printlogo


printlogo


مقالة/ الجزء الأول
دراسة موجزة في آية النفر
الملخَّص:‏ تعرَّض الكاتب في بحثه حول آية النَّفر إلى أبعاد هذه الآية، فبعد أن ذكر معانيها اللُّغويَّة وسبب نزول ‏الآية ومعناها الإجماليّ ذكر خمسة جوانب في الآية؛ وهي الجانب العقديّ، والفقهيّ، والأصوليّ، ‏والأخلاقيّ والاجتماعيّ، مستعيناَّ بكلمات العلماء والمفسِّرين في ذلك، وختم البحث بالإشارة إلى ‏بعض الآيات الأخرى الَّتي تعرَّضت للعِلم والعلماء.‏ *المقدِّمة:‏ من الآيات الشَّريفة الَّتي كانت مورد بحثٍ من جهات متعدِّدة هي آية النَّفر، وهي قوله تعالى: {وَما ‏كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ‌ كُلِّ‌ فِرْقَةٍ‌ مِنْهُمْ‌ طائِفَةٌ‌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ‌}(التَّوبة: ١٢٢).‏ وفي هذا البحث الموجز نحاول التَّعرُّض الإجمالي إلى مفاد الآية أوَّلاً، ثمَّ بعد ذلك ننظر إلى الجوانب ‏المستفادة من هذه الآية كالجانب التَّفسيريّ والعقديّ والفقهيّ وغيرها من الجوانب، كلُّ ذلك بشكل ‏موجز كبابٍ من أبواب التَّأمل في القرآن الكريم، حيث كلُّ آيةٍ منه تحتاج إلى دراسات وبحوث ‏وتحليل، وكلُّ ذلك بالاستفادة من كلمات العلماء والمفسِّرين.‏ وممَّا ينبغي الإشارة إليه أنَّه قد وقع كلامٌ طويل بين المفسِّرين والأصوليِّين والفقهاء في مدلولات هذه ‏الآية المباركة نظراً إلى شمولها لعددٍ من المضامين، بعضها مرتبط بالبحث الأصوليّ كحجِّيَّة الخبر ‏الواحد، وبعضها الآخر مرتبط بالبحث الفقهيّ وهنالك مضامين وتفصيلات كثيرة لا يسعنا الوقوف ‏عندها في هذا البحث.‏

*والكلام في مبحثين
المبحث الأوَّل: تصوُّر عامٌّ حول مفاد الآية
الفرع الأوَّل: المعاني اللُّغويَّة والاصطلاحيَّة في الآية الكريمة
يقول تعالى: {وَما كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ‌ كُلِّ‌ فِرْقَةٍ‌ مِنْهُمْ‌ طائِفَةٌ‌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي ‏الدِّينِ‌}(التَّوبة: ١٢٢).‏
‏1. {وَما كَانَ}: (ما)« هنا النَّافية وهي بمعنی ليس، ولفظ {كَانَ} لا تدلُّ دائماً على الماضي المنقطع، ‏وإن كان هذا المشهور في استعمالها في ذلك، وقد جاء ذكرها في لسان العرب وفي كتاب الله العزيز ‏بمعنى لم يزل وهي تدلُّ على الاستمراريَّة.‏
‏2. {لِيَنْفِرُوا}: يمكن أن نتطرَّق في هذه الكلمة إلى المعنى اللُّغويّ والاصطلاحي معاً كالتالي:‏
النَّفر لغة:‏
مصدر تنفَّر من الشَّيء: انزعج عنه(1). وتباعد منه، ومثله نَفَر عنه. ونفر إليه: دفع نفسه إليه، ومنه ‏النَّفْر إلى‌ مكَّة(2). ‏
والإنفار عن الشَّيء، والتَّنفير عنه، والاستنفار كلُّه بمعنى(3). ومن ذلك النَّفر بمعنى‌ الضَّرب في ‏الأرض(4)، ومنه قوله تعالى‌: {فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ‌ كُلِّ‌ فِرْقَةٍ‌ مِنْهُمْ‌ طائِفَةٌ‌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ‌}.(التَّوبة: ‏‏١٢٢)‏
النَّفر اصطلاحاً: ‏
استعمله الفقهاء في:‏
‏- تنفير الحمام، أي تهييجه وجعله يطير ويترك المكان الَّذي فيه.‏
‏- وتنفير الدَّابَّة بمعنى‌ تهييجها فارَّة من مكانها.‏
‏- وتنفير الطَّبع بمعنى‌ جعل الطَّبع الإنسانيّ يتنفَّر من الشَّيء.‏
‏- وتنفير النَّاس إلى‌ الشَّيء دفعهم إليه، مثل تنفيرهم إلى مكَّة، أو إلى الحرب.‏
‏- ومنه قولهم: النَّفر الأوَّل من منى، وهو الرُّجوع منه إلى مكَّة يوم الثَّاني عشر، والنَّفر الثَّاني هو ‏الرُّجوع يوم الثَّالث عشر لمن بقي هناك والكلام هنا في الأوَّلَين(5).‏
‏{فَلَوْ لا نَفَرَ}: بمعنى (هلَّا نفر) وهي تفيد التَّحضيض على الفعل.‏
‏{لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ}: وهنا أيضاً يمكن ذكر المعنى اللُّغويّ والاصطلاحيّ:‏
الفقه لغةً:الفهم.‏
الفقه اصطلاحاً:‏
هو العِلم بالأحكام الشَّرعيَّة الفرعيَّة عن أدلتها التَّفصيلية(6). فيُقال: فقه الرَّجل فقاهةً إذا صار فقيهاً. ‏قد اختصَّ التَّفقُّه في الدِّين بالعِلم بالأحكام الشَّرعيَّة فيُقال لكلِّ عالم بها فقيه، وقيل الفقه فهم المعاني ‏المستنبطة.‏
وتفقَّه: التَّفقُّه تعلُّم الفقه، والفقه العِلم بالشي‏ء. ‏
‏{لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}: والحذر تجنُّب الشَّي‏ء بما فيه من المضرَّة(7).‏
*الفرع الثَّاني: سبب النُّزول‏
ذكر الطَّبرسيّ في المجمع: أنَّه "قيل: كان رسول الله(ص)‏ إذا خرج غازياً لم يتخلَّف عنه إلَّا المنافقون ‏والمعذَّرون، فلمَّا أنزل الله تعالى عيوب المنافقين وبيَّن نفاقهم في غزاة تبوك قال المؤمنون: واللهِ لا ‏نتخلَّف عن غزاة يغزوها رسول الله(ص)، ولا سرية أبداً، فلمَّا أمر رسول الله‌‏(ص)‏ بالسَّرايا إلى الغزو نفر ‏المسلمون جميعاً، وتركوا رسول الله(ص)‏ وحده، فأنزل الله سبحانه‏ {وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا}(التَّوبة: ‏‏١٢٢). وقيل: إنَّها نزلت في ناس من أصحاب رسول الله‏(ص)‏ خرجوا في البوادي فأصابوا من النَّاس ‏معروفاً وخصباً ودعوا من وجدوا من النَّاس إلى الهدى، فقال النَّاس: وما نراكم إلَّا وقد تركتم ‏صاحبكم وجئتمونا، فوجدوا في أنفسهم في ذلك حرجاً، وأقبلوا كلُّهم من البادية حتَّى دخلوا على ‏النَّبيّ(ص)‏ فأنزل اللهa‏ هذه الآية"(8).‏
*الفرع الثَّالث: المعنى الإجماليّ للآية المباركة
ونذكر هنا ما ذكره الشَّيخ الطَّبرسيّ في مجمع البيان: ‏
‏{وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً}: وهذا نفيٌ معناه النَّهي؛ أي ليس للمؤمنين أن ينفروا ويخرجوا إلى ‏الجهاد بأجمعهم ويتركوا النَّبيّ(ص)‏ فريداً وحيداً، وقيل: معناه ليس عليهم أن ينفروا كلُّهم من بلادهم إلى ‏النَّبيّ(ص)‏ ليتعلَّموا الدِّين، ويضيِّعوا ما وراءهم ويخلوا ديارهم {فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ ‏لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} اختلف في معناه على وجوه:‏
‏1. إنَّ معناه فهلَّا خرج إلى الغزو من كلِّ قبيلةٍ جماعةٌ، ويبقى مع النَّبيّ‏(ص)‏ جماعةٌ ليتفقهوا في الدِّين؛ ‏يعني الفرقة القاعدين يتعلَّمون القرآن، والسُّنن، والفرائض، والأحكام، فإذا رجعت السَّرايا وقد نزل ‏بعدهم قرآن، وتعلَّمه القاعدون قالوا لهم إذا رجعوا إليهم إنَّ الله قد أنزل بعدكم على نبيكم قرآناً، وقد ‏تعلَّمناه، فتتعلُّمه السَّرايا، فذلك قوله:‏ {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} أي وليعلِّموهم القرآن، ‏ويخوِّفوهم به إذا رجعوا إليهم‏ {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} فلا يعلمون بخلافه، ويناسب هذا القول ما قد رُوِي ‏عن الإمام الباقر(ع)‏: >كَانَ هَذَا حِينَ كَثُرَ النَّاسُ فَأَمَرَهُمُ اللهُ سُبْحَانَهُ أَنْ تَنْفِرَ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ وتُقِيمَ طَائِفَةٌ ‏لِلتَّفَقُّهِ، وأَنْ يَكُونَ الغَزْوُ نَوْباً(9).‏
‏2. إنَّ التفقُّه والإنذار يرجعان إلى الفرقة النَّافرة، وحثَّها الله تعالى على التَّفقُّه لترجع إلى المتخلِّفة ‏فتحذِّرها، ومعنى‏ {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ}، ليتبصَّروا ويتيقَّنوا بما يريهم اللهُ من الظُّهور على المشركين، ‏ونصرة الدِّين، ولينذروا قومهم من الكفار إذا رجعوا إليهم من الجهاد، فيخبروهم بنصر الله النَّبيّ(ص)‏ ‏والمؤمنين ويخبروهم أنَّهم لا يُدان لهم بقتال النَّبيّ(ص)‏ والمؤمنين لعلَّهم يحذرون أن يقاتلوا النَّبيّ(ص)‏ فينزل ‏بهم ما نزل بأصحابهم من الكفَّار.‏
‏3. إنَّ التفقُّه راجع إلى النَّافرة، والتَّقدير ما كان لجميع المؤمنين أن ينفروا إلى النَّبيّ‏(ص)ويخلوا ديارهم، ‏ولكن لينفر إليه من كلِّ ناحية طائفة لتسمع كلامه(ص)، وتتعلَّم الدِّين منه، ثمَّ ترجع إلى قومها فتبيِّن لهم ‏ذلك، وتنذرهم، والمراد بالنَّفر هنا الخروج لطلب العلم، وإنَّما سُمِّيَ ذلك نفراً لما فيه من مجاهدة ‏أعداء الدِّين، وفي هذا دليلٌ على اختصاص الغربة بالتَّفقُّه، وأنَّ الإنسان يتفقَّه في الغربة ما لا يمكنه ‏ذلك في الوطن(10).‏
وأمَّا من المفسِّرين المعاصرين فنذكر أبرز ما جاء في تفسير الميزان للعلَّامة الطَّباطبائيّ:‏
قوله تعالى: {وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي ‏الدِّينِ}(التَّوبة: ١٢٢)، السِّياق يدلُّ على أنَّ المراد بقوله: {لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} لينفروا وليخرجوا إلى الجهاد ‏جميعاً، وقوله: {فِرْقَةٍ مِنْهُمْ} الضَّمير للمؤمنين الَّذين ليس‏ لهم أن ينفروا كافَّة، ولازمه أن يكون النَّفر ‏إلى النَّبيّ(ص)‏ منهم.‏
فالآية تنهى مؤمني سائر البلاد غير مدينة الرَّسول أن ينفروا إلى الجهاد كافَّة، بل يحضُّهم أن ينفر ‏طائفة منهم إلى النَّبيّ(ص)‏ للتَّفقُّه في الدِّين، وينفر إلى الجهاد غيرُهم.‏
والأنسب بهذا المعنى أن يكون الضَّمير في قوله {رَجَعُوا} للطَّائفة المتفقِّهين، وفي قوله: {إِلَيْهِمْ} ‏لقومهم، والمراد إذا رجع هؤلاء المتفقِّهون إلى قومهم، ويمكن العكس بأنَّ يكون المعنى: إذا رجع ‏قومهم من الجهاد إلى هؤلاء الطَّائفة بعد تفقُّههم ورجوعهم إلى أوطانهم.‏
ومعنى الآية: لا يجوز لمؤمني البلاد أن يخرجوا إلى الجهاد جميعاً، فهلَّا نفر وخرج إلى النَّبيّ(ص)‏ طائفةٌ ‏من كلِّ فرقة من فرق المؤمنين ليتحقَّقوا الفقه والفهم في الدِّين فيعملوا به لأنفسهم، ولينذروا بنشر ‏معارف الدِّين وذكر آثار المخالفة لأصوله وفروعه قومَهم إذا رجعت هذه الطَّائفة إليهم، لعلَّهم يحذرون ‏ويتَّقون.‏
ومن هنا يظهر:‏
أوَّلاً: أنَّ المراد بالتَّفقُّه تفهُّم جميع المعارف الدِّينيَّة من أصول وفروع لا خصوص الأحكام العمليَّة، ‏وهو الفقه المصطلح عليه عند المتشرِّعة، والدَّليل عليه قوله: {لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} فإنَّ ذلك أمر إنَّما يتمُّ ‏بالتَّفقُّه في جميع الدِّين وهو ظاهر.‏
وثانياً: أنَّ النَّفر إلى الجهاد موضوع عن طلبة العِلم الدِّينيّ بدلالة من الآية.‏
وثالثاً: أنَّ سائر المعاني المحتمَلة الَّتي ذكروها في الآية بعيدة عن السِّياق كقول بعضهم: إنَّ المراد ‏بقوله: {لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} نفرهم إلى النَّبيّ(ص)‏ للتَّفقُّه، وقول بعضهم في {فَلَوْلا نَفَرَ} أي إلى الجهاد، والمراد ‏بقوله: {لِيَتَفَقَّهُوا} أي الباقون المتخلِّفون فينذروا قومهم النَّافرين إلى الجهاد إذا رجعوا إلى أولئك ‏المتخلِّفين. فهذه ونظائرها معانٍ بعيدة لا جدوى في التَّعرُّض لها في البحث عنها(11).‏
المصدر: مجلة بقیة الله، ‏ العدد 75-76