الشيخ آية الله محمّد واعظ زاده الخراساني(ره)؛ عضو المجلس الأعلى للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية
مصادر الفقه عند الشيعة الإمامية
بعد أن أخذ الفقه بكامله موقعه عند الإمامية، أعلن الفقهاء أن مصادر الفقه هي الأدلة الأربعة: الكتاب والسنة والإجماع والعقل، وإليكم التفصيل:
1- الكتاب
ويراد به القرآن، وهو الحجة الأولى عندهم، وغيرها من الأدلة تعرض عليه حتى لا تخالفه. والبحث عن حجية الكتاب كغيره من الأدلة من أهم المباحث الأصولية ولاسيما بحث ظواهر ألفاظ الكتاب، وحمل متشابهه على محكمه، ورفع التعارض بينه وبين ماثبت من السنة. ثم قسم كبير من علم الأُصول يبحث عن مفاهيم ألفاظ وردت في الكتاب والسنة من الأمر والنهي، والعام والخاص، والمطلق والمبين، والمفهوم والمنطوق. كما أن بحثا جاء في الأُصول حول الناسخ والمنسوخ في الكتاب والسنة، ونسخ بعضهما ببعض.
وهناك بحث حول عدم تحريف الكتاب بعد ماشك فيه بعض الأخبارية استنادا إلى روايات ضعيفة، فرفضه الأصوليون بتاتا، وبينوا خطأهم، وضعّفوا وأبطلوا، أو أوّلوا ما تمسّكوا به لرأيهم، بحيث لم يبق مقال لقائل ولا مصال لصائل. وكثيرا مايسند هذا الخطأ إلى الإمامية جمعاء، و لايصّح ذلك إلا ماشذ عن هؤلاء الأخبارية قديما وقد انصرفوا عنه بعد ذلك والحمد لله تعالى. فظهر أن نص الكتاب عند الإمامية كغيرهم متواتر قطعي كاد أن يكون من الضروريات عندهم.
2- السنة:
والمراد بها سنة الرسول(ص) وقد ألحق بها ماصح عن الأئمة(ع) توضيح ذلك أن الكتاب والسنة هما الركنان المعتمد عليهما عند الإمامية كغيرهم من المسلمين، وقد جاء باب في كتاب الكافي بعنوان (الرد إلى الكتاب والسنة وأنه ما من شيء من الحلال والحرام وجميع مايحتاج الناس إليه إلا وقد جاء فيه كتاب أو سنة). وأيضاً باب (الأخذ بالسنة وشواهد الكتاب). وفيهما روايات تصرح بأن الأئمة(ع) كانوا يستندون في أقوالهم إلى الكتاب والسنة، وهذا لا كلام فيه عند الإمامية، وقد ألحقوا ما استند إلى الأئمة بالسنة من أجل ماثبت لديهم أنها حجة كسنة النبي، لروايات صحت عندهم من أشهرها حديث الثقلين المستفيض بل المتواتر عن طريق الفريقين، أن النبي(ص) قال في غير موقف: (اني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي) وقد روي عن حوالي ستة وعشرين صحابيا. وجمعت طرقه ومتونه مع اختلاف ألفاظها في رسالة باسم (حديث الثقلين) ونشرتها دار التقريب بين المذاهب الإسلامية بالقاهرة قبل حوالي خمس وثلاثين سنة، وقد جدّدنا طبعها مع تذييل منا من قبل (المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية).
فالشيعة الإمامية يعتقدون حجية ماصحّ عن واحد من أئمة آل البيت من الروايات والأقوال والفتاوي كمصدر للشريعة استنادا إلى هذا الحديث وغيره من الروايات. ومن هذا المنطلق وسّعوا في مفهوم السنة إلى سنة المعصوم لتشمل سنة النبي والإمام كليهما. كما أن أهل السنة ألحقوا آثار الصحابة بالسنة وعملوا بها بشروط عندهم.
ومعلوم أن الإمامية كغيرهم من فقهاء المذاهب لا يقبلون الحديث إلا بشروط وقد قسّموا الأحاديث إلى أقسام حسب ماجاء في (علم مصطلح الحديث) بتفاوت بينهم وبين الجمهور، فقد قسّموا الحديث إلى متواتر وغير متواتر، وغير المتواتر إلى خبر الواحد والمستفيض أو المشهور أو ماقطع بصحته بقرائن، وقسّموا خبر الواحد إلى صحيح وموثّق وحسن وضعيف. ولمعرفة رجال الحديث عندهم علم خاص وقد ألفوا فيه كتبا مطولة ومتوسطه وموجزة، سَمّوه (علم الرجال) كما سمّوا علم مصطلح الحديث (علم الحديث) أو (علم الدراية).
والبحث الذي استوعب قسما من علم الأُصول هو حجية خبر الواحد الذي ليس قطعيا – وأكثر الأحاديث عندهم من هذا القبيل – فاحتجوا لها بآيات من الكتاب وبما ثبت عندهم من السنة أو الإجماع – وقد طال البحث حوله نقضا وابراما، لما ثبت عند القدماء من الامامية (أن خبر الواحد لا يُجدي علما ولا عملا)أي لا اعتبار به لا في حقل العقيدة ولا في حقل الشريعة. وهناك بازاء ذلك رأي للأخبارية أن كل ما في الكتب الأربعة أي: (الكافي) للكليني (م 329هـ) و(من لا يحضره الفقيه) للشيخ الصدوق (م381هـ) و(تهذيب الأحكام) و(الاستبصار فيما اختلف من الأخبار) كلاهما لابي جعفر الطوسي (380 – 460) فهو قطعي الصدور، ولم يثبت هذا عند الأصوليين، فلابد لهم من إقامة الحجة على اعتبار ماجاء فيها أو في غيرها من كتب الحديث من الأحاديث غير القطعية. وهذا ما أوقعهم في الحرج إذ ليس عندهم كتاب يسمى بـ(الصحيح) كما عند الجمهور، بل كل حديث في هذه الكتب الأربعة أو في غيرها قابل للنقاش لكي تثبت صحته. ثم هذه الروايات قسم كبير منها متعارضة في بدو النظر ، فلا تقبل إلا بعد رفع التعارض. وقد تصدّى أبو جعفر الطوسي في كتابه (تهذيب الاحكام) لبيان رفع التعارض بينها وهو أول كتاب روائي في هذا الباب، لكنه كان حاويا للأخبار الموافقة والمتعارضة كلتيهما فخصّ الطوسي الأخبار المتعارضة بكتاب سماه (الاستبصار فيما اختلف من الأخبار) تعرض فيه للجمع بين هذه الروايات بوجوه ذكرها في مقدمة هذا الكتاب. ومن هذا المنطلق فكتاب الاستبصار يحوي قسما من التهذيب فقط من دون زيادة عليه، وهو كتاب منتظم الأبواب خاص بالروايات المتعارضة، بخلاف تهذيب الأحكام الذي يعبر عنه الطوسي كثيرا بـ(الكتاب الكبير) فهو شرح لكتاب أستاذه الشيخ المفيد باسم (المقنعة) من غير انتظام ولا ترتيب أنيق وفيه أبواب للزيادات اللاتي ألحقها الطوسي بالكتاب ومكررّات من الأخبار أيضاً.
فقام في القرن الحادي عشر عالم باسم السيد هاشم البحراني (م1107هـ) بترتيبه في كتاب سماه (ترتيب التهذيب) طبع على الحجر. ونحن وإن لا نعتبر تلك الكتب الأربعة صحاحا بالمعنى المصطلح عند أهل السنة، إلا أنها من أهم كتب الحديث عند الإمامية وماجاء في غيرها من الأحاديث دون ما جاء فيها اعتبارا.
وقد كانت تلك الكتب مرجعا للفقهاء إلى أن دوّنت في القرن الحادي عشر ثلاثة كتب مطولات: وهي (وسائل الشيعة في أحكام الشريعة) لمحمد بن الحسن الحر العاملي (1032 – 1104) وعليه المعوّل في الفقه منذ تأليفه و(الوافي) لمحمد محسن الفيض الكاشاني (المتوفي 1091) و(بحار الأنوار) لمحمد باقر المجلسي (1027 –1111) فضمّت هذه الموسوعات الثلاث إلى تلك الكتب الأربعة، مع تفاوت بينها كما بين تلك الأربعة، فإن الكافي من بين الأربعة اختص بجمع الروايات في حقل العقيدة والشريعة، فيعتبر جامعا كصحيح البخاري ومسلم والترمذي عند الجمهور، والثلاثة الباقية خاصة بالسنن والأحكام. ومن بين الثلاث المتأخرة كتاب (الوسائل) أيضاً خاص بالسنن والأحكام، و(الوافي) جامع لأحاديث الكتب الأربعة فقط، فهو باعتبار اشتماله لروايات (الكافي) يعد جامعا، و(البحار) جمع روايات غير الكتب الأربعة في يعدّ جامعا أيضاً، إلا أن مصطلح (الجامع) و(السنن) الشايع عند أهل السنة ليس متداولا بين الإمامية. وباعتبار أن المشايخ أرباب الكتب الأربعة كان أسماءهم (محمدا) وكذلك أسامي مؤلّفي المجاميع الثلاث الأخيرة فاشتهروا بـ (المحمدون الثلاثة الأول) و(المحمدون الثلاثة الأخر).
وقد ضُمّت إليها في القرن الرابع عشر الهجري موسوعة باسم (مستدرك الوسائل) للشيخ ميرزا حسين النوري (م1320هـ) استدرك فيه مافات صاحب (الوسائل)، أو مالم يرد ذكره عمدا من الأخبار، وموسوعة أخرى باسم (جامع الأحاديث الفقهية) ألفت باشراف أستاذنا الإمام البروجردي(ره) وبمباشرة جماعة ممن تتلمذ عليه – وكنت أنا من جملتهم – وقد جمع فيها كل مافي تلك المجاميع مما يرتبط بالأحكام ، مع الجمع والإدغام بين الأسانيد والمتون، وفي هذا الكتاب مزايا هي عون للفقيه على الإحاطة بأخبار كل باب والإفادة منها مما لا يوجد في غيره من كتب الحديث قبله.
أما بعد، فهذا عرض سريع للسنة عند الإمامية والتفصيل فيها يتطلب مجالا واسعا جدا.
3- الإجماع:
وقد كان الإجماع بشروط أحد مصادر الفقه عند الجمهور مستندا إلى حديث (لا تجتمع أمتي على خطأ) وإلى أدلة أخرى لم يثبت شيء منها عند الإمامية كدليل مقنع إلا أنهم اصطلحوا في القرن الرابع. على عد الإجماع من مصادر الفقه بمعنى آخر غير ماعند الجمهور، فالإجماع عند الجمهور عبارة عن اجتماع الأئمة أو فقهاء الأمة على حكم في عصر من العصور، أما الإمامية فلا يعتبرون الإجماع بنفسه دليلا إلا إذا بلغ مبلغ القطعيات والضروريات مثل أن صلاة الصبح ركعتان وكل من صلاتي الظهر والعصر أربع ركعات وهكذا، فهذا خارج عن الإجماع، ولا يحتاج الفقيه في مثله إلى إقامة الحجة عليه.
وإنّما الإجماع عندهم هو اجتماع جماعة يكون الإمام أحدهم على حكم من الأحكام. فمآل إجماعهم إلى السنة وليس دليلا برأسه، ولهم أبحاث كثيرة في أقسام الإجماع من المحصل والمنقول وفي كيفية كشفه عن قول الإمام المعصوم. وإن الإمامية حسب قاعدتهم في اعتبار الإجماع قد نصّوا على أنه لو اتفق اثنان أحدهم الإمام على حكم، واتفق جماعة غيرهما على مايخالفه، فالعبرة بالأول دون الثاني. وقد تمسكوا بالإجماع على حكم وعلى ضده من قبل فقيهين، بل من قبل فقيه واحد في كتابيه، ومن أجل ذلك لا يعد الإجماع عندهم إلا مؤيدا لغيره من الأدلة، إلا في قليل من المسائل.
وقد ألحقوا بالإجماع (الشهرة) فبعضهم يفتي بماهو المشهور عند فقهاء الإمامية ولا يتعداه. وقد بحثوا في علم الأُصول حول (الشهرة) وما أريد بها، هل هي شهرة فتوائية أو شهرة روائية، وكان أستاذنا البروجردي له رأي خاص في الشهرة، فكان يعتبر شهرة حكم من الأحكام عند أصحاب الأئمة العارفين بأحكامهم هي الحجة، ومن هنا كان(ره) يهتم بجمع الفتاوي المشهورة بين الإمامية في عصر الأئمة(ع)، أو ما قارب عصرهم، وقد جمعت بأمره فتاوى ابن أپي عقيل العماني الذي كان يعيش في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع الهجري، وكذلك فتاوى ابن جنيد الإسكافي (م 381هـ) المتقدم ذكره ويعبّر عنهما بـ (القديمين).
وكذلك ألحقوا بالإجماع (سيرة المسلمين) أو (سيرة المتشرعة) منهم بشروط. ونحن نعرف أن شيئا من ذلك كالإجماع ليس حجة دليلا، إلا بكشفها عن قول الإمام الذي هو الحجة عند الإمامية كما سبق.
4- الدليل العقلي:
ربما يظن من لا خبرة له بمصطلحات الإمامية أنهم يفتون بالعقل ويجعلونه دليلا من أدلة الأحكام، كالكتاب والسنة، وليس ذلك على إطلاقه، فإنهم إنـّما يلتجئون إلى ما استقل به العقل بعد الفحص واليأس عن الدليل: أي الكتاب والسنة والإجماع المعتبر، في ظروف الحيرة والشك في حكم من الأحكام الكلية أو الجزئية مثل الشك في أن (شرب التتن) حرام أو مباح، والشك في أن هذا المايع (خمر أو خل) فحينئذ يعوّلون إلى ما حكم به العقل من الوظيفة العملية لرفع الحيرة، وليس لاستنباط حكم شرعه الله في ذلك، إذ لا طريق إليه.
*وقد قسّموا موارد الشك إلى أربعة أقسام:
أولا: ماله علم سابق، فجعلوه مجرى الاستصحاب، وهو دليل عند ساير الفقهاء أيضاً فيحكمون بما ثبت سابقا لموارد الشك، وله فروع وأقسام كثيرة عندهم واستوعب قسما كبيرا من علم الأُصول.
وثانيا: ماليس فيه علم سابق فله ثلاثة أحوال:
أحدها ما الشك فيه مقرون بالعلم الإجمالي مثل أن يعلم ان الصلاة الواجبة يوم الجمعة إما الظهر أو الجمعة ولم يعلمها بعينها، أو يعلم أن أحد الإنائين نجس ولم يعلمه بعينه فالحكم فيه عقلا الاحتياط، إذا كان الاحتياط ممكناً، لأن العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي يستدعي الامتثال اليقيني، ولا طريق إليه سوى الاحتياط فيأتي بالصلاتين معا، ويرفض اليد عن الإنائين معا، وصولا إلى امتثال المولى جل شأنه امتثالا قطعيا إجماليا.
ثانيها: نفس الفرض فيما لا يمكن الاحتياط فيه، فالحكم التخيير عقلا، كما إذا دار الأمر بين شيئين لا يمكن الجمع بينهما كالواجب والحرام.
ثالثها: ما ليس الشك فيه مقرونا بالعلم الإجمالي – ويعبّر عنه بالشك البدوي – كأن شك في وجوب عمل أو عدم وجوبه، أو في حرمة شيء أو إباحته، وليس لهما حالة معلومة سابقا، فالأصل فيه البرائة عقلا – وكذلك نقلا – عند الأصوليين، والاحتياط عند الأخباريين في الشبهات التحريمية خاصة، وهذا أحد موارد الخلاف بين الفريقين، وقد قسّموه إلى الشك في الوجوب، أو الحرمة وفي الحكم أو في الموضوع إلى غيرها مما جاء في الأُصول.
هذه هي الأُصول العملية الأربعة، الجارية في عامة أبواب الفقه. وهناك أصول أخرى خاصة ببعض الأبواب ولها أدلة خاصة: كأصل الطهارة، وأصل الحلية فيما شك في طهارته أو في حليته. كذلك هناك قواعد فقهية غير ماذكر جارية في موارد خاصة من الفقه، ويدور أمرها بين كونها من الأمارات أو من الأُصول مثل اليد وقاعدة الصحة وغيرهما.
ومن ذلك يعلم أن الدليل العقلي عند الإمامية، حقيقتها وظائف عملية عند الشك في الحكم أو في موضوع الحكم. هناك طور آخر من الدليل العقلي مبني على استقلال العقل بحسن أو بقبح بعض الأعمال كحسن العدل وقبح الظلم، ويتفرع عليه الحكم شرعا، لما ثبت عندهم من (أن كلما حكم به العقل حكم به الشرع) وكذلك (كلـّما حكم به الشرع حكم به العقل). وعند الإمامية في الدليل العقلي كلام طويل في علم الأُصول، ويكفي الطالب بحث (المستقلات العقلية والدليل العقلي) في كتاب (أصول الفقه) للشيخ المظفر(ره).
تتابع
المصدر: المجمع العالي للتقریب بین المذاهب الإسلامیة