حوار / الجزء الأول
حوارٌ مع العلّامة السيّد منير الخبّاز
أجرت مجلّة الدليل حوارًا مع الأستاذ العلّامة السيّد منير الخبّاز وهو من أساتذة البحث الخارج المعروفين في الحوزة العلميّة، ومتخصّصٌ في البحوث الكلاميّة والعقديّة، وكان محور الحوار يرتكز حول موضوع إثبات وجود الإله، ومسألة الإلحاد وأسبابها وطرق معالجتها، فكانت الأجوبة علميّةً ورصينةً وذات فائدةٍ كبيرةٍ، وفيما يلي نصّ الحوار:
ابتداءً نتقدّم إليكم بوافر الشكر والامتنان لقبولكم عناء إجراء هذا الحوار مع مجلّة الدليل.
سماحة السيّد لو سمحتم قدّموا لنا لمحةً عن حياتكم وسيرتكم العلميّة.
ولدت في عام 1965م في القطيف، وبعد أن درست في المدرسة الرسميّة المرحلتين الابتدائيّة والمتوسّطة في القطيف ذهبت إلی النجف الأشرف، وكان عمري آنذاك ثلاث عشرة سنةً، وفي عام 1978م درست في النجف الأشرف المقدّمات والسطوح العليا، وكان من أساتذتي في السطوح العليا المرحوم آية الله الشيخ مرتضی البروجرديّ، والعلّامة الحجّة السيّد حبيب حسينيان، ومن أساتذتي أيضًا العلّامة السيّد رضا المرعشيّ. عندما انهيت السطوح حضرت البحث الخارج لدی جمعٍ من العلماء منهم السيّد الخوئيّ والسيّد السبزواريّ والشيخ عليٌّ الغرويّ والشيخ بشيرٌ النجفيّ، ثمّ اقتصرت في الحضور في الأصول علی السيّد السيستانيّ، وفي الفقه علی السيّد الخوئيّ(قد) مع السيّد السيستانيّ. وعندما جئت الی قمٍّ المقدّسة بعد رحيل السيّد الخوئيّ حضرت فترةً في بحث آية الله الشيخ الوحيد الخراسانيّ، ثمّ بحث آية الله الشيخ التبريزيّ، وبقيت مع الشيخ التبريزيّ اثنتي عشرة سنةً حتّی وفاته.
▪سماحة السيّد، كانت وما زالت مسألة وجود الخالق والإله تأخذ حيّزًا كبيرًا في تأمّلات الفكر الإنسانيّ، ونجد أنّ الكثير من النصوص الشرعيّة تؤكّد أنّ معرفة الله - تعالى - وتوحيده والتعلّق به هو أمرٌ مركوزٌ في فطرة الإنسان، وربما يعبّر بعضها عنه بميثاق الفطرة، كيف يتسنّى لنا توظيف هذه النصوص في مسار التأمّلات العقليّة؟
إنّ معرفة الخالق على أقسامٍ ثلاثةٍ: المعرفة الفطريّة والمعرفة العقليّة والمعرفة الفلسفيّة، أمّا المعرفة الفطريّة فهي عبارةٌ عن ما غرسه الله في قلب كلّ إنسان وفي وجدانه من الشعور بقوّةٍ خارقةٍ، والتعلّق بها في وقت الخوف والحرج والاضطرار، إذ يجد الإنسان - حتّى الملحد الّذي لا يؤمن بالله - أنّ في غريزته وعمق وجدانه تعلّقًا بقوّةٍ غيبيّةٍ خارقةٍ عندما تطرأ عليه عوامل الخوف، وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم بقوله: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾، وقال تبارك وتعالى: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
القسم الثاني هو المعرفة العقليّة، وهي عبارةٌ عن الوصول إلى الله - تبارك وتعالى - عبر الاستدلال العقليّ المبنيّ على مقدّماتٍ ونتيجةٍ، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا القسم من المعرفة في عدّة آياتٍ منها قوله تعالى: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾، وهو إشارةٌ إلى استحالة وجود الإنسان من لا شيء، أو إيجاد الإنسان لنفسه المستلزم للدور. وقال تبارك وتعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا﴾، وهي عبارةٌ عن دليلٍ إنّيٍّ يتشكّل بالاستدلال من الأثر على المؤثّر، وقال تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ﴾ إشارةً إلى أنّ شرارة الحياة لا يمكن أن يصنعها الإنسان، وإنّما يصنعها من كان نبعًا ومصدرًا للحياة.
والقسم الثالث من المعرفة هو المعرفة الفلسفيّة، وهي المعرفة الّتي تحتاج إلى ربطٍ بين المنظومات الفكريّة المختلفة، فعندما يتأمّل الإنسان في منظوماتٍ فكريّةٍ متعدّدةٍ، ويقوم بالربط فيما بينها، ويصل إلى نتيجةٍ من خلال هذا الربط، فهذا نسمّيه بالمعرفة الفلسفيّة التأمّليّة، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا النوع من المعرفة في قوله تعالى: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ - الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ فعندما يلاحظ الذهن مفهوم الملك ومفهوم القدرة ومفهوم الحياة والموت، يرى أنّ الحياة والموت - أي اقتران الحياة بالموت واجتماع الحياة والموت في هذا العالم المادّيّ - دليلٌ على القدرة المسيطرة الجبروتيّة على أرجاء هذا الكون، وعندما يتأمّل في مفهوم القدرة الّتي من أجلى مصاديقها الحياة والموت، ينتقل منها إلى مفهوم الملك؛ فإنّ الملك الحقيقيّ هو ملك القدرة على السيطرة على الكون والقدرة من أجلى مصاديقها ومظاهرها، إنّه من يملك الحياة ومن يملك الموت؛ ولذلك نجد ارتباطًا بين هذه المنظومات وهذه المفردات يظهر بالتأمّل والتدبّر.
وعندما نلاحظ قوله تعالى: ﴿ أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ - أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ﴾ ﴿ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ -أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ﴾ ﴿ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ - أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ﴾ فإنّ قيام الذهن بتحليل هذه المفردات والربط فيما بينها يوصله إلى أنّ هناك جامعًا بين هذه المظاهر كلّها، وهو شرارة الحياة، ففي المادّة المنويّة شرارة الحياة، وفي الحرث والنبت شرارة الحياة، وفي الماء مصدرٌ ومنبعٌ للحياة، فالجامع بين هذه المظاهر الثلاثة هو نبع الحياة وشرارة الحياة؛ لذلك إنّما استشهد بها مع حقارتها بنظر الذهن البشريّ الساذج لأنّه يريد أن ينطلق من هذه المظاهر الثلاثة للاستدلال على أنّ هناك ماءً ونفسًا واحدًا وهو نفس الحياة لا يصدر إلّا من الحيّ القيّوم، كما في قوله تعالى: ﴿ اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾. فهناك أيضًا ربطٌ بين القيوميّة وبين قوله لا تأخذه سنةٌ ولا نومٌ، وهناك ربطٌ بين الوحدانيّة وقوله تعالى: ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، وهناك ربطٌ ما بين هذين الأمرين وهما القيوميّة والوحدانيّة وبين الحياة، فإنّ الّذي يكون متّصفًا بالوحدانيّة والقيوميّة إنّما يكون حيًّا ومنبعًا للحياة، فهذه أقسام المعرفة الإلهيّة الّتي نستقيها من القرآن الكريم.
▪هناك شبهةٌ متداولةٌ عند الملحدين، وهي أنّ الإيمان بوجود خالقٍ للكون والإنسان كان في مرحلة قبل الاكتشافات العلميّة، حينما كان هناك فراغٌ علميٌّ، أمّا ونحن نعيش اليوم عصر التكنولوجيا والاكتشافات العلميّة فقد انتفت الحاجة إلى الإله أو ما يسمّى بإله الثغرات. كيف تجيبون عن هذه الشبهة؟
بيانه بذكر وجهين، الوجه الأوّل أنّ هناك فرقًا بين العلل الإعداديّة والعلل المفيضة، فالعلل الإعداديّة ما به الوجود، والعلل المفيضة ما منه الوجود، مثلا إذا أراد الإنسان أن يمشي فإنّ تحقّق المشي منه يفتقر إلى قدرةٍ منبثّةٍ في عضلات جسمه، لكنّ هذه القدرة علّةٌ إعداديّةٌ لوجود المشي، فبها يتحقّق وجود المشي، لكنّ العلّة المفيضة - وهي ما منه الوجود - ليست هذه القدرة المبثوثة في العضلات، وإنّما هي الروح الّتي هي منبع الحياة، فالروح الّتي تبثّ الحياة في هذا الجسم هي بنفسها تبعث القدرة والإرادة بشكلٍ متجدّدٍ؛ ليتحقّق بهذين العاملين (القدرة والإرادة) تحقّق المشي خارجًا، فالروح ما منه الوجود، بينما القدرة ما به الوجود، وكذلك الإنسان إذا غرس البذرة في التربة وحفّها بالسماد وسقاها بالماء فتولّدت الشجرة المثمرة من تلك البذرة، فإنّ البذرة علّةٌ إعداديّةٌ، بمعنى ما بها الوجود، ولكنّ العلّة المفيضة وهي شرارة الحياة هي ما منه الوجود، فلا بدّ من التفريق الدقيق بين ما به الوجود وما منه الوجود، والعلّة الإعداديّة والعلّة المفيضة؛ ولذلك نقول عندما يكشف علم الفيزياء أنّ نظام هذا الكون والحركة الوجوديّة في هذا الكون تفتقر إلى القوى الأربع، القوّة النوويّة الشديدة، والقوّة النوويّة الضعيفة، والقوّة الكهرومغناطيسيّة، وقوّة الجاذبيّة، بحيث لولا هذه القوى الأربع الّتي تحكم مسيرة الكون لما ائتلفت أنظمته، ولما ثبتت قوانينه، ولكن اكتشاف علم الفيزياء لهذه القوى الأربع لا يعني لغويّة البحث عن الإله الخالق؛ لأنّ هذه القوى الأربع هي عللٌ إعداديّةٌ ممّا به الوجود، ولكنّ ما منه الوجود وهو العلّة الأولى، والسبب الّذي ليس وراءه سببٌ لا يمكن أن يصل علم الفيزياء إلى نفيه؛ لذلك فاكتشاف أنّ هذا الكون يسير بأنظمةٍ علميّةٍ دقيقةٍ لا يغني عن الاعتقاد بأنّ وراء شرارة الكون قوّةً غيبيّةً فجّرت هذا الكون بالعلم والقدرة والحكمة، فإنّ تلك القوة هي ما منه الوجود بينما القوى الّتي تحكم هذا الكون هي ما به الوجود.
الوجه الثاني أنّ هناك فرقًا بين دور الفلسفة ودور العلم، فقيام هذه النظريّات الآليّة الّتي قامت عليها فيزياء نيوتن وأنشتاين ونظريّة فيزياء الكمّ الّتي تتحدّث عن الجسيمات تحت الذرّيّة الّتي لا تحكمها القوانين الآليّة الّتي توصّل إليها نيوتن وأمثاله، والنظريّة البيولوجيّة، وهي نظريّة تطوّر الأنواع ورجوع كلّ الكائنات الحيّة إلى سلفٍ مشتركٍ (المعبّر عنها بالنظريّة الداروينيّة)، كلّ هذه النظريّات لا تجيب عن مسألة الخالق، بل مسألة وجود الخالق خارجةٌ عنها موضوعًا وتخصّصًا؛ لأنّ جميع هذه النظريّات تجيب عن سؤال كيف هو؟ وأمّا السؤال لم هو؟ فلا يمكن أن تجيب عنه هذه النظريّات العلميّة، فيمكن للعالم الفيزيائيّ من حقل فيزياء الكمّ أن يتحدّث عن حركة الإلكترون حول نواة الذرّة، فهو بحديثه يجيب عن سؤال كيف هو؟ أي كيف هي الحركة. إلّا أن هذا يقع في جواب كيف هو؟ فعندما نتساءل كيف حركة الوجود وكيف انطلق الوجود من نقطة التفرّد إلى نقطة هذا الوجود المنتظم بمجرّاته ونجومه وذرّاته؟ فإنّ هذا هو موضوع العلوم الآليّة والفيزيائيّة والبيولوجيّة، ولكن عندما نطرح السؤال لم هذا الوجود أي ما هو مبدأ المبادئ وما هو علّة العلل؟ نحن نعرف أنّ الماء إذا بلغت درجة حرارته مئةً فإنّه يغلي وتتفرّق أجزاؤه نتيجة انتشار الحرارة بين أجزائه، لكن لم هذا الوجود؟ لم وجدت النار وهي تحمل في باطنها الحرارة؟ لم وجد الماء بهذا النحو الّذي يقبل تفرّق أجزائه إذا بلغت درجة حرارته مئةً؟ عندما نقف عند هذا السؤال لم هذا الوجود؟ فإنّنا نسأل عن تأثير مبدإ المبادئ وعلّة العلل، وهذا سؤالٌ لا يجيب عنه إلّا علم الفلسفة، وليس العلم التجريبيّ الطبيعيّ، من ذلك نعرف أنّ ما عبّر عنه دوكنز في (وهم الإله) من أنّ الله هو إله الثغرات، إنّما هو كلمةٌ خطابيّةٌ ومغالطةٌ واضحةٌ؛ لأنّ البحث عن الإله أجنبيٌّ عن البحث عن تفسير كيفيّة الوجود، فالبحث عن الإله بحثٌ عمّا منه الوجود، والبحث عن تفسير مسيرة الوجود بحثٌ عمّا به الوجود، والبحث عن مبدإ المبادئ بحثٌ يقع في جواب لم الوجود؟ والبحث عن العلاقات الّتي تحكم مسيرة الكون هو بحث عن كيفيّة الوجود، فلا ربط لأحد البحثين بالآخر، وحيث يؤمن الإنسان بعقله الفطريّ بمبدأ السببيّة، وأنّ جميع الأسباب لابدّ أن ترجع إلى سببٍ سببيّته ذاتيّةٌ له بحيث لا يحتاج إلى سببٍ آخر، فهذا الإيمان فطريٌّ يتكفّل بتفسير حقيقة الإله ولا يغني عنه أيّ اكتشافٍ أو تفسيرٍ علميٍّ آخر.
▪العالم بأسره يتّجه نحو المنهج الحسّيّ، وتعدّ المعطيات الحسّيّة هي الحقائق المطلقة، يا ترى ما هي قيمة هذا المنهج بمقارنته مع المنهج العقليّ في الوصول إلى الحقائق الكونيّة؟
لقد ظهرت المدرسة الوضعيّة في القرن التاسع عشر وفي الربع الأوّل من القرن العشرين، حيث اجتمع ثمانيةٌ من علماء الغرب في فيينا وأصدروا بيانًا سمّوه الفهم العلميّ للعالم، وقرّروا من خلال البيان أنّ العالم إنّما تحكمه القوانين العلميّة والطبيعيّة، فلا حاجة فيه إلى فرضيّة الخالق، وتطوّر هذا المنطق إلى قاعدةٍ، وهي أنّ كلّ نظريّةٍ لا يمكن إثبات مضمونها فهي قضيّةٌ لا معنى لها، والمقصود بذلك أنّ كلّ ما لا يمكن إثبات صحّة مضمونه بالدليل التجريبيّ الحسّيّ فهي قضيّةٌ لا معنى لها؛ ولذلك ما يطرحه الفلاسفة من أنّ لكلّ جوهرٍ وجودًا وراء أعراضه - فالتفّاحة لها أعراضٌ كاللون والطعم والرائحة، ولها جوهرٌ وراء هذه الأعراض - هذه القضيّة لا معنى لها؛ إذ لا يمكن إثباتها بالمعطيات الحسّيّة، وهكذا حال سائر القضايا الفلسفيّة، وبما أنّ وجود الخالق من القضايا الّتي لا يمكن إثباتها بالمعطيات الحسّيّة، فهي من القضايا الّتي لا معنى لها عندهم، واستدلّوا بأنّه لو أنكرنا وجود الخالق فإنّ الكون سيسير على كلّ حالٍ طبق أنظمةٍ وقوانين، سواءٌ فرضنا خالقًا لها أم لم نفرض، وهذه الأطروحة هي الإرث الّذي بني عليه قانون المعرفة في العصر الحديث، وهذه نقطةٌ جوهريّةٌ بين المدرسة الوضعيّة والمدرسة الفلسفيّة؛ إذ يمكن المناقشة في هذه القاعدة، بأن يقال: ما هو المقصود بأنّ للقضية معنًى؟ يوجد احتمالان.
الاحتمال الأوّل: أنّ الميزان في كون القضيّة ذات معنًى أن تكون قضيّةً حسّيّةً، فقضيّة نزول المطر في الشتاء قضيّةٌ ذات معنًى؛ لأنّه يمكن إثبات صدقها بالمعطيات الحسّيّة. فإن كان مقصود المدرسة الوضعيّة من هذه القاعدة هو هذا، فلا يمكن إثبات القوى الأربع الّتي تحكم الكون وهي القوّة النوويّة الشديدة والقوّة النوويّة الضعيفة والقوّة الكهرومغناطسيّة وقوّة الجاذبيّة؛ لأنّنا لا نرى لها معطًى حسّيًّا.
الاحتمال الثاني: أن يكون الميزان هو وجود أثرٍ حسّيٍّ للقضيّة، وإن لم تكن نفسها ذات معطًى حسّيٍّ كالجاذبيّة مثلًا؛ فلذلك نعدّ وجود الجاذبيّة قضيّةً صادقةً؛ لأنّ لها أثرًا حسّيًّا، فإن كان مقصود المدرسة الوضعيّة هو هذا، إذن فقضيّة الله خالق الكون مصداقٌ لهذه الضابطة؛ لأنّها وإن لم يكن لها مضمونٌ حسّيٌّ لكنّ لها آثارًا حسّيّةً، ومن أجل توضيح ذلك نرجع إلى البرهان الرياضيّ المعبّر عنه بدليل حساب الاحتمالات ونتحدّث عنه باختصارٍ، مثلًا إذا نظرنا إلى عوامل الحياة في كوكب الأرض، فإنّ الحياة عليها لم توجد صدفةً واعتباطًا، بل توجد عوامل لولا وجودها لما تحقّقت الحياة على الأرض، ومن هذه العوامل حجم الأرض، فإنّه لو زاد لمنعتنا الجاذبيّة من الحركة، ولو نقص لما ثبتت الأشياء على الأرض بل تبعثرت في الهواء، ومنها الغلاف الجويّ المحيط بالأرض الّذي مقداره 800 كيلومتر، فلو كان أكثر لما كان للإنسان أن يتحرّر منه، ولو كان أقلّ لتعرّضنا إلى خطر النيازك، ومنها المسافة بين الأرض والشمس، إذ لا يمكننا أن نعيش على أرضٍ بلا شمسٍ، لكنّ المسافة بيننا وبين الشمس محدودةٌ برقمٍ معيّنٍ، وهو 39 مليون ميلٍ، فلو كانت المسافة أقلّ لاحترق كلّ شيءٍ، ولو كانت أكثر لتجمّد كلّ شيءٍ، ومنها نسبة الأوكسجين في الغلاف الجوّيّ، إذ يشكّل 21 بالمئة منه، والنيتروجين الّذي يشكّل 78 بالمئة، ولو قلّت النسبة لما أمكننا التنفّس، ولو زادت لاحترقت الموادّ القابلة للاشتعال، ومنها نسبة الماء والتراب، إذ لو زادت أو نقصت لأثّر ذلك على الحياة على الأرض، فمن مجموع هذه الأمور نتساءل: من الّذي وضع الأمور بهذه الدقّة؟ ومن الّذي وضع هذه النسب الدقيقة الّتي لولاها لماتت الحياة على الأرض؟ وهل يمكن أن يحدث هذا صدفةً؟ وهل يمكن عقلًا اجتماع هذه العوامل والأمور صدفةً هكذا من دون سببٍ وبلا قوّةٍ حكيمةٍ؟ هذا حال نظامٍ واحدٍ وهو الأرض، فكيف بحال الكون بمجموع مجرّاته وذرّاته؟! فعندما نلاحظ خريطة الكون كلّه نرى أنّ في كلّ ذرّةٍ منه عالمًا مؤسّسًا على نظامٍ دقيقٍ، فالشمس تحكمها قوانين، والنبات يحكمه قوانين، والذرّة تحكمها قوانين، وما تحت الذرّة من البروتون والنيترون والإلكترون تحكمها قوانين؛ لذلك فاحتمال حصول هذا الكون عن صدفةٍ احتمال واحدٍ بالمليار، وهذا الاحتمال ليس له قيمةٌ رياضيّةٌ، وبعبارةٍ أخرى كلّما ضربنا هذا الاحتمال فيما هو أعلى منه، سوف تتراكم الاحتمالات حتّى نصل إلى حدّ اليقين الرياضيّ بوجود قوّةٍ حكيمةٍ، وهذا يعني أنّ قضيّة (الله خالقٌ) ذات آثارٍ حسّيّةٍ يمكن إثباتها بدليل حساب الاحتمالات، والنتيجة أنّ المدرسة الوضعيّة تؤمن بأنّ القضيّة ما لم تكن حسّيّةً لا قيمة لها، وفي المقابل تقول القاعدة الفلسفيّة إنّه لا يمكن للتجربة الحسّيّة أن تثبت قانونًا واحدًا ما لم تستند إلى مبادئ عقليّةٍ، فهذا الكون يقوم على مجموعةٍ من القوانين الذكيّة، وهذه القوانين نكتشفها بالتجربة، إلّا أنّ التجربة لا يمكن أن تكشف لنا هذه القوانين الذكيّة إلّا بأربعة مبادئ عقليّةٍ، وهي العلّيّة والحتميّة والسنخيّة والحاجة الذاتيّة، ومن أجل توضيح هذه الفكرة نضرب مثالًا فنقول:
من القوانين الذكيّة الموجودة في هذا الكون أنّ كلّ ماءٍ تبلغ درجة حرارته مئةً يغلي في الظروف العاديّة، وقد اكتشف البشر هذا القانون بالتجربة مع أنّهم لم يقيموا التجربة على كلّ ماءٍ، وإنّما أقاموها على مليون عيّنةٍ من الماء أو أكثر، فكيف وصلوا إلى هذه القاعدة الكلّيّة؟
▪إنّ الوصول لهذا القانون الكلّيّ اعتمد على أربعة مبادئ:
الأوّل: السببيّة، وقد ذكر بعض علماء الغرب أنّه لا يؤمن بهذا المبدإ، وإنّما يؤمن بأنّ لكلّ أثرٍ مؤثّرًا، ومن الواضح أنّ هذا لا يغيّر من المعنى شيئًا، سواءٌ قلنا لكلّ مسبّبٍ سببٌ أو لكلّ أثرٍ مؤثّرٌ، فالمعنى واحدٌ وهو أنّ الشيء لا يمكن أن يولد من لا شيء؛ لذلك لا بدّ للغليان من سببٍ وهو وصول درجة الحرارة إلى مئةٍ، ومن غير الإيمان بمبدإ السببيّة لا يمكن الوصول إلى السبب الكلّيّ.
كما أنّ من يدّعي أنّ العلاقة بين الحوادث في الكون هي مجرّد علاقة التقارن، فمثلًا حركة اليد تقترن بها حركة المفتاح، ويقترن بحركة المفتاح انفتاح الباب من دون أن يكون بين هذه الحركات الثلاث سببيّةٌ ومسبّبيّةٌ، فلو قلنا بهذا لما تمكّنّا بأيّ تجربةٍ ذات معطياتٍ حسّيّةٍ أن نكتشف قانونًا، ما لم نؤمن بمبدإ السببيّة في مرتبةٍ سابقةٍ.
المبدأ الثاني: الحتميّة، فلو كان هذا القانون المبنيّ على العلّيّة غير حتميٍّ، بمعنى أنّه قد يصيب تارةً ويخطئ أخرى بشكلٍ عشوائيٍّ، لما أمكننا أن نؤمن بأيّ قانونٍ كلّيٍّ، فلا بدّ أن نؤمن أنّ العلّيّة علّيّةٌ حتميّةٌ لا تختلف ولا تتخلّف.
والمبدأ الثالث: السنخيّة، أي لا بدّ من وجود تناسبٍ بين العلّة والمعلول، بمعنى أنّ المعلول هو وجودٌ نازلٌ من رحم العلّة ومن صميم وجودها، ولا يمكن أن يخرج شيءٌ من رحم شيءٍ ومن صميم وجوده من دون تناسبٍ بينهما، فلولا الإيمان بالسنخيّة لما استطعنا أن نستنتج القوانين الكلّيّة أيضًا. وبعبارة أخرى: السنخيّة هي الحيثيّة المصحّحة لصدور المعلول من هذا الموجود دون ذلك الموجود.
وهذا الاحتمال لا يمكن نفيه ما لم نؤمن بالسنخيّة؛ إذ إنّ الغليان مسانخٌ للحرارة لا لحركة الرياح، ولا للإشارات الكهربائيّة بأيّ جهازٍ آخر؛ لأنّ الغليان من سنخ الحرارة، فقلنا إنّه معلولٌ لها.
والمبدأ الرابع: حاجة المعلول إلى العلّة حاجةً ذاتيّةً، وليست مجرّد حاجةٍ حدوثيّةٍ، فمثلًا ضوء المصباح له علّةٌ وهي القوة الكهربائيّة، ولو انفصلت هذه القوّة آنًا لانتفى الضوء، وكذا علاقة الضوء بالشمس، وكذا علاقة أيّ مسبّبٍ بسببه، فإنّها علاقة فيضٍ ومددٍ، ولا بدّ أن يبقى فيض العلّة متواصلًا كي لا ينقضي المعلول، وإلّا لا يتصوّر بقاءٌ للمعلول دون بقاء مدد العلّة؛ لذلك لا يتصوّر أن يتولّد الغليان عند بلوغ درجة حرارة الماء مئةً ما لم يكن لبلوغ درجة الحرارة نبعٌ من المدد والفيض الّذي يوجد هذه الظاهرة. فالنتيجة أنّنا لا بدّ أن نرتكز على أنّ للقضايا معنًى وراء المعطيات الحسّيّة، ومنها قضيّة خالقيّة الله للكون.
المصدر: مجلة الدلیل