حوزتي النجف وكربلاء وفترة الحكم البعثي
بعد وفاة آية الله العظمى السيد عبدالهادي الشيرازي في سنة 1382 ه ووفاة آية الله العظمى السيد محسن الحكيم في سنة 1390 ه ، ووفاة آية الله العظمى السيد محمود الشاهرودي في سنة 1395 ه ومن قبلهم وفاة آية الله العظمى السيد جمال الكلبايكاني في سنة 1377 ه ، تفرغت حوزة النجف الأشرف من المراجع، الآيات العظام القدامى والمعروفين جدا، ولم يبق منهم فيها على قيد الحياة سوى آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي الذي توفر له فيما بعد النصيب الأكبر من المرجعية التقليدية الكبرى للشيعة ورئاسة الحركة العلمية بالنجف، حيث إن تواجده على رأس هذه الحوزة هو من أهم العوامل في تماسكها وديمومتها وبقاءها متصلة بتاريخها العريق الذي يقرب من الألفية الأولى.
أما في كربلاء فقد وقعت حوادث غيرت كثيرا من طبيعة حوزتها العلمية إذ قامت السلطات العراقية في عام 1972 للميلاد بإبعاد مجموعة كبيرة من المواطنين الإيرانيين أو من هم من أصل إيراني عن أرض العراق وحتى العراقيين الذين لم يوالوا النظام العراقي، وكان ذلك بسبب التوترات التي طرأت في العلاقات الإيرانية العراقية أيام حكم الشاه، وكان من بين هؤلاء العديد من العلماء ورجال الدين والأسر العلمية المعروفة في كربلاء، كما أن آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي بوصفه أهم دعامة في الحركة العلمية والحوزوية في كربلاء كان قد غادرها هو الآخر قسرا في سنة 1391 ه مستوطنا الكويت، حيث أنشأ حوزة علمية نشطة هناك وبقي لسنوات عديدة يمسك بناصية المرجعية الدينية فيها حتى تاريخ إنتصار الثورة الإسلامية في إيران، وعندئذ هاجرها إلى إيران في سنة 1400 ه واقام بمدينة قم المقدسة.
ثم حصلت في أعقاب تغيير نظام الحكم الملكي في إيران توترات جديدة معروفة في العلاقات الإيرانية العراقية، تبعتها عمليات تهجير أخرى شملت المواطنين الإيرانيين ومن هم من أصل إيراني في كربلاء والنجف بوجه خاص، الأمر الذي أفرغ الحوزتين العلميتين فيهما من دعاماتها وركائزها أكثر فأكثر؛ غير أن الشيء المؤكد في الوقت الحاضر، هو أن حوزة النجف هي كعهدها السابق ناشطة وقائمة بثبات على قدميها، وذلك بفضل تواجد مراجع تقليد كبار؛ مثل آية ألله العظمى السيد الخوئي ومن بعده السبزواري الى السيد علي السيستاني في الوقت الحاضر.
ولقد حصلت هجرة في صفوف العلماء والأساتذة بحوزة النجف خلال الفترة ذاتها لأسباب سياسية معروفة للجميع، لكن وجود رمز على رأسها يتمثل بالدرجة الأولى في زعامة السيد الخوئي، قد حافظ على تماسكها وديمومة نشاطها العلمي والتدريسي، بيد أن مثل هذا الشيء لم يحصل بالنسبة لمدينة كربلاء، بسبب أن دعامات حوزتها وحركتها العلمية إضطرت لأن تغادرها أو أن تغيب عن ساحتها، فكان طبيعيا أن يحدث تخلخل فيها.
وقد يكون من اسباب ذلك هو أن الزعماء الروحيين في كربلاء سعوا بشكل أو بآخر إلى ممارسة دور سياسي إلى جانب دورهم الديني، أو بتعبير أصح، كانت لهم مواقف سياسية معلنة إزاء الأحداث والتطورات على الساحة السياسية في العراق، خاصة تلك التي لها إرتباط بالشعائر المذهبية ذات الطابع العاطفي. ولذلك كانت تقع بين فترة وأخرى تصادمات وتوترات بين كربلاء وحوزتها العلمية من جهة وبين السلطات الزمنية في العراق من جهة أخرى، إضافة إلى ما ذكرناه سابقا من أن مدينة كربلاء كانت على مر التاريخ معرضة لغارات وهجمات تركت تأثيرات سلبية على مسيرة الحركة العلمية والتدريسية فيها، بينما النجف لم تتعرض لمثل هذه الغارات والهجمات إلا في حالات قليلة، بفضل ما كان لها من دفاعات وسياجات قوية في الماضي، والتي مكنتها على سبيل المثال من الصمود والمقاومة لأكثر من شهر أمام طوق الحصار الذي كانت قوات الإحتلال البريطانية قد فرضته حولها، في محاولة للقبض على عدد من المجاهدين العراقيين المتحدّين لسلطة الإحتلال والفارين من قبضتها، والذين كانوا قد إلتجأوا لهذه المدينة المقدسة طالبين من أهلها الأمان.
ولعل من جملة الأسباباألأخرى في ديمومة الحوزة العلمية في النجف وبقاءها راسخة وثابتة على قدميها، طاقاتها الهائلة التي تراكمت وتدعمت عبر الف سنة متواصلة من تاريخها العريق، فقد بقيت كل هذه الفترة الطويلة الحوزة العلمية الأم تقريبا. وطبيعي أنه من غير الممكن لأية سلطة زمنية في العراق تجاهل هذه الحقيقة المتمثلة في المركزية الدينية الأولى للنجف الأشرف ومدى تعلقها الروحي والعاطفي بالشيعة وعلماءهم اينما كانوا، فيما الحوزة العلمية في كربلاء كانت إمتدادا أو رديفا داعما لحوزة النجف، بإستثناء فترات كان السبق العلمي والتجديدي فيها من نصيب كربلاء وحدها، غير أن تابعيتها لحوزة النجف اصبحت مكرسة بشكل ملحوظ ومشهود منذ النصف الثاني من القرن الرابع عشر الهجري؛ اي إبتداء من عهد رئاسة المرجع الديني الأكبر السيد أبي الحسن الموسوي الأصفهاني المتوفى سنة 1365 ه وإنتهاء برئاسة السيد السيستاني.
ويبقى القول أخيرا: إن في كربلاء ايضا طاقة علمية هائلة تراكمت عن نتاج أجيال متعاقبة من العلماء والفقهاء والأساتذة المحققين الذين طفحت صفحات كتب التاريخ والسير بمآثرهم ومعطياتهم العلمية وأن مثل هذا التراث الزاخر يمكنه أن يشكل أرضية مناسبة لأية حركة علمية متجددة مستقبلية خاصة إذا ما اخذنا في إعتبارنا تلك العوامل الروحية الجاذبة التي تمتلكها مدينة كربلاء المقدسة أكثر من أية مدينة مقدسة اخرى.
ومن الطبيعي ان تتنفس الحركة الحوزوية الصعداء بعد زوال النظام البعثي في كربلاء مثلما في بقية المدن العراقية وقد حصل بالفعل ذلك بعودة العديد من المجتهدين و الفقهاء والعقول والكفاءات الدينية الى كربلاء.
المصدر: شبکة کربلاء المقدسة