المربِّي والمتربّي في شخصية النبيّ محمد(ص)
□ د. محمد باقر كجك
□ الانتباه: الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي «الآفاق» بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
تمثّل شخصية النبيّ الأعظم محمد(ص) النموذج المثالي الذي تتعلّق به عملية التربية والتنشئة الإيمانية بوجهها الإنساني الأسمى، عند المسلمين. ولذلك سعى العديد من الباحثين في مجالات التربية الدينية، والتربية الأخلاقية،إلى إبراز الجوانب التربوية في شخصية الرسول الأعظم(ص)، باعتباره أفضلَ مربٍّ وعد الله تعالى به البشر.
ينتج ذلك عن اعتبارات عدةً:
منها أن الإسلام هو الدين الخاتم الذي أتى على رأس مجموعة الأديان التوحيدية السابقة عليه، جامعاً أفضل مافيها من عناصر الهداية ومتمماً لها بمكونّات معرفية وقيمية وسلوكية أعمق وأوسع مدى، لتلائم طبيعة وجود البشرية المتنوع في احتياجاته وكمالاته إلى يوم القيامة، فقال: ]هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ] (التوبة:33) وجاء في القرآن الكريم: ]وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ] (آل عمران:85) وقال أيضاً: ]الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلاَمَ دِينًا] (المائدة: 3 ). وقال الله تعالى: ]وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ] (المائدة:49) ]وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ] (سبأ:28 ). وقال تعالى: ]وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ] (الأنبياء:107). وقال تعالى: ]قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا] (الاعراف، 158).
ومنها: أن النبيّ محمد(ص) وبسبب أن الحكمة الإلهية اقتضت ختم النبوة به، والأديان بالإسلام، فقد تحمّل النبيّ(ص) مسؤولية عظيمة في قيامه بمهمةِ أن يكون الفرد الأكمل، في نبوته، وفي رسالته، وفي علمه، وسلوكه، وكل ما يرتبط بشأن الهداية. ولذلك كانت مهمة النبيّ الأعظم متجلية في الهداية العظمى للبشر نحو الله تعالى، وطمأن أن يكون سيرهم ورجوعهم إليه: ]هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ] (الجمعة: 2).
وبما أن النبيّ(ص) لا يمكن أن يأمر الناس بالهداية، إلا ويكون هو قد بلغ المراتب الأتم من الهداية ]وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى] (الضحى:7). وأن يأمر الناس بالتكامل، إلا ويكون هو الأكمل. أو يأمرهم بالأخلاق الحسنة، إلا ويكون هو ]ولَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ] (القلم، 4). وبالتالي، فإن فهم شخصية النبيّ(ص) في مكانة القدوة، ينبغي أن يكون فهم شمولياً ومتجلياً في جميع أبعاده.
في هذه المقالة المختصرة، سنقوم بالتعرض إلى أهم صفات النبيّ الأعظم(ص) بعنوانه المربّي الأكمل والأفضل الذي ينبغي الاقتداء به من حيث كونه مربياً. ولكن، سنقوم أيضاً، بالإضاءة على جانب قلّما يتم الإشارة إليه، أي حالة النبيّ(ص) المتربي، وكيف كان النبيّ يتلقى التربية الإلهية وما هي معالم هذه التربية.
إنَّ التعرض لهذين الجانبين، المربي والمتربي، في شخصية النبيّ الأعظم(ص)، من شأنه أن يوضح صورة الاقتداء بجميع جوانب هذه الشخصية الإلهية الفريدة، وأيضاً توضّح حقيقة أنّ النبيّ(ص) لم يترك جانباً يصحُّ الاقتداء به إلا وبلغ فيه الحد الأعلى من الكمال، فيكون هذا من باب إلقاء الحجة على الناس، ]فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] (الأنعام، 149).
▪ أولاً: المتربي
لقد أبرز القرآن الكريم صفات النبيّ محمد(ص) بأكثر من أسلوب، وفي طول مراحل النبيّ العمرية. إما بذكر صفاته الشخصية، أو مهماته ومسؤولياته، أو أفعاله وأنماط مواجهته للتحديات والظروف، ومن ذلك أن الله تعالى ذكر عنايته بالنبيّ محمد(ص) في مرحلة صباه وطفولته، فقال في القرآن الكريم في سورة الضحى: ]أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى ٭ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى ٭ وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى]. فهذا تصريحٌ من الله تعالى بتخصيصه النبيّ الأعظم بالعناية والاهتمام به ورعايته، وتهيئة ذاته الشريفة لتلقي الفيض الإلهي المتمثل بالإيواء والهدى والغنى بمعانيها الصريحة والباطنة على ما أفاده المفسّرون على تنوع مشاربهم حول معاني هذه الألفاظ.
إلا أن السيرة النبوية الشريفة، تشهد على أن هذا التدخل العنائي الإلهي في حياة النبيّ الأعظم(ص) كان مؤثراً، خصوصاً في احتضان جده عبد المطلب، وعمه أبي طالب له، وهما شخصيتان عظيمتان على دين الحنيفية الابراهيمية، وخصوصّا أبو طالب الذي رافق النبيّ الأعظم(ص) طويلاً حتى عام الأحزان قبيل هجرته إلى المدينة المنورة. إن وجود هذه العلل المعدَّة حول النبيّ محمد(ص)، كانت بفضل الله تعالى وتدخل عنايته وتقديره الشريف في إزالة العقبات أمام المسير التكامليّ لنموذج ومثال الإنسان الكامل النبيّ محمد(ص)، وإضافة إلى إزالة العقبات، فإنّ النبيّ(ص) أحسن الاستفادة من كل هذه النعم والإمكانات، في تربية نفسه وتنزيهها عن التلوث بظلام الجاهلية.
يقول تعالى أيضاً عن هذه العناية، في آية كريمة أخرى: ]وَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا] (الطور، 48)، وهي تؤكد على حضور الرعاية الإلهية في حياة النبيّ الأعظم(ص)، يقول العلامة الطباطبائي(قد): ]فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا] إنك بمرأى منا نراك بحيث لا يخفى علينا شيء من حالك ولا نغفل عنك". ونحن نعلم أنَّ كون الفرد تحت نظر من هو أعلى منه شأنا وعلما وحكمة وإرادةً خيّرةً في سوقه نحو الكمال، يعدُّ من شؤون التربية، بل هو عينُ التَّربية".
هذا وقد ورد بيانٌ شديد العظمة والأهمية وفريدٌ من نوعه، يبيّن فيه جهة التربية والأدب التي نشأ عليها النبيّ، إذ روى جعفر بن محمّد عن أبيه عن جدّه عليهم السّلام قال: إنّ اللّه تعالى أدّب محمّدا(ص) فأحسن تأديبه". إذن، تظهر هنا جنبة المتربي في النبيّ محمد(ص)، الذي تلقى التربية من ذاتٍ لا يعلى عليها شيء في السماوات والأرضين، وهي ذات الله سبحانه وتعالى. إذ اعتنى الله بتربية النبيّ(ص) بالكلية، فتمام شخص الرسول، وملكاته، وصفاته، وأخلاقه، وسير وسلوكه، محاطٌ بأدب الله تعالى، ولم تتدخل يدٌ بشرية، ولا أثرَ لتربيةٍ أو تأثير لمسلكٍ من مسالك الناس، ومشاربهم، وأفكارهم، وثقافتهم، وحضارتهم، وأخلاقهم وعاداتهم، في تربية الرسول. إنها تربية إلهية محضٌ، لم تحصل لأحد من قبل ولا من بعد. وذلك لأنَّ ]الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ] (آلعمران، 19) وأنَّ هذا النبيّ سيقوم بتحمل هذه المسؤولية الجسيمة، فكان أن احتاج لمؤدبٍ ومربٍ تنجح تربيته بهامشِ صفر خطأ.
لذلك، أتت رواية أخرى عن الصادق(ع)أيضاً، يقول فيها: "إنًّ الله أدب نبيه فأحسن أدبه، فلما أكمل له الأدب قال: ]إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] (القلم، 4) ثم فوض إليه أمر الدين والأمة ليسوس عباده".
وعنه(ع) أيضاً: "إنَّ الله أدَّبَ نبيه(ص) حتى إذا أقامه على ما أراد قال له: "]وأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ] فلما فعل ذلك له رسول الله(ص) زكاه الله فقال: ]إنك لعلى خلق عظيم] ".
وفي رواية أخرى، يظهر بعد معنوي هام جداً، في الحياة التربوية للمتربي (والذي سيصبح المربي الأول للبشرية) وهو التربية على الحب، حب الله، وهذه المحبة التي ستكون منبعًا ومصدرًا لكل خير جرى في الإسلام إلى يوم الدين. يروى عن الإمام الصادق(ع) أنه قال: "إن الله أدب نبيه على محبته فقال ]وإنك لعلى خلق عظيم]. وفي رواية أخرى هامة أيضاً، يصفه الإمام علي(ع) بأنه "خَيْرَ الْبَرِيَّةِ طِفْلاً"، ويصف عناية الله به وهو طفل بقوله: "ولَقَدْ قَرَنَ الله بِه(ص) مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِه يَسْلُكُ بِه طَرِيقَ الْمَكَارِمِ، ومَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ لَيْلَه ونَهَارَه".
لذلك، فإن شخصية النبيّ محمد(ص) كمتربٍ في المدرسة الإلهية، وتحت عناية الله تعالى الخاصة، تلقت كل ما يمكن لإنسان أن يتلقاه من معرفةٍ، وسلوك، وقيم، وعاطفة ومحبةٍ، خصوصاً ذات الرسول الأكرم(ص) ذات السعة الوجودية العظيمة التي جعلت منه الإنسان الكامل، وصاحب الحقيقة المحمدية والفتح المطلق ]اذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ] (النصر، 1)، ومقبض الفيض الإلهي على عالم الملك والملكوت معاً. إن آثار نجاح النبيّ(ص) في كونه متربياً في هذه المدرسة الإلهية، تتجلى في تحمله لعبء الوحي الإلهي، والقرآن الكريم، والشريعة الإلهية، وإشادته لأعمدة وأركان الدين الإسلامي الخاتم، وفي كونه صاحب مدرسة فريدة في السير والسلوك وطيّه لمراتب معنوية لم يسبقه ويلحقه فيها أحد حتى أن الله ذكرها في القرآن الكريم ]ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى٭ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى] (النجم، 8-9). وغير ذلك من علامات فلاح ونجاح هذه الشخصية الإلهية العظيمة.
وقد ذكر ابن أبي الحديد: أنه روي أن بعض أصحاب أبي جعفر محمد بن علي الباقر سأله عن قول الله: ]إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا] فقال(ع): يوكل الله بأنبيائه ملائكة يحصون أعمالهم، ويؤدون إليه تبليغهم الرسالة، ووكّل بمحمد(ص)ملكًا عظيمًا منذ فصل عن الرضاع يرشده إلى الخيرات ومكارم الأخلاق، ويصده عن الشر ومساوئ الأخلاق، وهو الذي كان يناديه: السلام عليك يا محمد يا رسول الله، وهو شاب لم يبلغ درجة الرسالة بعد، فيظن أن ذلك من الحجر والأرض، فيتأمل فلا يرى شيئا.
وعن عبدالحميد بن أبي الحديد عن أبي جعفر محمَّد بن عليّ الباقر(ع) في تفسير قوله تعالى: «إلّا مَن ارتضى من رسول فإنّه يسلُكُ مِن بين يديه ومن خلفه رَصَداً». فقال(ع): "يوكّل اللَّه تعالى بأنبيائه ملائكة يحصنون أعمالهم ويؤدّون إليهم تبليغهم الرسالة، ووكّل بمحمَّد صلى الله عليه و آله ملكاً عظيماً منذ فصل عن الرضاع يرشده إلى الخيرات ومكارم الأخلاق، ويصدّه عن الشرّ ومساوئ الأخلاق".
وقد روي عن الإمام علي(ع)أنه قال: " من تأدب بآداب الله أداه إلى الفلاح الدائم". هذه إذن، إطلالة مختصرة على شخصية النبيّ الأعظم(ص) كمتربي في المدرسة التربوية الإلهية.. وفيما يلي إشارة إلى معالم الشخصية التربوية للنبي(ص) من موقعه كمربٍ للناس.
▪ ثانياً: المربي
تتجلى التربية الإلهية للنبي محمد(ص) وعناية الله له في صغره وشبابه، في تلقيه للوحي الإلهي في غار حراء في تلك الليلة المباركة، وبداية نبوته رسولاً للعالمين. إن هذه الشخصية التي أضحت أهلاً لكل هذه المسؤولية العظيمة، يشكّل البعد التربوي فيها بعداً رئيساً ومهماً لكون الدعوة الإسلامية دعوةً مفتوحةً على جميع الشعوب والقبائل.
وقد أظهر النبيّ(ص) عن كمالات عليا في تربيته للأمة الإسلامية، في شخوص الصحابة، وعلى رأسهم الإمام علي(ع).
لقد حدد النبيّ(ص) مسار التربية الإلهية للأمة، بأنه يبدأ من عند الله ويمرّ به ثم يصل إلى علي ومن بعده إلى كل الأمة. فقد روي عنه أنه قال: " أنا أديب الله وعلي أديبي ". وعن الإمام علي(ع):" إن رسول الله(ص) أدّبه الله، وهو أدّبني، وأنا أؤدّب المؤمنين، وأورث الأدب المكرمين".
لقد تولى النبيّ الأعظم تربية الإمام علي(ع) منذ نعومة أظافره، إذ أتَتْ فاطمة بنت أسَدٍ بوليدِها المبارك إليه، فلقيت منه حباً شديداً له، حتى أنه(ص) قال لها: (اِجعلي مَهدَه بِقُربِ فِراشي).
وكان(ص) يطهِّر الإمام عليّاً أثناء غسله، ويحرِّك مهده عند نومه، ويناغيه في يقظته، ويتأمَّله ويقول: (هَذا أخي، ووليِّي، وناصري، وصفيِّي، وذُخري، وكهفي، وصهري، ووصيِّي، وزَوج كَريمتي، وأمِيني على وصيَّتي، وخليفتي).
ولقد كانت الغاية من هذه العناية النبويّة هي توفير التربية الصالحة للإمام لعليٍّ(ع)، وأن لا يكون لأحدٍ غير النبيّ(ص) دَورٌ في تكوين شخصيته الكريمة(ع).
لقد أثّر هذا الاهتمام الدقيق من قبل النبيّ محمد(ص) في أمير المؤمنين(ع)، حتى أنه كان يذكرُ تفاصل اهتمام وتربية النبيّ له، فيقول: " وقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللَّه(ص) بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ والْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ، وَضَعَنِي فِي حِجْرِه وأَنَا وَلَدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِه، ويَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِه ويُمِسُّنِي جَسَدَه، ويُشِمُّنِي عَرْفَه، وكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيه ".
إن هذا الاشراف الدقيق على النمو الجسدي والمعنوي والمعرفي والعاطفي للإمام علي(ع)، واقتداء الإمام بالنبيّ في سلوكه، وفّر له أن يتسارع تكامله ويصل إلى الأوج، خلال فترة قياسية جداً، جعلته يصبح من النبيّ بمنزلة هارون من موسى، كما ورد في حديث الدار المشهور. يشير الإمام أمير المؤمنين(ع) إلى التربية النبوية المستمرَّة له، فيقول: (ولقدْ كُنتُ أتَّبِعه اتِّباع الفصيل أثر أمِّه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به).
ولذلك، نجد مثلاً أن الإمام علي(ع)، وبسبب حصوله على هذه التربية النقية جداً، من المصدر الأصيل للتربية الإلهية، أي النبيّ محمد(ص)، شهد علامات النبوة التي اعترت رسول الله(ص) بعد نزول الوحي. فقد روى الإمام ما حصل في تلك اللحظات البديعة في أول البعثة فقال: «كنا مع رسول الله(ص) بمكة، فخرج في بعض نواحيها، فما استقبله شجر ولا جبل، الا قال له: السلام عليك يا رسول الله...». وفي الرواية مروية عن الامام الصادق(ع): «كان علي(ع) يرى مع النبيّ(ص) قبل الرسالة الضوء ويسمع الصوت».
ويقول علي(ع): "ولقد كان يجاور في كلّ سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري- إلى أن قال:- ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه(ص) فقلت: يا رسول اللَّه ما هذه الرنّة؟ فقال: هذا الشيطان قد أيس من عبادته، إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى، إلّاأ نّك لست نبيّاً".
إذن، ومع بلوغ الإمام علي(ع) أعلى درجات الكمال على يدي النبيّ الأعظم(ص)، وتحليه بالصفات الكماليّة والجماليّة والجلاليّة الأسنى، التي أهّلت الإمام ليكون وصيًا، بل خاتم الأوصياء، ويكون أباً للأمة كما كان النبيّ أباً لها، وأن يكون باب مدينة علم رسول الله(ص)، وأن يكون "نفْسَ" رسول الله بشهادة آية المباهلة.. وأن يقاتل على التأويل، وأن ينتصر في المعارك إلى جانب الرسول، ويحفظ الأمة من التيه بعده.. وغير ذلك من الشواهد والأدلة على عظمة شخصية علي(ع)، وهي بكلها ترجع إلى النبيّ محمد(ص) وشخصيته التربوية العظيمة. فهو المربي الأمثل، إذ لا أحد استطاع أن يربّي شخصًا كعلي وكفاطمة(ع).
وبالتالي، فإن تربية الأمة، وتعليمها، وتزكيتها، وهدايتها، هي أمور مقدورة للنبي، ببركة هذه التربية الإلهية التي تلقاها النبيّ، والتي أيضاً قام بنقلها إلى الإمام علي(ع) وبقية المسلمين، كلٌّ بحسب انقياده إلى الرسول(ص) واقتادئه به.
المصدر: مرکز الأبحاث والدراسات التربویة