مقالة/ الجزء السادس
أصـول الفـقـه
المؤلف: احمد پاکتچی
المحكِّمة وأصول الفقه
▪ الف) النظريات الأصولية الأولى في القرن الأول الهجري
برغم وجود اختلاف واسع بين شتى فرق المحكمة في وجهات النظر الدينية، ومنها في أصول الفقه والأساليب الفقهية، ينبغي القول إنه حتى سنة ۶۴ه / ۶۸۴م، لم يكن ممكناً وضع حدود دقيقة بين تلك النزعات. و فيما يتعلق بالتعاليم الفقهية ـ الأصولية للمحكمة الأوائل، يجدر القول إنه لم يكن في أوساطهم فقهاء فحسب، بل إن المحكمة أقدموا ومنذ ذلك الحين على عرض بعض النظريات العامة في الفقه تظهر من جهة دورهم في أوائل مراحل تبلور النظريات الأصولية، و من جهة أخرى تكشف تميّز مدرسة المحكمة بوصفها مدرسة مستقلة في تلك الفترة. وكمثال على ذلك، يستشف من بعض الروايات الشهيرة أن المحكمة الأوائل وإثر سوء الظن الشديد في الأحاديث الرائجة خلال عصر الصحابة المتأخرين وبالاستناد إلى الظواهر والأحكام القرآنية العامة، أصدروا أحكاماً قوبلت بالنقد من قبل بعض الصحابة. و في الحقيقة، فإن كلام الشيخ المفيد في الجمل (ص ۸۵) عن تهرب الخوارج من الآثار والأخبار واعتمادهم على ظاهر القرآن وإنكار«ما خرج عنه القرآن»، كان المقصود به هو هذه النزعات المتطرفة في أوساط المحكمة.
و مع حدوث انشقاق في صفوف المحكمة خلال العقد الثامن من القرن الأول الهجري وظهور فرق ذات نزعات متعارضة، كان الأزارقة يمثلون الجناح الأكثر تطرفاً بين المحكمة في آرائهم الفقهية ـ الأصولية، ويلاحظ في النقول المتناثرة عنهم في مصادر معرفة الفِرق، السعي إلى الكشف عن آرائهم المتطرفة، وبرغم أن لفينشتاين في دراسته احتمل أن تكون النزعة الظاهرية والهروب من السنة المنسوبين إلى المحكمة وبشكل خاص الأزارقة عرضاً مبالغاً فيه من قِبل معارضيهم للحطّ من قيمتهم. واستناداً إلى نقول الأشعري، فإن الأزارقة أنكروا جواز اجتهاد الـرأي في الفقه، بينما كان الفريق المقابل لهم، النجـدات وكما هـو اعتدالهم في بقية المجالات يقبلون في أصولهم الفقهية شرعية استخدام الرأي.
▪ ب) الصفرية وأصول الفقه
مايزال الحديث عن النزعات الأصولية للصفرية في القرن ۲ه / ۸م، يبدو عسيراً نظراً لقلة المصادر، إلا أنه يمكن الحديث بشكل أسهل عن الفكر الأصولي لأتباع هذا المذهب في القرنين ۳و۴ه وبشكل خاص في الشرق الإسلامي. وقبل البدء بهذا الحديث، من الضروري التفكير بأن الصفرية هم من بين فرق المحكمة التي قلّ الاهتمام بحياتهم الثقافية برغم أهميتهم التاريخية، و في الروايات الباقية بهذا الشأن، يوجد غموض يجعل الاستفادة منها أمراً غير ممكن، إلا من خلال عملية تحليلية. والأساس الذي يستند إليه البحث هنا وُضع على أساس بنية التي اقترحها مؤلف هذه المقالة استناداً إلى تحليل معطيات الشيخ المفيد ومقارنتها بالمصادر الأخرى، رأى أن الخوارج ذوي النزعة الاعتزالية الذين قصدهم الشيخ المفيد والمؤلفين العراقيين المعاصرين له هم الصفريون في بلاد الجزيرة وغربي بحر الخزر وممثلوهم في العراق. ويستشف من مجموع كتابات الشيخ المفيد حول هؤلاء الصفرية، أنهم في مسألة نفي حجية خبر الواحد كانوا يقفون إلى جانب متقدمـي المعتزلـة و لـم يكونوا يُقبلـون علـى رواية الأخبـار. و إن مضمون الكلام حول الاجتهاد والقياس في «زيادات أوائل المقالات» الذي لم يرد فيه ذكر لمعارضة الصفرية لاستخدام هذه الأساليب، هو غير دقيق وبنفس القدر بشأن المعتزلة.
وبغية استكمال المعلومات تجدر الإشارة هنا إلى رسالتين لعالم من المحكمة في القرن ۳ه (فيما يحتمل) من أهل تل عكبرا، هو أبو الفضل القرطلوسي، و هما الرد على أبي حنيفة في الرأي والرد على الشافعي في القياس. إن القرطلوسي الـذي لم يفصـح ابـن النديم عن ارتباطـه بمذهب الصفريـة، هو استناداً إلى التحليل عالم من الصفرية العراقيين كان قد اتخذ في الرأي والقياس موقفاً منسجماً تماماً مع موقف متقدمي المعتزلة.
واستناداً إلى التحليل، فإنه من بين الأصوليين الصفرية المعروفين في النصف الأول من القرن ۴ه / ۱۰م، أيضاً يجدر ذكر أبي بكر البردعي العالم القادم من أران والساكن ببغداد الذي كانت له مواقف قريبة من مواقف المعتزلة والذي دوّن الآراء الأصولية لمذهبه في أثر بعنوان الجامع في أصول الفقه.
▪ ج )أصول الفقه لدى الإباضية
تعد نقطة الانطلاق في المذهب الفقهـي الإباضي هي تعاليـم جابـر بـن زيـد (تـ ۱۰۳ه / ۷۲۱م) من تابعي البصرة والذي يعدّ من تلامذة ابن عباس وبسبب دوره المصيري في تبلور فقه الإباضية، اكتسب اسم«أصل المذهب». وكما ورد في المصادر الرجالية، فقد ذُكر جابر بأنه فقيه ذو نزعة درايية لايتهرب من الإفتاء، ويقف إلى جانب أصحاب الرأي من أمثال الحسن البصري من شتى الجوانب، و مع وجود رواية عنه بواسطة ابن عمر تنصّ على أنه لايجوز في الفتوى أن يتم تخطي القرآن والسنة، فإنه لم يكن في رؤيته الأصولية ليمتنع عن استخدام الرأي والقياس بأسلوب المكيين وتلامذة حلقة ابن عباس في حالة فقدان نص من الكتاب والسنة.
وخلال النصف الأخير من القرن ۲ه / ۸م و في الوقت الذي كانت فيه النقاشات الأصولية قد احتدمت في الأوساط الدينية، كان الربيع بن حبيب بوصفه إمام الإباضية آنذاك وشخصية فاعلة في تشكل الإطار الرئيس للفقه الإباضي، يهتم بشكل أكبر بجمع الآثار، و لم يكن يبدي رغبة في البحوث الأصولية فيما يبدو.وبإزاء منهج الربيع فقد كان في نفس العصر أصحاب نظر يعارضون مواقفه أيضاً عُرفوا في تاريخ الإباضية بالأجنحة المنحرفة و لمتدم مدرستهم طويلاً.
وعلى رأس أولئك المعارضين، ينبغي أن نذكر أبا عبد الله بن يزيد الفزاري الذي اشتكى في رواية عن خسارة جناحه في مواجهة أصحاب الربيع؛ و إن احتمال كون الاسم الذي دوِّن خلال نسخ كتاب الدرجيني هو تحريف لاسم عبدالله بن يزيد، المتكلم الإباضي الشهير الكوفي الأصل الذي أقام ببغداد لفترة، احتمال قابل للركون إليه. و مع الأخذ بنظر الاعتبار أن بيئتي الكوفة وبغداد كانتا في النصف الثاني من القرن ۲ه ، مركزاً للتعاليم الأصولية لأصحاب الرأي، فإن افتراض وجود مدرسة إباضية في العراق بإزاء مدرسة الربيع المهيمنة بزعامة عبد الله بن يزيد كانت الرؤية الكلامية منها غالبة على آرائها، أمر جدير بالنظر. ويحتمل أن يكون طرح بعض المسائل من مقدمات الأصول مثل مسألة «مقدمة الواجب» و«اجتماع الأمر والنهـي» قد أُنجزت في علـم الأصـول الإباضي في القـرن ۲ه بواسطة هذه المدرسة. و في المصادر الإباضية التابعة للربيع منذ القرن ۳ه / ۹م و ما بعده، فقد وقف عبد الله بن يزيد على رأس معارضي الربيع.
و في القرن ۳ه ، و برغم هيمنة أتباع الربيع، كان الفقه الإباضي مايزال في حالة التبلور و في الحقيقة، فإنه قد اتخذ شكلاً مدوناً وثابتاً نسبياً منذ القرن ۴ه. ولدى المقارنة، نجد أن الفقه الإباضي المدون في القرن ۴ه كان قريباً جداً من المذاهب الفقهية لأهل السنة وبشكل خاص من مذهب مالك، وباستثناء نموذج محدود من النزعة الظاهرية بوصفها ميراثاً من الفقه المتقدم للمحكمة، كان بعيداً عن الخروج على القاعدة مقارنة بمذاهب أهل السنة. وكان الإباضية من أهل التدوين في هذه الفترة، شأنهم شأن مذاهب أصحاب الحديث المتقدمين ومنهم مالك، قد مزجوا في منهجهم الفقهي بين الاعتماد على المصادر الروائية وبشكل خاص السنة النبوية وبين الاستخدام المحدود للرأي والقياس. و في هذا الصدد جوبهوا أحياناً بمعارضة علماء لم يكونوا هم أنفسهم من أصحاب تدوين الجوامع الفقهية وكان بإمكان خصيصتهم هذه، أن تذكِّر بمنهج أصحاب الحديث المتأخرين في التعامل مع الفقه المـدون.
وبرغـم أن ابن جعفـر (تـ ۲۸۱ه / ۸۹۴ م) الذي يعدّ من أقـدم مؤلفي الجوامع الإباضية اعتمد في موقفه النظري في جامعه على دليلي الكتاب والسنة فحسب، إلا أنه استناداً إلى إشارات في نفس الأثر و في مصادر إباضية أخرى، كان يتقبل في رؤيته العامة في التعامل مع أصول الفقه منظومة الأدلة الأربعة (الكتاب والسنة والإجماع والرأي). وعلى الطرف الآخر، فإن العالم المعاصر له، أبا المؤثر البهلاوي، وضمن تأكيده على أن الاستناد الفقهي في السنّة الإباضية ينحصر في الكتاب والسنة و «آثار أئمة المسلمين (الإباضية)»، عَدَّ ابن جعفر متطرفاً في العمل بالرأي وذمّه. ويلاحظ استمرار نهج ابن جعفر في كتاب الجامع لابن بركة البهلوي في أواخر نفس القرن والذي خصص قسماً وافياً في مقدمة الكتاب لبحوث أصول الفقه بأسلوب قريب من الآثار الأصولية المتداولة. و من سمات ابن بركة في نظرته الأصولية تجدر الإشارة إلى قوله في حجية أقوال الصحابة ووضعه القياس في منزلة تلي التوقيف.
ومنـذ القـرن ۶ه / ۱۲م، و مـع ازدهـار الـدراسـات الكلاميـة ـ الأصولية في الأوساط الإباضية في المغرب، فقد تم تأليف آثار مستقلة في علم أصول الإباضية والتي كان أول نموذج معروف لها الأدلة والبيان في أصول الفقه لتبغورين بن عيسى، العالم النفوسي الذي عاش في النصف الثاني من القرن ۵ه. و في نفس المضمار، ألف عالم المغرب الشهير في النصف الثاني من القرن ۶ه ، أبو يعقوب الورجلاني كتابه الخالد في أصول الفقه العدل والإنصاف الذي كانت أهم الآثار الأصولية في القرون التالية شروحاً عليه وتلخيصات له وتلخيص لأحمـد بـن سعيـد الشماخـي (تـ ۹۲۸ه / ۱۵۲۲م) والذي كتب بنفسه شرحاً على ذلك المختصر.
و في عُمان و من الآثار الأصولية المستقلة في القرون الأسبق، يجدر ذكر الأنوار في الأصول لعثمان بن عبد الله الأصم، و من الآثار الأحدث فصول الأصول لخلفان بن جميل السيابي.
▪ تمت
المصدر: دائرة المعارف الإسلامیة الکبری