مقالة الجزء الثاني والأخیر
بعض ملامح التوحيد في الثورة الحسينية
الشيخ عزيز حسن الخضران
النّقطة الخامسة: التّوحيد ورضا أهل البيت(ع)
من الوجوه الّتي قد تكون خفيّة على بعض، هو علاقة التّوحيد الخالص برضا أهل البيت(ع) واتّباعهم اتّباعاً مطلقاً، ولكن مع قليل من التَّأمّل سنجد أنَّ العلاقة واضحة وبيِّنة، ونوضِّح ذلك من خلال المقدِّمات التّالية:
- رضا الله سبحانه حتّى يكون متوافقاً مع التّوحيد الخالص، يجب ألَّا يكون معه سعيٌ لرضا غيره من المخلوقين.
- إذا قرن الله رضا أحدٍ من الخلق برضاه تعالى، فهذا يعني أنَّ السَّعي لرضى ذلك الإنسان مظهراً من مظاهر التّوحيد الخالص.
- ثبت بالأدلّة الكثيرة أنَّ الرِّضا الإلهيّ مقرونٌ دائماً برضا أهل البيت(ع).
والنّتيجة: أنَّ السّعي لرضا أهل البيت(ع) شرطٌ لتحقيق التَّوحيد الإلهيّ الخالص، وأنَّ السّعي لرضا غيرهم من المخلوقين يعتبر شركاً في الرِّضا والطَّاعة.
وهذه النّتيجة، حيث إنَّها من وظائف الأنبياء والأئمّة(ع) فهم لا يتعاملون معها معاملة شخصيّة، بل من تكاليفهم الشّرعيّة أن يدعوا النَّاس إلى طاعتهم والسَّعي لرضاهم، لإظهار هذا الوجه من التّوحيد، خصوصاً حينما يفرضُ واقعٌ آخر ويُصوَّرُ أنَّه هو الواقع الصّحيح الّذي تكون مخالفته معصية، فيفرض -كما هو حاصل في زماننا حيث طاعة الحاكم واجبة، وطاعة غيره المخالف للحاكم غير جائزة ولو كان عالِماً عادلاً متّقياً- أنَّ المؤمن لا يجوز له إغضاب الحاكم الفعليّ، وأنَّ تعريض نفسِه لغضبه هو إلقاء للنّفس في التّهلكة، بل ينبغي اتّباع رضاه، وإن غلَّفوا بعض هذه الدّعاوى بعبارات غير واقعيّة، كالقول بوجوب طاعة الحاكم فيما يرضي الله، والحال أنَّ الحكام أصل حكمهم لا يرضي الله، فضلاً عن سلوكهم وفسادهم.
وكان يراد من خلال تنصيب يزيد بن معاوية أن يفرضَ هذا الجو، فإذا نجح مع يزيد المتهتّك فمع غيره سيكون أنجح، وستكون ضربة قاصمة للإسلام، وكان من أحد وجوه أسباب النّهضة الحسينيّة المباركة منع حصول هذا الجو بالقدر الممكن، وقد نجح المشروع الحسينيّ مع مجموعة كبيرة من الأمَّة، وإن كانت آثار المشروع اليزيديّ سيطر بشكلٍ وآخرَ على عقلِ الأمَّة.
ولقد جاء في خطبة الإمام الحسين(ع) في مكّة مع جموع الحُجَّاج -وهو يخبر النَّاس عن الوظيفة الشّرعيّة، وأنَّ مصير التّخاذل ضياع الإسلام، وأنَّه لا بدَّ من الوقوف في وجهِ المشروع اليزيديّ ولو من خلال شهادة السِّبط المعصوم-: “رضی الله رضانا أهل البيت”.
وتحقيق رضا أهل البيت(ع) -والّذي يضمن رضا الله والتَّوحيد الخالص- لا يكون بالشِّعارات، وإنِّما الطَّريق إلى ذلك واضح، وهو طريق الاتّباع والطّاعة والحبّ القلبيّ والعمليّ، فلا معنى لأن نحرص على رضا أهل البيت(ع) دون اتّباعهم وطاعتهم، فإنَّ رضاهم ليس أمراً نفسيّاً ودنيويّاً كما يراضي بعضنا بعضاً، بل هو رضا إلهيّ يستلزم طاعة الله تبارك وتعالى وطاعة أهل البيت(ع) والابتعاد عن أعدائهم.
جاء في الرّواية عن إمامنا الصّادق(ع) قال: “وفد إلى الحسين(ع) وفد فقالوا: يا ابن رسول الله، إنَّ أصحابنا وفدوا إلى معاوية، ووفدنا نحن إليك، فقال: إذن أجيزكم بأكثر ممَّا يجيزهم، فقالوا: جعلنا فداك، إنَّما جئنا مرتادين لديننا، قال فطأطأ رأسه، ونكت في الأرض وأطرق طويلاً، ثمَّ رفعَ رأسَه فقال: قصيرة من طويلة، من أحبَّنا لم يحبّنا لقرابة بيننا وبينه، ولا لمعروف أسديناه إليه، إنّما أحبّنا لله ورسوله، فمن أحبّنا جاء معنا يوم القيامة كهاتين، وقرن بين سبابتيه”.
النّقطة السّادسة: التّوحيد وغاية الإمام(ع) من الحكم
قلنا بأنَّ الحاكميّة لله تعالى وحده، وهو سبحانه الّذي ينصب هذا الحاكم ويختاره، لأنَّ الحاكم يجب أن يكون خليفة الله في الأرض، ولا بدَّ ألّا يرى لنفسه حقَّ الملك والحكم في شيء، إلّا ما يحكم به الله ويأمر به، وإلّا كان هذا الحاكم قد أعطى لنفسه ما هو حقٌّ خالص لله تعالى، فيقع في الشّرك صريحاً، حتّى لو حاول نفي ذلك.
وكان يزيد بن معاوية ليس فقط يرى لنفسه هذه الحاكميّة، بل كانت له طرق لاستعباد النّاس بمعنى الكلمة، وكان يتعامل بهذه الذّهنيّة مع المسلمين، فمن جانب يروى عن إمامنا الباقر(ع) أنّه قال: “قدم بنا على يزيد بن معاوية (لعنه الله) بعدما قتل الحسين(ع)، ونحن اثنا عشر غلاماً، ليس منَّا أحدٌ إلّا مجموعة يداه إلى عنقه وفينا علي بن الحسين، فقال لنا يزيد: صيَّرتم أنفسكم عبيداً لأهلِ العراق..”.
ومن جانب آخر أوضح، فقد سيَّر يزيد بن معاوية “بالجيوش من أهل الشّام عليهم مسلم بن عقبة المرّيّ الّذي أخاف المدينة ونهبها، وقتل أهلها، وبايعه أهلها على أنَّهم عبيد ليزيد”.
هنا، تبرز الفرعنة مع الاستعباد للنّاس، والنّتيجة الشّرك الصّريح، حتّى لو فسّر بأمر آخر، ونهضة الحسين(ع) كان إحدى أهدافها نفي هذه العبوديّة، وهي لا تتحقّق إلّا إذا استلم الحكم من يرى نفسه عبداً مملوكاً لله تعالى، ومأموراً من قبله بالحكم، وقد كان في كلمات أبي الأحرار(ع) ما يشير إلى هذا الأمر، فكان فيما كتبه(ع) لأهل الكوفة قبل قدومه عليهم: “بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم، من الحسين بن علي إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين أمَّا بعد.. وقد فهمت كلّ الّذي اقتصصتم وذكرتم، ومقالة جلّكم أنّه ليس علينا إمام، فأقبل لعلّ الله أن يجمعنا بك على الحقّ والهدى.. فإنِّي أقدم إليكم وشيكاً إنشاء الله، فلعمري ما الإمام إلّا الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط، الدّائن بدين الحقِّ، الحابس نفسه على ذلك لله، والسّلام”. فلم يعط الإمام(ع) لنفسه شيئاً إلّا بما هو من الله تعالى.
وأمَّا ما نراه من ظلم الحُكَّامِ وجورِهم وفسادِهم وانحرافاتِهم، فإنَّما هو نتاج ما يرون لأنفسهم من الحقِّ -دون الله تعالى- في السُّلطة والملك واستعباد النَّاس.
النّقطة السّابعة: بعض مظاهر التّوحيد في كربلاء:
كلُّ حركة للإمام(ع) كانت تشير إلى مبدأ التّوحيد، وهناك مظاهر كثيرة لذلك في كربلاء:
فمنها: كلُّ ما أعطينا فمن الله
في ليلة عاشوراء حيث قرُب الموعد، كان الحسين(ع) يخاطب أصحابه –كما في الرّواية عن زين العابدين(ع)- فمّما قال وهو يحمد الله تعالى: “اللهم إنِّي أحمدك على أن أكرمتنا بالنّبوّة، وعلّمتنا القرآن، وفقّهتنا في الدّين، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدةً، فاجعلنا من الشَّاكرين..”. وعادة الإنسان أنّه يغفل عن النّعم في مثل هذه المواطن، والإمام(ع) كأنّه يريد أن يذكّر أصحابه بهذه النّعم، وأنَّ كلّ شيء نملكه فإنّما هو من عند الله تعالى، سواء النّعم المادّيّة (السّمع والبصر)، أو المعنويّة (النّبوّة، وتعليم القرآن، والتّفقّه في الدّين).
ومنها: ذكر التّوحيد في الملمّات
حينما قالت له أخته الحوراء زينب(س): "أفتغتصب نفسك اغتصابا؟! فذاك أقرح لقلبي وأشدّ على نفسي.." فقام إليها الحسين(ع)، وقال لها: "يا أختاه! اتّقي الله وتعزّي بعزاء الله، واعلمي أنَّ أهلَ الأرض يموتون، وأهل السّماء لا يبقون، وأنَّ كلَّ شيءٍ هالكٌ إلّا وجهَ الله الّذي خلَقَ الخلقَ بقدرته، ويبعث الخلقَ ويعودون، وهو فرد وحده".
فنرى ذكر التّوحيد عند هذه المصيبة العظيمة، الّتي لا تحتملها الجبال الرّواسي، وهذا يعني أنَّ ذكر معاني التّوحيد تهوّن على الإنسان مصائبه الكبرى.
ومنها: الدّعاء المشتمل على المطالب التّوحيديّة
عن علي بن الحسين زين العابدين(ع) أنَّه قال: "لما صبّحت الخيل الحسين رفع يديه وقال: اللهمَّ أنتَ ثقتي في كلِّ كرب، ورجائي في كلِّ شدَّة، وأنت لي في كلِّ أمرٍ نزلَ بي ثقة وعدّة، كم من همّ يضعف فيه الفؤاد، وتقلّ فيه الحيلة، ويخذل فيه الصّديق، ويشمت فيه العدوّ، أنزلته بك وشكوته إليك رغبة منّي إليك عمن سواك، ففرّجته وكشفته، وأنت وليّ كلّ نعمة، وصاحب كلّ حسنة، ومنتهى كلّ رغبة".
كلّ فقرة من فقرات هذا الدّعاء الشّريف يبيّن جانباً مهمّاً من جوانب التّوحيد لمن تمعن فيه جيّداً، فهو ليس مجرّد دعاء لقضاء حاجة وردّ كربة، بل ينطلق من منطلق الاعتقاد بأنَّ الله سبحانه هو كلِّ شيء في هذه الحياة. الإمام(ع) يؤكِّد فيه أنَّ اللجوء إلى الله تعالى وحده، وكان بإمكانه أن يطلب العطف منهم.
ومنها: المشاركة في قتل الحسين(ع) كشرك اليهود والنّصارى والمجوس
وهذا ما بيَّنه الإمام(ع) حين اشتدَّ العطش به وبأصحابه يوم عاشوراء، وأراد أن يذكرهم بالله وبمنزلته من رسول الله(ص)، وأن يتمَّ عليهم الحجّة الكاملة بأنَّ ما يصنعونه به(ع) يضاهي عمل اليهود والنّصارى والمجوس في شركهم بالله، ولعلَّ ذلك من ناحية أنَّهم يطيعون عدوَّ الله يزيد في قبال طاعة الله تعالى، ففي الرّواية أنَّه “وثب الحسين(ع) متوكّئاً على سيفه، فنادى بأعلى صوته، فقال: “أنشدكم الله، هل تعرفوني؟” قالوا: نعم، أنت ابن رسول الله وسبطه. قال: “أنشدكم الله، هل تعلمون أنّ جدّي رسول الله(ص)؟” قالوا: اللهمّ نعم. قال: “أنشدكم الله، هل تعلمون أنَّ أمّي فاطمة بنت محمّد(ص)؟” قالوا: اللهمّ نعم. قال: “أنشدكم الله، هل تعلمون أنَّ أبي عليّ بن أبي طالب(ع)؟” قالوا: اللهمّ نعم. قال: “أنشدكم الله، هل تعلمون أنَّ جدّتي خديجة بنت خويلد، أوَّل نساء هذه الأمِّة إسلاماً؟”، قالوا: اللهمّ نعم. قال: “أنشدكم الله، هل تعلمون أنَّ سيِّد الشّهداء حمزة عمُّ أبي؟” قالوا: اللهمّ نعم. قال: ”فأنشدكم الله هل تعلمون أن جعفراً الطّيار في الجنّة عمّي؟” قالوا: اللهمّ نعم. قال: “فأنشدكم الله، هل تعلمون أنّ هذا سيف رسول الله(ص)، وأنا متقلّده؟” قالوا: اللهمّ نعم. قال: “فأنشدكم الله، هل تعلمون أنّ هذه عمامة رسول الله(ص) أنا لابسها؟” قالوا: اللهمّ نعم. قال: “فأنشدكم الله، هل تعلمون أنّ عليّاً كان أوّلهم إسلاماً، وأعلمهم علماً، وأعظمهم حلماً، وأنّه وليّ كلّ مؤمن ومؤمنة؟” قالوا: اللهمّ نعم. قال: “فبم تستحلون دمي، وأبي الذّائد عن الحوض غداً، يذود عنه رجالاً كما يذاد البعير الصّادي عن الماء، ولواء الحمد في يدَي جدّي يوم القيامة؟” قالوا: قد علمنا ذلك كلّه، ونحن غير تاركيك حتّى تذوق الموت عطشاً. فأخذ الحسين(ع) بطرف لحيته، وهو يومئذ ابن سبع وخمسين سنة، ثمّ قال: “اشتدّ غضب الله على اليهود حين قالوا: عزير بن الله، واشتدَّ غضب الله على النّصارى حين قالوا: المسيح بن الله، واشتدَّ غضب الله على المجوس حين عبدوا النّار من دون الله، واشتدَّ غضب الله على قوم قتلوا نبيّهم، واشتدّ غضب الله على هذه العصابة الّذين يريدون قتل ابن نبيّهم”.
فهذه التّفاصيل من مناشدته(ع) لإثبات أنّ الّذي يقاتلونه يمثِّل الدّين والنَّبيّ(ص)، وأنَّه لا حجّة لهم أصلاً في محاربته، وأنَّ قتاله هو بمنزلة الشّرك بالله تعالى، بل هو كذلك.
وقد أدرك هذا المعنى بعض المؤمنين، فقد روي أنَّ يزيد بن مسعود النّهشلي -من البصرة- حينما أتاه رسول الحسين(ع) يدعوه لنصرته جمع عشيرته وخطب فيهم وممّا قاله لهم: “وقد قام يزيد شارب الخمور ورأس الفجور، وأنا أقسم بالله قسماً مبروراً لجهاده على الدّين أفضل من جهاد المشركين”، ولمّا أراد الخروج سمع بقتل الإمام(ع).
الخاتمة
إنًّ الثّورة الحسينيّة المقدَّسة والّتي قام بها سيَّد الشّهداء(ع) قد ذكرها الأنبياء(ع) قبل وقوعها، وذكرها رسول الله(ص) مراراً وتكراراً، وجعلت هي القضيّة المحوريّة للدّين والإسلام، ولبقاء القيم والمبادئ، وهي الحافظ من المفاسد والانحرافات، وهي الطّريق لمحاربة الظّلم والجور، وحينئذ ينبغي التّعامل معها على أنّها خلاصة جهد الأنبياء والأوصياء، وأنَّ الأساس فيها والمبدأ والمنطلق الّذي لا يجوز إغفاله هو التّوحيد الخالص بجميع جوانبه ونواحيه.
وأنَّ من يقتصر في التَّعامل مع هذه الثَّورة والنَّهضة المباركة من بعض الجوانب فقط، فهو يظلم هذه الثّورة، ويهضمها حقّـها، وهو غير واعٍ لحقيقتها وغاياتها الكبرى، وذلك يؤدّي إلى الوقوع في الاشتباهات والانحرافات، والسّلوكيّات الخاطئة.
فعلينا أن نتمعن أكثر في كلِّ كلمةٍ وفعلٍ قد صدر من الإمام الحسين(ع)، ونضعها ضمن خطِّ التّوحيد؛ لكي نستطيع تحقيق أهداف هذه الثّورة، ونكون شركاء في بعض الأجر، الّذي أعطي لهذا الإمام العظيم، ولأصحابه الشّهداء عليهم جيمعاً صلوات المصلّين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على خير خلقه محمدٍ وأهل بيته الطّيّبين الطّاهرين.
المصدر: الأبدال
برچسب ها :
ارسال دیدگاه