مقالة/ الجزء الأول
دراسة موجزة في آية النفر
الشيخ جعفر عبدالنّبي الجبوري
الملخَّص:
تعرَّض الكاتب في بحثه حول آية النَّفر إلى أبعاد هذه الآية، فبعد أن ذكر معانيها اللُّغويَّة وسبب نزول الآية ومعناها الإجماليّ ذكر خمسة جوانب في الآية؛ وهي الجانب العقديّ، والفقهيّ، والأصوليّ، والأخلاقيّ والاجتماعيّ، مستعيناَّ بكلمات العلماء والمفسِّرين في ذلك، وختم البحث بالإشارة إلى بعض الآيات الأخرى الَّتي تعرَّضت للعِلم والعلماء.
*المقدِّمة:
من الآيات الشَّريفة الَّتي كانت مورد بحثٍ من جهات متعدِّدة هي آية النَّفر، وهي قوله تعالى: {وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ}(التَّوبة: ١٢٢).
وفي هذا البحث الموجز نحاول التَّعرُّض الإجمالي إلى مفاد الآية أوَّلاً، ثمَّ بعد ذلك ننظر إلى الجوانب المستفادة من هذه الآية كالجانب التَّفسيريّ والعقديّ والفقهيّ وغيرها من الجوانب، كلُّ ذلك بشكل موجز كبابٍ من أبواب التَّأمل في القرآن الكريم، حيث كلُّ آيةٍ منه تحتاج إلى دراسات وبحوث وتحليل، وكلُّ ذلك بالاستفادة من كلمات العلماء والمفسِّرين.
وممَّا ينبغي الإشارة إليه أنَّه قد وقع كلامٌ طويل بين المفسِّرين والأصوليِّين والفقهاء في مدلولات هذه الآية المباركة نظراً إلى شمولها لعددٍ من المضامين، بعضها مرتبط بالبحث الأصوليّ كحجِّيَّة الخبر الواحد، وبعضها الآخر مرتبط بالبحث الفقهيّ وهنالك مضامين وتفصيلات كثيرة لا يسعنا الوقوف عندها في هذا البحث.
*والكلام في مبحثين
المبحث الأوَّل: تصوُّر عامٌّ حول مفاد الآية
الفرع الأوَّل: المعاني اللُّغويَّة والاصطلاحيَّة في الآية الكريمة
يقول تعالى: {وَما كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ}(التَّوبة: ١٢٢).
1. {وَما كَانَ}: (ما)« هنا النَّافية وهي بمعنی ليس، ولفظ {كَانَ} لا تدلُّ دائماً على الماضي المنقطع، وإن كان هذا المشهور في استعمالها في ذلك، وقد جاء ذكرها في لسان العرب وفي كتاب الله العزيز بمعنى لم يزل وهي تدلُّ على الاستمراريَّة.
2. {لِيَنْفِرُوا}: يمكن أن نتطرَّق في هذه الكلمة إلى المعنى اللُّغويّ والاصطلاحي معاً كالتالي:
النَّفر لغة:
مصدر تنفَّر من الشَّيء: انزعج عنه(1). وتباعد منه، ومثله نَفَر عنه. ونفر إليه: دفع نفسه إليه، ومنه النَّفْر إلى مكَّة(2).
والإنفار عن الشَّيء، والتَّنفير عنه، والاستنفار كلُّه بمعنى(3). ومن ذلك النَّفر بمعنى الضَّرب في الأرض(4)، ومنه قوله تعالى: {فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ}.(التَّوبة: ١٢٢)
النَّفر اصطلاحاً:
استعمله الفقهاء في:
- تنفير الحمام، أي تهييجه وجعله يطير ويترك المكان الَّذي فيه.
- وتنفير الدَّابَّة بمعنى تهييجها فارَّة من مكانها.
- وتنفير الطَّبع بمعنى جعل الطَّبع الإنسانيّ يتنفَّر من الشَّيء.
- وتنفير النَّاس إلى الشَّيء دفعهم إليه، مثل تنفيرهم إلى مكَّة، أو إلى الحرب.
- ومنه قولهم: النَّفر الأوَّل من منى، وهو الرُّجوع منه إلى مكَّة يوم الثَّاني عشر، والنَّفر الثَّاني هو الرُّجوع يوم الثَّالث عشر لمن بقي هناك والكلام هنا في الأوَّلَين(5).
{فَلَوْ لا نَفَرَ}: بمعنى (هلَّا نفر) وهي تفيد التَّحضيض على الفعل.
{لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ}: وهنا أيضاً يمكن ذكر المعنى اللُّغويّ والاصطلاحيّ:
الفقه لغةً:الفهم.
الفقه اصطلاحاً:
هو العِلم بالأحكام الشَّرعيَّة الفرعيَّة عن أدلتها التَّفصيلية(6). فيُقال: فقه الرَّجل فقاهةً إذا صار فقيهاً. قد اختصَّ التَّفقُّه في الدِّين بالعِلم بالأحكام الشَّرعيَّة فيُقال لكلِّ عالم بها فقيه، وقيل الفقه فهم المعاني المستنبطة.
وتفقَّه: التَّفقُّه تعلُّم الفقه، والفقه العِلم بالشيء.
{لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}: والحذر تجنُّب الشَّيء بما فيه من المضرَّة(7).
*الفرع الثَّاني: سبب النُّزول
ذكر الطَّبرسيّ في المجمع: أنَّه "قيل: كان رسول الله(ص) إذا خرج غازياً لم يتخلَّف عنه إلَّا المنافقون والمعذَّرون، فلمَّا أنزل الله تعالى عيوب المنافقين وبيَّن نفاقهم في غزاة تبوك قال المؤمنون: واللهِ لا نتخلَّف عن غزاة يغزوها رسول الله(ص)، ولا سرية أبداً، فلمَّا أمر رسول الله(ص) بالسَّرايا إلى الغزو نفر المسلمون جميعاً، وتركوا رسول الله(ص) وحده، فأنزل الله سبحانه {وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا}(التَّوبة: ١٢٢). وقيل: إنَّها نزلت في ناس من أصحاب رسول الله(ص) خرجوا في البوادي فأصابوا من النَّاس معروفاً وخصباً ودعوا من وجدوا من النَّاس إلى الهدى، فقال النَّاس: وما نراكم إلَّا وقد تركتم صاحبكم وجئتمونا، فوجدوا في أنفسهم في ذلك حرجاً، وأقبلوا كلُّهم من البادية حتَّى دخلوا على النَّبيّ(ص) فأنزل اللهa هذه الآية"(8).
*الفرع الثَّالث: المعنى الإجماليّ للآية المباركة
ونذكر هنا ما ذكره الشَّيخ الطَّبرسيّ في مجمع البيان:
{وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً}: وهذا نفيٌ معناه النَّهي؛ أي ليس للمؤمنين أن ينفروا ويخرجوا إلى الجهاد بأجمعهم ويتركوا النَّبيّ(ص) فريداً وحيداً، وقيل: معناه ليس عليهم أن ينفروا كلُّهم من بلادهم إلى النَّبيّ(ص) ليتعلَّموا الدِّين، ويضيِّعوا ما وراءهم ويخلوا ديارهم {فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} اختلف في معناه على وجوه:
1. إنَّ معناه فهلَّا خرج إلى الغزو من كلِّ قبيلةٍ جماعةٌ، ويبقى مع النَّبيّ(ص) جماعةٌ ليتفقهوا في الدِّين؛ يعني الفرقة القاعدين يتعلَّمون القرآن، والسُّنن، والفرائض، والأحكام، فإذا رجعت السَّرايا وقد نزل بعدهم قرآن، وتعلَّمه القاعدون قالوا لهم إذا رجعوا إليهم إنَّ الله قد أنزل بعدكم على نبيكم قرآناً، وقد تعلَّمناه، فتتعلُّمه السَّرايا، فذلك قوله: {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} أي وليعلِّموهم القرآن، ويخوِّفوهم به إذا رجعوا إليهم {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} فلا يعلمون بخلافه، ويناسب هذا القول ما قد رُوِي عن الإمام الباقر(ع): >كَانَ هَذَا حِينَ كَثُرَ النَّاسُ فَأَمَرَهُمُ اللهُ سُبْحَانَهُ أَنْ تَنْفِرَ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ وتُقِيمَ طَائِفَةٌ لِلتَّفَقُّهِ، وأَنْ يَكُونَ الغَزْوُ نَوْباً(9).
2. إنَّ التفقُّه والإنذار يرجعان إلى الفرقة النَّافرة، وحثَّها الله تعالى على التَّفقُّه لترجع إلى المتخلِّفة فتحذِّرها، ومعنى {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ}، ليتبصَّروا ويتيقَّنوا بما يريهم اللهُ من الظُّهور على المشركين، ونصرة الدِّين، ولينذروا قومهم من الكفار إذا رجعوا إليهم من الجهاد، فيخبروهم بنصر الله النَّبيّ(ص) والمؤمنين ويخبروهم أنَّهم لا يُدان لهم بقتال النَّبيّ(ص) والمؤمنين لعلَّهم يحذرون أن يقاتلوا النَّبيّ(ص) فينزل بهم ما نزل بأصحابهم من الكفَّار.
3. إنَّ التفقُّه راجع إلى النَّافرة، والتَّقدير ما كان لجميع المؤمنين أن ينفروا إلى النَّبيّ(ص)ويخلوا ديارهم، ولكن لينفر إليه من كلِّ ناحية طائفة لتسمع كلامه(ص)، وتتعلَّم الدِّين منه، ثمَّ ترجع إلى قومها فتبيِّن لهم ذلك، وتنذرهم، والمراد بالنَّفر هنا الخروج لطلب العلم، وإنَّما سُمِّيَ ذلك نفراً لما فيه من مجاهدة أعداء الدِّين، وفي هذا دليلٌ على اختصاص الغربة بالتَّفقُّه، وأنَّ الإنسان يتفقَّه في الغربة ما لا يمكنه ذلك في الوطن(10).
وأمَّا من المفسِّرين المعاصرين فنذكر أبرز ما جاء في تفسير الميزان للعلَّامة الطَّباطبائيّ:
قوله تعالى: {وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ}(التَّوبة: ١٢٢)، السِّياق يدلُّ على أنَّ المراد بقوله: {لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} لينفروا وليخرجوا إلى الجهاد جميعاً، وقوله: {فِرْقَةٍ مِنْهُمْ} الضَّمير للمؤمنين الَّذين ليس لهم أن ينفروا كافَّة، ولازمه أن يكون النَّفر إلى النَّبيّ(ص) منهم.
فالآية تنهى مؤمني سائر البلاد غير مدينة الرَّسول أن ينفروا إلى الجهاد كافَّة، بل يحضُّهم أن ينفر طائفة منهم إلى النَّبيّ(ص) للتَّفقُّه في الدِّين، وينفر إلى الجهاد غيرُهم.
والأنسب بهذا المعنى أن يكون الضَّمير في قوله {رَجَعُوا} للطَّائفة المتفقِّهين، وفي قوله: {إِلَيْهِمْ} لقومهم، والمراد إذا رجع هؤلاء المتفقِّهون إلى قومهم، ويمكن العكس بأنَّ يكون المعنى: إذا رجع قومهم من الجهاد إلى هؤلاء الطَّائفة بعد تفقُّههم ورجوعهم إلى أوطانهم.
ومعنى الآية: لا يجوز لمؤمني البلاد أن يخرجوا إلى الجهاد جميعاً، فهلَّا نفر وخرج إلى النَّبيّ(ص) طائفةٌ من كلِّ فرقة من فرق المؤمنين ليتحقَّقوا الفقه والفهم في الدِّين فيعملوا به لأنفسهم، ولينذروا بنشر معارف الدِّين وذكر آثار المخالفة لأصوله وفروعه قومَهم إذا رجعت هذه الطَّائفة إليهم، لعلَّهم يحذرون ويتَّقون.
ومن هنا يظهر:
أوَّلاً: أنَّ المراد بالتَّفقُّه تفهُّم جميع المعارف الدِّينيَّة من أصول وفروع لا خصوص الأحكام العمليَّة، وهو الفقه المصطلح عليه عند المتشرِّعة، والدَّليل عليه قوله: {لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} فإنَّ ذلك أمر إنَّما يتمُّ بالتَّفقُّه في جميع الدِّين وهو ظاهر.
وثانياً: أنَّ النَّفر إلى الجهاد موضوع عن طلبة العِلم الدِّينيّ بدلالة من الآية.
وثالثاً: أنَّ سائر المعاني المحتمَلة الَّتي ذكروها في الآية بعيدة عن السِّياق كقول بعضهم: إنَّ المراد بقوله: {لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} نفرهم إلى النَّبيّ(ص) للتَّفقُّه، وقول بعضهم في {فَلَوْلا نَفَرَ} أي إلى الجهاد، والمراد بقوله: {لِيَتَفَقَّهُوا} أي الباقون المتخلِّفون فينذروا قومهم النَّافرين إلى الجهاد إذا رجعوا إلى أولئك المتخلِّفين. فهذه ونظائرها معانٍ بعيدة لا جدوى في التَّعرُّض لها في البحث عنها(11).
المصدر: مجلة بقیة الله، العدد 75-76