printlogo


printlogo


مقالة - الجزء الثاني
الاجتهاد عند الشيعة الإمامية

 مصادر الفقه عند الشيعة الإمامية
بعد أن أخذ الفقه بكامله موقعه عند الإمامية، أعلن الفقهاء أن مصادر الفقه هي الأدلة الأربعة: الكتاب ‏والسنة والإجماع والعقل، وإليكم التفصيل:‏
 
‏1- الكتاب
ويراد به القرآن، وهو الحجة الأولى عندهم، وغيرها من الأدلة تعرض عليه حتى لا تخالفه. والبحث ‏عن حجية الكتاب كغيره من الأدلة من أهم المباحث الأصولية ولاسيما بحث ظواهر ألفاظ الكتاب، ‏وحمل متشابهه على محكمه، ورفع التعارض بينه وبين ماثبت من السنة. ثم قسم كبير من علم ‏الأُصول يبحث عن مفاهيم ألفاظ وردت في الكتاب والسنة من الأمر والنهي، والعام والخاص، ‏والمطلق والمبين، والمفهوم والمنطوق. كما أن بحثا جاء في الأُصول حول الناسخ والمنسوخ في ‏الكتاب والسنة، ونسخ بعضهما ببعض.‏
وهناك بحث حول عدم تحريف الكتاب بعد ماشك فيه بعض الأخبارية استنادا إلى روايات ضعيفة، ‏فرفضه الأصوليون بتاتا، وبينوا خطأهم، وضعّفوا وأبطلوا، أو أوّلوا ما تمسّكوا به لرأيهم، بحيث لم يبق ‏مقال لقائل ولا مصال لصائل. وكثيرا مايسند هذا الخطأ إلى الإمامية جمعاء، و لايصّح ذلك إلا ماشذ ‏عن هؤلاء الأخبارية قديما وقد انصرفوا عنه بعد ذلك والحمد لله تعالى. فظهر أن نص الكتاب عند ‏الإمامية كغيرهم متواتر قطعي كاد أن يكون من الضروريات عندهم.‏
 
‏2- السنة:‏
والمراد بها سنة الرسول(ص) وقد ألحق بها ماصح عن الأئمة(ع) توضيح ذلك أن الكتاب والسنة هما ‏الركنان المعتمد عليهما عند الإمامية كغيرهم من المسلمين، وقد جاء باب في كتاب الكافي بعنوان ‏‏(الرد إلى الكتاب والسنة وأنه ما من شيء من الحلال والحرام وجميع مايحتاج الناس إليه إلا وقد ‏جاء فيه كتاب أو سنة). وأيضاً باب (الأخذ بالسنة وشواهد الكتاب). وفيهما روايات ‏تصرح بأن الأئمة(ع)‏ كانوا يستندون في أقوالهم إلى الكتاب والسنة، وهذا لا كلام فيه عند الإمامية، وقد ‏ألحقوا ما استند إلى الأئمة بالسنة من أجل ماثبت لديهم أنها حجة كسنة النبي، لروايات صحت ‏عندهم من أشهرها حديث الثقلين المستفيض بل المتواتر عن طريق الفريقين، أن النبي(ص) قال في غير موقف: (اني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي) وقد روي عن حوالي ستة ‏وعشرين صحابيا. وجمعت طرقه ومتونه مع اختلاف ألفاظها في رسالة باسم (حديث الثقلين) ‏ونشرتها دار التقريب بين المذاهب الإسلامية بالقاهرة قبل حوالي خمس وثلاثين سنة، وقد جدّدنا ‏طبعها مع تذييل منا من قبل (المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية).‏
فالشيعة الإمامية يعتقدون حجية ماصحّ عن واحد من أئمة آل البيت من الروايات والأقوال والفتاوي ‏كمصدر للشريعة استنادا إلى هذا الحديث وغيره من الروايات. ومن هذا المنطلق وسّعوا في مفهوم ‏السنة إلى سنة المعصوم لتشمل سنة النبي والإمام كليهما. كما أن أهل السنة ألحقوا آثار الصحابة ‏بالسنة وعملوا بها بشروط عندهم.‏
ومعلوم أن الإمامية كغيرهم من فقهاء المذاهب لا يقبلون الحديث إلا بشروط وقد قسّموا الأحاديث ‏إلى أقسام حسب ماجاء في (علم مصطلح الحديث) بتفاوت بينهم وبين الجمهور، فقد قسّموا الحديث ‏إلى متواتر وغير متواتر، وغير المتواتر إلى خبر الواحد والمستفيض أو المشهور أو ماقطع بصحته ‏بقرائن، وقسّموا خبر الواحد إلى صحيح وموثّق وحسن وضعيف. ولمعرفة رجال الحديث عندهم علم ‏خاص وقد ألفوا فيه كتبا مطولة ومتوسطه وموجزة، سَمّوه (علم الرجال) كما سمّوا علم مصطلح ‏الحديث (علم الحديث) أو (علم الدراية).‏
والبحث الذي استوعب قسما من علم الأُصول هو حجية خبر الواحد الذي ليس قطعيا – وأكثر ‏الأحاديث عندهم من هذا القبيل – فاحتجوا لها بآيات من الكتاب وبما ثبت عندهم من السنة أو ‏الإجماع – وقد طال البحث حوله نقضا وابراما، لما ثبت عند القدماء من الامامية (أن خبر الواحد لا ‏يُجدي علما ولا عملا)أي لا اعتبار به لا في حقل العقيدة ولا في حقل الشريعة. وهناك بازاء ذلك ‏رأي للأخبارية أن كل ما في الكتب الأربعة أي: (الكافي) للكليني (م 329هـ) و(من لا يحضره الفقيه) ‏للشيخ الصدوق (م381هـ) و(تهذيب الأحكام) و(الاستبصار فيما اختلف من الأخبار) كلاهما لابي ‏جعفر الطوسي (380 – 460) فهو قطعي الصدور، ولم يثبت هذا عند الأصوليين، فلابد لهم من إقامة ‏الحجة على اعتبار ماجاء فيها أو في غيرها من كتب الحديث من الأحاديث غير القطعية. وهذا ما ‏أوقعهم في الحرج إذ ليس عندهم كتاب يسمى بـ(الصحيح) كما عند الجمهور، بل كل حديث في هذه ‏الكتب الأربعة أو في غيرها قابل للنقاش لكي تثبت صحته. ثم هذه الروايات قسم كبير منها متعارضة ‏في بدو النظر ، فلا تقبل إلا بعد رفع التعارض. وقد تصدّى أبو جعفر الطوسي في كتابه (تهذيب ‏الاحكام) لبيان رفع التعارض بينها وهو أول كتاب روائي في هذا الباب، لكنه كان حاويا للأخبار ‏الموافقة والمتعارضة كلتيهما فخصّ الطوسي الأخبار المتعارضة بكتاب سماه (الاستبصار فيما اختلف ‏من الأخبار) تعرض فيه للجمع بين هذه الروايات بوجوه ذكرها في مقدمة هذا الكتاب. ومن هذا ‏المنطلق فكتاب الاستبصار يحوي قسما من التهذيب فقط من دون زيادة عليه، وهو كتاب منتظم ‏الأبواب خاص بالروايات المتعارضة، بخلاف تهذيب الأحكام الذي يعبر عنه الطوسي كثيرا بـ(الكتاب ‏الكبير) فهو شرح لكتاب أستاذه الشيخ المفيد باسم (المقنعة) من غير انتظام ولا ترتيب أنيق وفيه ‏أبواب للزيادات اللاتي ألحقها الطوسي بالكتاب ومكررّات من الأخبار أيضاً.‏
فقام في القرن الحادي عشر عالم باسم السيد هاشم البحراني (م1107هـ) بترتيبه في كتاب سماه ‏‏(ترتيب التهذيب) طبع على الحجر. ونحن وإن لا نعتبر تلك الكتب الأربعة صحاحا بالمعنى المصطلح ‏عند أهل السنة، إلا أنها من أهم كتب الحديث عند الإمامية وماجاء في غيرها من الأحاديث دون ما ‏جاء فيها اعتبارا.‏
وقد كانت تلك الكتب مرجعا للفقهاء إلى أن دوّنت في القرن الحادي عشر ثلاثة كتب مطولات: وهي ‏‏(وسائل الشيعة في أحكام الشريعة) لمحمد بن الحسن الحر العاملي (1032 – 1104) وعليه المعوّل ‏في الفقه منذ تأليفه و(الوافي) لمحمد محسن الفيض الكاشاني (المتوفي 1091) و(بحار الأنوار) لمحمد ‏باقر المجلسي (1027 –1111) فضمّت هذه الموسوعات الثلاث إلى تلك الكتب الأربعة، مع ‏تفاوت بينها كما بين تلك الأربعة، فإن الكافي من بين الأربعة اختص بجمع الروايات في حقل العقيدة ‏والشريعة، فيعتبر جامعا كصحيح البخاري ومسلم والترمذي عند الجمهور، والثلاثة الباقية خاصة ‏بالسنن والأحكام. ومن بين الثلاث المتأخرة كتاب (الوسائل) أيضاً خاص بالسنن والأحكام، ‏و(الوافي) جامع لأحاديث الكتب الأربعة فقط، فهو باعتبار اشتماله لروايات (الكافي) يعد جامعا، ‏و(البحار) جمع روايات غير الكتب الأربعة في يعدّ جامعا أيضاً، إلا أن مصطلح (الجامع) و(السنن) ‏الشايع عند أهل السنة ليس متداولا بين الإمامية. وباعتبار أن المشايخ أرباب الكتب الأربعة كان ‏أسماءهم (محمدا) وكذلك أسامي مؤلّفي المجاميع الثلاث الأخيرة فاشتهروا بـ (المحمدون الثلاثة ‏الأول) و(المحمدون الثلاثة الأخر).‏
وقد ضُمّت إليها في القرن الرابع عشر الهجري موسوعة باسم (مستدرك الوسائل) للشيخ ميرزا حسين ‏النوري (م1320هـ) استدرك فيه مافات صاحب (الوسائل)، أو مالم يرد ذكره عمدا من الأخبار، ‏وموسوعة أخرى باسم (جامع الأحاديث الفقهية) ألفت باشراف أستاذنا الإمام البروجردي(ره) وبمباشرة جماعة ممن تتلمذ عليه – وكنت أنا من جملتهم – وقد جمع فيها كل مافي تلك ‏المجاميع مما يرتبط بالأحكام ، مع الجمع والإدغام بين الأسانيد والمتون، وفي هذا الكتاب مزايا هي ‏عون للفقيه على الإحاطة بأخبار كل باب والإفادة منها مما لا يوجد في غيره من كتب الحديث قبله.‏
أما بعد، فهذا عرض سريع للسنة عند الإمامية والتفصيل فيها يتطلب مجالا واسعا جدا.‏
 
‏3- الإجماع:‏
وقد كان الإجماع بشروط أحد مصادر الفقه عند الجمهور مستندا إلى حديث (لا تجتمع أمتي على ‏خطأ) وإلى أدلة أخرى لم يثبت شيء منها عند الإمامية كدليل مقنع إلا أنهم اصطلحوا في القرن الرابع. ‏على عد الإجماع من مصادر الفقه بمعنى آخر غير ماعند الجمهور، فالإجماع عند الجمهور عبارة عن ‏اجتماع الأئمة أو فقهاء الأمة على حكم في عصر من العصور، أما الإمامية فلا يعتبرون الإجماع ‏بنفسه دليلا إلا إذا بلغ مبلغ القطعيات والضروريات مثل أن صلاة الصبح ركعتان وكل من صلاتي الظهر ‏والعصر أربع ركعات وهكذا، فهذا خارج عن الإجماع، ولا يحتاج الفقيه في مثله إلى إقامة الحجة ‏عليه.‏
وإنّما الإجماع عندهم هو اجتماع جماعة يكون الإمام أحدهم على حكم من الأحكام. فمآل ‏إجماعهم إلى السنة وليس دليلا برأسه، ولهم أبحاث كثيرة في أقسام الإجماع من المحصل والمنقول ‏وفي كيفية كشفه عن قول الإمام المعصوم. وإن الإمامية حسب قاعدتهم في اعتبار الإجماع قد نصّوا ‏على أنه لو اتفق اثنان أحدهم الإمام على حكم، واتفق جماعة غيرهما على مايخالفه، فالعبرة بالأول ‏دون الثاني. وقد تمسكوا بالإجماع على حكم وعلى ضده من قبل فقيهين، بل من قبل فقيه واحد في ‏كتابيه، ومن أجل ذلك لا يعد الإجماع عندهم إلا مؤيدا لغيره من الأدلة، إلا في قليل من المسائل.‏
وقد ألحقوا بالإجماع (الشهرة) فبعضهم يفتي بماهو المشهور عند فقهاء الإمامية ولا يتعداه. وقد بحثوا ‏في علم الأُصول حول (الشهرة) وما أريد بها، هل هي شهرة فتوائية أو شهرة روائية، وكان أستاذنا ‏البروجردي له رأي خاص في الشهرة، فكان يعتبر شهرة حكم من الأحكام عند أصحاب الأئمة ‏العارفين بأحكامهم هي الحجة، ومن هنا كان(ره) يهتم بجمع الفتاوي المشهورة بين الإمامية ‏في عصر الأئمة(ع)، أو ما قارب عصرهم، وقد جمعت بأمره فتاوى ابن أپي عقيل العماني الذي كان ‏يعيش في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع الهجري، وكذلك فتاوى ابن جنيد الإسكافي (م ‏‏381هـ) المتقدم ذكره ويعبّر عنهما بـ (القديمين).‏
وكذلك ألحقوا بالإجماع (سيرة المسلمين) أو (سيرة المتشرعة) منهم بشروط. ونحن نعرف أن شيئا ‏من ذلك كالإجماع ليس حجة دليلا، إلا بكشفها عن قول الإمام الذي هو الحجة عند الإمامية كما ‏سبق.‏
 
‏4- الدليل العقلي:‏
ربما يظن من لا خبرة له بمصطلحات الإمامية أنهم يفتون بالعقل ويجعلونه دليلا من أدلة الأحكام، ‏كالكتاب والسنة، وليس ذلك على إطلاقه، فإنهم إنـّما يلتجئون إلى ما استقل به العقل بعد الفحص ‏واليأس عن الدليل: أي الكتاب والسنة والإجماع المعتبر، في ظروف الحيرة والشك في حكم من ‏الأحكام الكلية أو الجزئية مثل الشك في أن (شرب التتن) حرام أو مباح، والشك في أن هذا المايع ‏‏(خمر أو خل) فحينئذ يعوّلون إلى ما حكم به العقل من الوظيفة العملية لرفع الحيرة، وليس لاستنباط ‏حكم شرعه الله في ذلك، إذ لا طريق إليه.‏
*وقد قسّموا موارد الشك إلى أربعة أقسام:‏
أولا: ماله علم سابق، فجعلوه مجرى الاستصحاب، وهو دليل عند ساير الفقهاء أيضاً فيحكمون بما ‏ثبت سابقا لموارد الشك، وله فروع وأقسام كثيرة عندهم واستوعب قسما كبيرا من علم الأُصول.‏
وثانيا: ماليس فيه علم سابق فله ثلاثة أحوال:‏
أحدها ما الشك فيه مقرون بالعلم الإجمالي مثل أن يعلم ان الصلاة الواجبة يوم الجمعة إما الظهر أو ‏الجمعة ولم يعلمها بعينها، أو يعلم أن أحد الإنائين نجس ولم يعلمه بعينه فالحكم فيه عقلا الاحتياط، ‏إذا كان الاحتياط ممكناً، لأن العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي يستدعي الامتثال اليقيني، ولا طريق إليه ‏سوى الاحتياط فيأتي بالصلاتين معا، ويرفض اليد عن الإنائين معا، وصولا إلى امتثال المولى جل ‏شأنه امتثالا قطعيا إجماليا.‏
ثانيها: نفس الفرض فيما لا يمكن الاحتياط فيه، فالحكم التخيير عقلا، كما إذا دار الأمر بين شيئين لا ‏يمكن الجمع بينهما كالواجب والحرام.‏
ثالثها: ما ليس الشك فيه مقرونا بالعلم الإجمالي – ويعبّر عنه بالشك البدوي – كأن شك في ‏وجوب عمل أو عدم وجوبه، أو في حرمة شيء أو إباحته، وليس لهما حالة معلومة سابقا، فالأصل ‏فيه البرائة عقلا – وكذلك نقلا – عند الأصوليين، والاحتياط عند الأخباريين في الشبهات التحريمية ‏خاصة، وهذا أحد موارد الخلاف بين الفريقين، وقد قسّموه إلى الشك في الوجوب، أو الحرمة وفي ‏الحكم أو في الموضوع إلى غيرها مما جاء في الأُصول.‏
هذه هي الأُصول العملية الأربعة، الجارية في عامة أبواب الفقه. وهناك أصول أخرى خاصة ببعض ‏الأبواب ولها أدلة خاصة: كأصل الطهارة، وأصل الحلية فيما شك في طهارته أو في حليته. كذلك ‏هناك قواعد فقهية غير ماذكر جارية في موارد خاصة من الفقه، ويدور أمرها بين كونها من الأمارات ‏أو من الأُصول مثل اليد وقاعدة الصحة وغيرهما.‏
ومن ذلك يعلم أن الدليل العقلي عند الإمامية، حقيقتها وظائف عملية عند الشك في الحكم أو في ‏موضوع الحكم. هناك طور آخر من الدليل العقلي مبني على استقلال العقل بحسن أو بقبح بعض ‏الأعمال كحسن العدل وقبح الظلم، ويتفرع عليه الحكم شرعا، لما ثبت عندهم من (أن كلما حكم به ‏العقل حكم به الشرع) وكذلك (كلـّما حكم به الشرع حكم به العقل). وعند الإمامية في الدليل العقلي ‏كلام طويل في علم الأُصول، ويكفي الطالب بحث (المستقلات العقلية والدليل العقلي) في كتاب ‏‏(أصول الفقه) للشيخ المظفر(ره).‏
تتابع
المصدر: المجمع العالي للتقریب بین المذاهب الإسلامیة