□ مقال
الصحیفة السجادیة
لقد خطّط القرآن الكريم لثورة ثقافية عظيمة، وكانت آياته الاُولي تبشّر بحركة كبري في عالم العلم والمعرفة، حيث ابتدأ الوحي الربّاني بالأمر بالقراءة أمرا مؤكدّا والإشارة بنعمة التعليم الإلهي، والاهتمام بظاهرتي القلم والكتابة في التعليم وتدوين المعرفة ونقلها وتطويرها، وتطوير الإنسان من خلال تكامل المعرفة وتطوّر العلوم.
والرسول الأمين وإن عرف عنه بأنّه لم يتعلّم القراءة والكتابة المتعارفة ولكنّه حثّ علي طلب العلم ونشره وتدوينه بإلهام إلهي، وبالرغم من أنّ الجهاز الحاكم الذي خلف الرسول(ص) أصدر قرارا بمنع تدوين حديث الرسول(ص) وبذلك وجّه ضَربةً كبيرةً للثقافة الإسلامية المتمثّلة في أحاديث الرسول الأعظم، لكنّها قد تدوركت بعد أن خلّفت مضاعفاتٍ كبيرةً لا زال العالم الإسلامي والإنساني يدفع ضريبتها حتي يومنا هذا بعد أن لمسوا تلك المضاعفات الكبري التي ترتّبت علي مثل هذا القرار.
وأمّا الأئمّة من أهل البيت(ع) حيث كانوا قد أدركوا في وقت مبكّر مضاعفات منع التدوين، والنكسة التي سوف يصاب بها العالم الإسلامي، بل الإنساني، فبادروا إلي التدوين وشجّعوا أصحابهم علي عملية التدوين بالرغم من أنّه كان ذلك يشكّل تحدّيا للسلطات آنذاك، لأنّ حفظ الشريعة والدفاع عنها يعدّ من أعظم الأهداف التي جُعل الأئمّة المعصومون حُرّاساً لها أمناء عليها.
فالأئمّة الأطهار(ع) هم الروّاد الأوائل الذين خطّطوا لمسيرة الاُمّة الثقافية، وفجّروا لها ينابيع العلم والحكمة علي هدي الكتاب الحكيم وتعاليم الرسول العظيم، ولم يقتصر النشاط الثقافي للأئمّة(ع) علي جانب خاص، وإنّما تناول أنواع العلوم وشتي مجالات المعرفة.
فالإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(ع) هو رائد هذه النهضة العلمية، والفاتح لأبواب العلوم العقلية والنقلية، والمؤسس لاُصولها وقواعدها، وقد اعترف بهذه الحقيقة جملة من العلماء الكبار وألّف السيّد حسن الصدر كتابه «تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام» فأثبت فيه تأريخيا صحة هذه الدعوي.
وممّن اعترف بذلك الاُستاذ عباس محمود العقّاد في كتابه «عبقرية الإمام عليّ» قائلاً: إنّ الإمام أمير المؤمنين(ع) قد فتق أبواب اثنين وثلاثين علما، فوضع قواعدها واُسس اُصولها.
وقال العلاّمة ابن شهر آشوب في كتابه «معالم العلماء»: الصحيح أنّ أوّل من صنّف الإمام أمير المؤمنين(ع) ثمّ سلمان ثمّ أبو ذر ثمّ الأصبغ بن نباتة ثمّ عبيد اللّه بن أبي رافع، ثمّ صنّفت الصحيفة الكاملة.
فالصحيفة السجّادية من ذخائر التراث الإسلامي ومن مناجم كتب البلاغة والتربية والأخلاق والأدب في الإسلام، ومن هنا سمّيت ب «إنجيل أهل البيت» و «زبور آل محمد».
▪ ممیزات الصحیفة السجادیة
1. إنّها تمثّل التجرّد التام من عالم المادّة والانقطاع الكامل إلي اللّه تعالي والاعتصام به، والذي هو أثمن ما في الحياة.
2. إنّها تكشف عن كمال معرفة الإمام(ع) باللّه تعالي وعميق إيمانه به.
3. امتازت الصحيفة السجادية علي سائر أدعية المعصومين(ع) بتكرار الصلاة علي محمّد وآل محمّد، لأنّه من الأرجح أن هذه الأدعية اُنشئت في أعقاب واقعة كربلاء، التي كان منشئها يزيد، الذي كان هو وأبوه وجدّه ومن ورائهم بنو اُمية يسعون في إطفاء النور المحمّدي(ص).
والأرجح أنّ الإمام كان يريد من خلال هذه الأدعية تكريس مبادئ الإسلام، وترسيخها في النفوس في مواجهة المساعي الاُموية الهدّامة.
4. فتحت الصحيفة للإنسان المسلم أبواب الأمل والرجاء برحمة اللّه الواسعة.
5. كما فتحت للمناظرات البديعة مع اللّه تعالي بابا مهمّا يتضمّن أنواع الحجج البالغة لاستجلاب عفو اللّه وغفرانه، مثل قوله(ع): « إلهي إن كنتَ لا تغفر إلاّ لأوليائك وأهل طاعتك فإلي من يفزع المذنبون؟ ! وإن كنتَ لا تُكرِم إلاّ أهل الوفاء لك فبمن يستغيث المُسيئون؟ !».
وهكذا قوله(ع): «فارحمني اللهم فإني امرؤ حقير وخطري4 يسير، وليس عذابي ممّا يزيد في ملكك مثقال ذرّة... ».
6. تضمّنت الصحيفة برامج أخلاقية روحية وسلوكية مهمّة لتربية الإنسان، ورسمت له اُصول الفضائل النفسية والكمالات المعنويّة.
7. إحتوت علي حقائق علمية لم تكن معروفةً في عصره. وقد أشرنا إلي بعضٍ منها.
8. كما تصدّت الصحيفة لمواجهة الفساد الفردي والاجتماعي والسياسي في عصرٍ أشاعت فيه السياسة الاُموية الفساد الأخلاقي والخلاعة والمجون بين المسلمين، فكانت الصحيفة خير وسيلة للإصلاح في أحلك الظروف التي اتّبع فيها الاُمويون سياسة القمع والإرهاب.
9. والصحيفة بعد هذا هي منجم من مناجم البلاغة والفصاحة وينبوع ثرّ للأدب الإسلامي الهادف، فهي لا تفترق عن «نهج البلاغة» في هذا المضمار.
10. وقد ضمّن الإمام زين العابدين(ع) أدعيته التي تمثّلت في الصحيفة الكاملة وسائر الأدعية التي وصلت عنه وجُمعت مؤخّرا في ما سمّي ب « الصحيفة الجامعة » منهاجا كاملاً للحياة الإنسانية الفريدة، ولم يترك الإمام جانبا ممّا تحتاجه الاُمّة الإسلامية إلاّ وتعرّض له، وعالجه باُسلوبه الفذّ وبلاغته البديعة.
▪ الدور التاریخي للصحیفة السجادیة
قلنا: إنّ المسلمين في عصر الإمام زين العابدين(ع) واجهوا خطرين كبيرين خارج النطاق السياسي والعسكري، وكان لا بدّ من البدء بعمل حاسم للوقوف في وجههما:
أحدهما: الخطر الذي نجم عن انفتاح المسلمين علي ثقافات متنوّعة، وأعراف تشريعية وأوضاع اجتماعية مختلفة بحكم تفاعلهم مع الشعوب التي دخلت في دين اللّه أفواجا، وكان لا بدّ من عمل علي الصعيد العلمي يؤكّد في المسلمين أصالتهم الفكرية وشخصيتهم التشريعية المتميزة المستمدة من الكتاب والسنّة، وكان لا بدّ من حركة فكرية اجتهادية تفتح آفاقهم الذهنية ضمن ذلك الإطار لكي يستطيعوا أن يحملوا مشعل الكتاب والسنّة بروح المجتهد البصير والممارس الذكيّ، الذي يستطيع أن يستنبط منها ما يفيده في كلّ ما يستجدّ له من حالات.
كان لا بد إذن من تأصيل للشخصية الإسلامية ومن زرع بذور الاجتهاد، وهذا ما قام به الإمام عليّ بن الحسين(ع) فقد بدأ حلقة من البحث والدرس في مسجد الرسول(ص).
المصدر: وکالة أبنا