التكيف مع المجتمع بوجود أهداف الثقافة المجتمعية وهي تصورات المجتمع حول الحياة المثالية، والوسائل المؤسساتية وهي الوسائل المشروعة التي تمكن الفرد من الوصول إلى تلك الأهداف.
وقد وصف ميرتون أنواع من الانحراف من ناحية قبول الأهداف الاجتماعية والوسائل المؤسساتية أو رفضها لتحقيقها:
1- الابتكار هو استجابة ناتجة عن ضغط سببه تركيز الثقافة الاجتماعية على الثروة من جهة وانعدام فرص الثراء من جهة أخرى، ما يجعل الناس»مبتكرين« من خلال الانخراط في السرقة وبيع المخدرات، ويقبل المبتكرون أهداف المجتمع، لكنهم يرفضون الوسائل المقبولة اجتماعيا لتحقيق الأهداف، فمثلًا:«يتحقق النجاح النقدي بارتكاب الجريمة»، يزعم ميرتون أن المبتكرين هم غالبا أولئك الذين عايشوا نفس الرؤى حول العالم التي عايشها الممتثلون، ولكنهم حرموا من الفرص التي تسمح لهم بتحقيق أهداف المجتمع بطرق مشروعة.
2- يقبل الممتثلون أهداف المجتمع والوسائل التي يشرعها المجتمع لتحقيق هذه الأهداف فمثلا:«يتحقق النجاح النقدي من خلال العمل الجاد»، ويدعي ميرتون أن الممتثلين هم غالبا أفراد من الطبقة المتوسطة يعملون في وظائف الطبقة المتوسطة، تمكنوا من الوصول إلى الفرص التي يقدمها المجتمع كالتعليم الجيد ويسعون لتحقيق النجاح النقدي من خلال العمل الجاد.
3- الانكفاء وهو رفض الأهداف والوسائل التي تعينها ثقافة المجتمع،«يتسرب» الفرد ويرفض أهداف المجتمع والوسائل المشروعة لتحقيقها، حيث يرى ميرتون أن هؤلاء هم منحرفون حقيقيون، فهم يرتكبون أفعال منحرفة لتحقيق أهداف لا تتماشى مع قيم المجتمع.
عموما، يعود انحراف الشباب في المجتمعات للتأثر بالعديد من العوامل، التي من أبرزها:
العوامل الاجتماعية وتشمل:
-عدم الاهتمام بالأبناء داخل الأسرة بالدرجة الكافية.
-اتباع أساليب عقاب غير مناسبة في عقاب الأبناء منذ الصغر.
-ميل الأبناء لمرافقة رفاق السوء.
-انقطاع التواصل العميق بين أفراد الأسرة.
-غياب التـخطيط لاتخاذ القرارات داخل الأسرة.
-عدم متابعة العائلة للأبناء خارج المنزل.
- عدم وضوح دور الأبناء في الأسرة وأولوياتها.
▪العوامل الاقتصادية وتشمل:
-الـتـوجـه الـى وسـائـل الـتـواصـل الاجتماعي واعتبارها مصدر مالي في حين يؤدي التسويق من خلال هـذه الوسائل الى الانحراف في معظم الاحيان.
-تدني فرص العمل في منطقة ما.
-تدني الأجور المخصصة للشباب ضمن عملهم.
العوامل الثقافية والبيئية وتشمل:
-انـخفاض الـمستوى الثقافي للطالب.
-انتشار الجريمة.
-انعدام القـدوة للأبناء بين أطياف المجتمع.
-الشعور بـأن الـعـلم لا يحقق طموحات الشباب.
-غياب الأخلاق الواضحة للتعامل مع المواقف والأمور.
▪العوامل الدينية وتشمل:
-تدني الوازع الديني لدى الشباب.
-التعصب والتزمت الديني الزائد.
-استخدام تعاليم الدين وتوجيهها لأغراض شخصية.
وقال أيمن محمد، وهو أب لأربعة أبناء اثنان منهم في الجامعة، خلال حديث خاص لمركز الاعلام الدولي في العراق:«يعد الانحراف بمثابة كابوس عظيم لمن لديه أسرة سواء كان أم أو أب، فهناك سلوكيات وعادات غريبة تقتحم منازلنا من خلال وسائل التواصل الاجتماعي اولاً، ثم من خلال المحيط الاجتماعي القريب ثانيا، فمن غير الطبيعي أن أكتشف بعد حين أن صديقة ابنتي مثلية، أو أحد جيراني تحول إلى فتاة، هنا يوجد انحراف حتى بما أوصانا به الله عز وجل وليس فقط انحراف ثقافي او اجتماعي او سلوكي، هنا أستطيع التأكيد أنه انحراف خلقي، ومن ناحيتي أجزم أن عائلتي بأمان من خلال التصدير المستمر للأدب والاخلاق والسلوك السوي إلى أبنائي منذ نعومة أظفارهم، ناهيك عن ذلك العبادة الحقيقية التي تطغى على جو المنزل، واتباع ما أمرنا به الله والابتعاد عن ما نهانا عنه سبحانه وتعالى».
أيضاً قالت نهى مصطفى، في حديث خاص إلى مركز الاعلام الدولي في العراق:«للأسف لقد صادفت انحراف اخلاقي من مقرّبة لي وهي ابنتي، فهي مدمنة على برنامج البيكو لايف، حيث تصور بث مباشر لها مع مسابقات وألعاب ومراهنات تشاركها مع العديد من المتابعين، لم تكن ابنتي هكذا، وقد ربيتها بطريقة ملتزمة لكن بعد زواجها الثاني تغيّرت، حيث أن أخوة زوجها يتبعون ذات الأسلوب في تحصيل مصدرهم المالي، وزوجها يشجعها على ما تقوم به، بالمقابل هي التي تدفع كل مصاريف المنزل وهذا ما يؤكد لي أنه لا يريدها زوجة حقيقية بل هي فقط من أجل تحصيل المال بطريقة منحرفة... لقد غضبنا عليها أنا ووالدها وتبرأت منها العائلة بأكملها».
كيفية التغلب على ظاهرة انحراف الشباب:
يمكن التغلب على ظاهرة انحراف الشباب من خلال اتباع العديد من الاستراتيجيات المرتبطة بالشاب منذ طفولته، وفيما يأتي توضيحها:
- تعزيز العلاقة بين الأبناء والأسرة منذ الطفولة، وبناؤها على أساس الثقة والاحترام التبادل، وتقبل الاختلاف، واحترام الرأي والرأي الآخر.
- اختيار أساليب عقاب سواء كانت للأطفال أو للشباب منطقية وصحية، حيثُ يكون الهدف منها التعلم من الخطأ، وليس إثبات حدوث الخطأ فحسب.
- الـتـنـشـئـة الأخـلاقـيّـة الـسـليمة، والمرتبطة في توجيه الشباب لطريق الصـواب والخـطأ بأسلوب الحوار والإقناع.
- تنـمية ثقافة الأسرة في أسلوب التعامل مع الشباب من خلال عقد دورات وورشات تدريبية مكثفة.
ليبقى على ثقة دائمة في وجود الأسرة واهتمامها به.