□ مقالة/ الجزء الثاني والأخیر
نظام التربية والتعليم في الحوزات العلميّة الشيعية مشكلاتٌ وحلول
□ كتبه: د. الشيخ عصري الباني
▪ العلوم الاُخرى في أوقات الفراغ
د) إن هذه النظرة أدّت إلى أن تظهر حالة خطيرة تتمثل في أن بعض الفقهاء تصدّوا إلى تدريس العلوم الأخرى باعتبار أنها علوم ثانوية يدرسونها وقت فراغهم، فظهرت عندنا حالة عجيبة ننفرد بها عن جميع الجامعات العلمية، وهي أن نصف أحدهم بانه: (فقيه أصولي ومحدث رجالي، نجومي ورياضي، متبحِّر في المعقول والمنقول، وأستاذ ماهر، وشاعر بليغ، وزاهد متّقٍ، وهو في أوصافه الحميدة وأخلاقه الفاضلة مشهور ومعروف، وجامع الكمالات الصورية والمعنوية، وإضافة إلى العلوم العقلية والنقلية والمتداولة له باع طويل في الكثير من العلوم)، وهذا ما لا نجده في أيٍّ من الجامعات العلمية الأخرى، فلا نجد في العالم أحد يقول: (طبيب مهندس طيار عالم ذرّة فيلسوف أديب...).
قد يقول قائل: ما هو المانع؟ فهذا ليس غريباً في تاريخنا، فقد وجدنا أمثال ابن سينا، والشيخ البهائي، وغيرهم قد نبغوا في العديد من العلوم.
وفي معرض الجواب عن ذلك أقول:
1ـ إن هذه الحالات كانت من النوادر والقاعدة لا تؤسِّس على الشاذ النادر.
2ـ ان من ذكروا لو كانوا تخصّصوا في علم واحد من العلوم المتعدّدة التي اشتغلوا بها لكان أنفع بكثير للإسلام والمذهب، وهو ما ثبت بالتجربة في العلوم الأخرى، إذ إن اشتغاله بعدّة علوم سيشتت جهوده من جهة، ومن جهة أخرى سيحدث خلطاً في العلوم التي يدرسها، وهو ما وجدناه في عدّة مجالاتٍ لا مجال لذكرها هنا.
3ـ لا دليل يلزمنا بأن نبقى على ما فعله السابقون مهما كان وإنْ ثبت عدم نجاعته وعدم نجاحه، بل العقل يلزمنا أن نستفيد من تجارب الآخرين الناجحة، ومن أخطائهم.
4ـ إن من البديهيات العلمية أن لكلّ علم من العلوم أدواته، وطرقه، ومنابعه الخاصة به، وهذا الشخص له طرقه وأدواته ومنابعه في علمه الذي تخصص به، وأما في تلك العلوم فهو لا يملك أدواتها ولا طرقها ولا منابعها، فكيف يمكنه النجاح في ذلك؟!
نعم، بعض العلماء توجهوا لتدريس هذه العلوم من جهة سدّ النقص الحاصل بسبب سياسة الانحصار، وهؤلاء ليسوا محلّ الكلام، بل كلامنا حول مَنْ يصنِّف العلوم على أنها أوّلي وثانويّ، ويدرس هذه العلوم على هذا الأساس في أوقات الفراغ.
وهذا الأمر انجرّ إلى الندوات التخصصية، فنجد أنه يدّعى شخصية متخصّصة في الفقه لإلقاء محاضرة حول (نهج البلاغة)، وهذا الشخص في حياته لم يكتب مقالة حول هذا الموضوع، ولا دَرَسَ ولا درّس هذا الكتاب، وإنما دُعي لأنه مجتهد في الفقه والأصول.
وقد كنا نسمع البعض ينتقدون المقرَّبين من السيد أبو القاسم الخوئي(1413هـ) في أنهم منعوه من أن يكتب تفسيراً للقرآن الكريم، وفي الحقيقة علينا أن نكرِّم هؤلاء لأنهم بذلك جعلوا السيد يبدع في مجال تخصُّصه، واستطاع بذلك تخريج خمسة أجيال من الفقهاء محلّ اعتماد الطائفة إلى يوم الناس هذا.
▪ النظرة الفوقية لدارسي الفقه والأصول
هـ) الحالة النفسية التي تتولَّد لدى طلبة العلوم الدينية من جرّاء هذا الجوّ، فإن طلبة الفقه وأساتذته يرَوْن لأنفسهم أفضلية، وينظرون لغيرهم نظرةَ استنقاصٍ ـ وإن كانوا لا يصرِّحون بذلك، والبعض يصرِّح، بل إن هناك اصطلاح لمَنْ لا يتفوق في الفقه والأصول فينبز بأنه (روضه خون)، أي إنه لا يعرف الفقه والأصول، وما تشكله هذه القضية من آثار على نفسية الطلبة من الجانبين، وهنا نذكر بعض آثارها:
1ـ إنها تؤدي إلى الإحساس بالتفضيل لدى قسم من الطلبة مما يؤدي إلى تهيئة الأرضية الخصبة لنشوء التكبر باعتبار أنه له الأفضلية على غيره من بقية طلاب علوم آل محمد(ع).
2ـ إنها تؤدي إلى الحرص على اكتساب هذا العلم دون غيره لما فيه من مميزات ـ ذكرت آنفاً، وإن كان ليس في هذا التخصص قربة إلى الله أو فيه مصلحة للإسلام والمسلمين.
3ـ إنها تؤدي إلى الحسد من قبل الطرف الآخر من الطلبة المتخصصين في العلوم الأخرى من علوم آل محمد(ص).
والحالات الثلاث آنفة الذكر تعتبر من أخطر الأمراض الأخلاقية التي يمكن أن يصاب بها الانسان، وهو ما أشارت إليه الرواية المروية عن الإمام الحسن(ع) أنه قال: (هلاك الناس في ثلاث الكبر والحرص والحسد فالكبر هلاك الدين وبه لعن إبليس والحرص عدو النفس وبه أخرج آدم من الجنة والحسد رائد السوء ومنه قتل قابيل هابيل).
▪ العزوف عن التخصُّص في سائر العلوم
و) إنها تؤدي إلى عزوف الطلبة عن التخصُّص في العلوم الأخرى من علوم آل محمد(ص)، باعتبار أنه يقول لنفسه: أنا أتعب نفسي في علم غير مقدر من أهله والمفروض أن يكونوا من حماته بل قد أعاقب على تخصصي بقطع راتبي الشهري لعدم نجاحي في امتحان الفقه والأصول، مع أن غيري في علم الفقه والأصول ينالون جميع الامتيازات، وما لهذا الأمر من عوارض من أخطرها انقراض هذه العلوم الإلهية، وحرمان الأمة منها.
▪ العجز عن حلّ المشكلات غير المرتبطة بالفقه والأصول
ز) انتشار الحالات السلبية والظواهر الخطيرة في المجتمع، عقائدية وأخلاقية وسلوكية، وعجز الحوزة من معالجتها، من جهة أن جميع الطلبة مشغولون بدراسة علم الفقه والأصول، فهم يستطيعون حل مشاكل المجتمع التي لها ارتباط بالفتوى، وأما المجالات الأخرى فإنهم غير مؤهلين لحلها، بل أستطيع القول بأنهم لو تصدّوا لحلّها فإنهم سوف يزيدون الطين بلّة، لأن هذه المشاكل تحتاج إلى متخصِّص لحلّها، فمثله كمثل الطبيب المتخصص في القلب يدعى لمعالجة كسر في رجل شخص فإنه بالتأكيد سوف يؤدي إلى عرجه وإلى الأبد.
▪ مخالفة مناهج سائر الجامعات العلمية
ح) إن الحوزة العلمية من خلال هذه الطريقة وهذا المنهج تخالف جميع الجامعات العلمية في العالم، والتي حققت في جميع مجالات العلوم أفضل الانجازات في جميع المجالات، حيث تجد أن هذه الجامعات فيها كليات، والكليات تنقسم إلى فروع وهكذا، فمثلاً في الطب لا نجدهم يدرسون الباطنية ويعتبرون بقية أعضاء الجسم ثانوية، ولو كانوا قد فعلوا كما فعلنا لأدّى ذلك إلى انقراض البشر عن وجه الارض، وفي الهندسة لو أنهم اتخذوا من الهندسة المعمارية أساساً واعتبار بقية الفروع الأخرى في الهندسة ثانوية لوجَدْتَنا بدون طرق ولا جسور ولا سدود ولا مفاعلات نووية ولا حتّى بنايات من جهة أن البناء يحتاج إلى مواد تعتمد على الهندسة في مجالات أخرى غير الهندسة المعمارية.
▪ تضييع النظرية الفكرية الجامعة في القرآن والحديث
ط) إننا ومن خلال هذا المنهج ـ التركيز على علم معين وإهمال العلوم الأخرى ـ نهمل قسماً كبيراً من الآيات القرآنية وقسماً عظيماً من تراثنا الواصل إلينا من قِبَل الأئمة(عم)، فإن القرآن الكريم والإرث الروائي الواصل إلينا لم يكن فقهاً وأصولاً فقط بل هو فكر جامع لجميع المجالات الفلسفية والعقائدية والاخلاقية… فبإهمال جميع هذه العلوم ـ كما يحدث الآن ـ سوف يحدث عندنا خللٌ كبير في استخراج النظرية الاسلامية العامة.
▪ إشكالٌ وجواب
هنا قد يقول قائلٌ: إن التوسع في العلوم الأخرى إنما يجيء من خلال التوسع في الفقه والأصول.
وهو كلامٌ غير صحيح من جهتين:
الأولى: إنه مدّعى لا دليل عليه، فنحن لم نجرب التخصص في العلوم الدينية المختلفة لنقارن بين النتيجتين، بل ان التجارب في العلوم الأخرى أثبتت عكس ذلك.
الثانية: إنه خلاف السيرة العقلائية فلا يقال: إننا تقدّمنا في الفيزياء لأننا درسنا الكيمياء بشكلٍ جيد.
▪ العجز أمام تيّارات الانحراف المتعدِّدة
ومما يؤكِّد ما أوردناه ـ عجز الحوزة الذي خلّفته سياسة انحصار العلم بالفقه والأصول ـ ما حدث في النصف الثاني من القرن العشرين من ظهور ظواهر خطيرة هدّدت الإسلام، كظهور الشيوعية بعد الثورة البلشفية التي حدثت في روسيا سنة 1917م، ومعه المدّ القومي الذي جاء من أوروبا ـ إذ وجدنا أن الحوزة العلمية ـ والتي كانت تضمّ مجموعةً كبيرة من الفقهاء لم يسبق لها مثيلٌ في تاريخ التشيع ـ تقف عاجزةً أمام هذا التحدي الخطير، بل إن هذه الافكار والمدارس دخلت بيوت النخبة من علماء الطائفة من خلال أبنائهم، وإليك بعض النماذج:
النموذج الأول: نقل عن الشيخ محمد رضا المظفر ـ وهو من المجدِّدين، وممَّنْ واجه ذلك المدّ الشيطاني بكلّ قوّةٍ ـ أنه ما نصب طعام إلّا وشبّ جدالٌ بين أبنائه والذين كانوا منقسمين بين هذه المذاهب الوضعية.
النموذج الثاني: إن محمد صالح بن مهدي بن محسن بحر العلوم الطباطبائي أحد ابناء عائلة بحر العلوم كان شاعر الشيوعيين الأوّل في العراق والعالم العربي.
النموذج الثالث: محمد مهدي الجواهري، شاعر العرب الأول، كان أحد طلبة العلوم الدينية، وهو من عائلة الشيخ حسن صاحب الجواهر، ثم أصبح شاعراً للشيوعيين تارةً؛ وتارةً للقوميين، بحَسَب ظروفه وحالته المزاجية.
النموذج الرابع: بلغَتْ قوّة الشيوعيين في النجف الأشرف ـ والتي قلنا: إنها كانت تضمّ عدداً من الفقهاء لم يسبق له نظير في تاريخ التشيع ـ بحيث إنهم حاصروا بيت السيد الحكيم، والذي كان مرجع الطائفة في ذلك الوقت ممّا اضطرّه إلى الرحيل إلى مدينة كربلاء.
والنماذج أكثر من أن تُحصى، وأستطيع تصنيف كتب أشير فيها إلى ما حدث في تلك الفترة؛ لأنني كنت معاصراً لها، ورأيتُ بأمّ عيني ما حدث للأمة في ذلك الزمان.
فاذا كانت هذه الحالة في النجف التي هي مقرّ الحوزة العلمية، فما بالك ببقية الأصقاع الأخرى من العراق؟ وما بالك بحال البلدان والقارات الأخرى؟ وهذا العجز أمر طبيعي إذ كيف يمكن لهذه الحوزة الفقهية الأصولية أن تتصدى لمجالٍ ليس من تخصُّصها، ولو كانت الحوزة اتّخذت منهج الأئمة(عم) في عدم حصر اهتمامهم بعلمٍ دون آخر لما حدث ما حدث.
▪ محاربة المشتغلين بغير هذين العلمين
وليتهم حصروا العلم في هذين العلمين، بل إنهم حاربوا كلّ مَنْ يحاول أن يخرج عن هذا الخطّ، ولنذكر هنا حادثتين:
1ـ روى الإمام الخميني أن ابنه الشهيد مصطفى شرب ماءً في المدرسة الفيضية فبادر أحدهم إلى غسل الإناء، ولما سُئل عن السبب قال: إن والده يدرّس الفلسفة.
2ـ بسبب الضغوط التي كانت تمارس على العلامة الطباطبائي(1401هـ) اضطرّ إلى تعطيل درسه عدّة مرات، وحرم طلابه من الراتب، وقد سمعت من أحد العلماء أنه كان يذهب إلى درس السيد سرّاً بدون علم والده الذي كان يمنعه من ذلك.
ولولا تصدّي بعض الأفاضل ممَّنْ كانوا قد درسوا هذه العلوم بشكلٍ غير منتظم وخارج السياق الحوزوي، وشروع بعض العلماء الشجعان في تحدّي انحصار العلم بالفقه والأصول من خلال الشروع بتدريس الفلسفة وعلم الكلام، وخصوصاً في حوزة قم المقدّسة، وبالنتيجة تخريج مجموعة من الفضلاء الذين وقفوا أمام هذه الهجمة، لما بقي للإسلام اسمٌ ولا رسم.
المشكلة الثانية: الاعتماد على كتبٍ لم تؤلَّف للتدريس
إن النظام الحالي في الحوزة يعتمد ـ في كلّ المجالات التي تدرس وحتّى في الفقه والأصول ـ على كتب لم تؤلَّف لكي تكون كتباً دراسية، كاللمعة والمكاسب والكفاية، وهذا الأمر يدخل الطالب في دوّامة وأرق، إذ إن المطالب العلمية في تدريسها تحتاج إلى آليات وطرق خاصة متبعة وناجحة في كل أنحاء العالم في تدريس العلوم، بل إننا نجد حتى في المدارس التعليمية الأكاديمية الأولى ـ الابتدائية والمتوسطة والإعدادية ـ هناك لجان لتأليف الكتب المدرسية، ويقومون بإدخال الإصلاحات عليها في كلّ سنةٍ تماشياً مع المستجدات العلمية على الساحة العالمية.
المشكلة الثالثة: غياب الآلية الناجعة لتطوير التحقيقات العلميّة
إن النظام المتَّبع في الحوزة لا توجد فيه آلية محدّدة في مجال تطوير التحقيق العلمي، فليست هنا نسبة معينة من الحقوق الشرعية لهذا المجال، ومن أجل هذا الأمر تجد المحقِّقين في الحوزة، وخاصة الجدد، يستجدون هذا، ويتملّقون لهذا، ويبيعون آثارهم التي جاءت من السهر والتعب البدني، بأرخص الأثمان وتقوم دور النشر بفرض تغييرات على المضامين العلمية الواردة في هذه الكتب، وهذا يؤدّي بالنتيجة إلى أن يستغني الطالب عن هذا المنهج، إذ يقول في نفسه: لماذا أكتب والمؤسسة التي أكتب لها غير مهتمة وغير داعمة؟ وبذلك ينتهي التحقيق والبحث العلمي، ونبقى نخاطب العالم اليوم بكتب ألّفت قبل ألف سنة، ويكون يومنا كالبارحة، وخير ما يمكن أن يعبِّر عن هذه الحالة قول أمير المؤمنين(ع): (مَنْ اعتدل يوماه فهو مغبون).
المشكلة الرابعة: ضعف الدعم الماليّ
في كلّ مرّةٍ ترتفع الدعوات إلى الإصلاح يرفع في وجوهنا موضوع الضعف المادّي وقلة الأموال، وعندما تقول لهم: إننا نعيش في دولةٍ إسلامية غنية، يقولون: إننا يجب أن نفرِّق بين الدولة والحوزة، وهنا ترد عدّة اسئلة: أليست هذه دولة إسلامية تعمل بالقوانين الإسلامية ودستورها إسلامي؟ أوليست هذه الحوزة تعمل من أجل خدمة الإسلام والمسلمين ومنهم أبناء هذه البلاد، إنْ لم يكن هم أكثر المستفيدين منه؟ اذن يرتفع الإشكال الذي من أجله أسّست القاعدة، فالقاعدة أسّست بالأصل من أجل أن لا تصبح الحوزة ألعوبةً في أيدي الطغاة ـ كما حدث في بعض المذاهب الأخرى، ولكنْ الآن الدولة إسلامية، ومن ناحيةٍ أخرى الحوزة تخدم الدولة في مدّها بالمبلِّغين وأئمّة الجمعة والجماعة، والقضاة، وتخدم أمنها القومي من خلال التبليغ لمبادئها والدفاع عنها في الخارج، وبعد كلّ هذا أليس من الإنصاف أن تدعم هذه المؤسسة من قبل الدولة الإسلامية؟!
المشكلة الخامسة: انحصار اللغات بالعربيّة والفارسيّة
من الواضحات أن في العالم الآلاف من اللغات، ورسالة الحوزة رسالة عالمية، وليست منحصرة في بلد أو قارة معينة، ولكن الملاحظ أن الحوزة لا تولي هذا الجانب الاهتمام المطلوب، فلا يوجد في الحوزة تدريس إلاّ بلغتين، هما: العربية والفارسية فقط، ومعنى ذلك أننا حددنا نشاطنا في رقعةٍ محدودة من العالم وتركنا بقية أرجاء العالم تفترسه الأديان والفرق المختلفة، وتركنا للمصادفة وضربة الحظّ أن يصبح شخصٌ يعرف إحدى هذه اللغات شيعيّاً ويأتي إلى الحوزة ويدرس، ثم يبلغ للتشيع والإسلام ويدافع عنهما، وأما نفس الحوزة فلم تقم بأيّ جهدٍ من أجل تدريس هذه اللغات وإنشاء مبلغين يتقنونها وبالتالي يبلغونها، وهذا أيضاً يرجع إلى انحصارية العلم في الحوزة.
▪ المعالجات المتصوَّرة للنظام التعليميّ في الحوزة
إذا أردنا أن نواكب العصر، ونحلّ المشاكل التي يعاني منها الشيعة خاصة، والمسلمون بشكلٍ عامّ، فلا بُدَّ ولزاماً علينا تغيير هذا النظام الحالي واستبداله بنظام يتلاءم والتحدّيات التي نواجهها.
وهذه الإصلاحات تتمثَّل في عدة أمور:
1ـ أن يُصار إلى تصنيف العلوم التي تدخل في مجال العلوم الإسلامية، وتأسيس كلّيات بعدد هذه العلوم، وبذلك يكون عندنا متخصِّصون في جميع المجالات، فلا نواجه بنقصٍ، ولا نضطر إلى إيكال حل المشكلات إلى غير المتخصِّصين فلا يزيدون الأمور إلا سوءاً.
2ـ يدخل الطالب في بداية أمره إلى دورةٍ من الدراسة عامّة لمدّة أربع سنوات يدرس فيها العلوم الدينية بأجمعها، الفقه والأصول والكلام والحديث والفلسفة…، ومن ثمّ يتخرّج بدرجة بكالوريوس عامّة في العلوم الدينية.
3ـ عدم إجبار الطلبة على الانخراط في تخصُّص الفقه والأصول رغم أنفه كما يحدث الآن، بل يترك له كامل الحرّية في أن ينتخب تخصُّصاً من التخصُّصات الإسلامية، لكي يتخصَّص بها، فيصبح إمّا مؤلِّفاً فيها أو مدرِّساً أو متخصّصاً ترجع إليه الناس ومؤسّسة الحوزة إذا حدثت مشكلةٌ في تخصُّصه.
4ـ الشروع في تصنيف المدرِّسين الأكفاء كلٌّ بحَسَب مادته، وايجاد دورات تخصُّصية لإيجاد منهج تدريسي علمي يقوم هؤلاء من خلاله بتدريس المواد الموكلة إليهم.
5ـ تشكيل لجان علمية متخصِّصة لتأليف المواد في جميع التخصُّصات، مع التخلّي عن الكتب المتَّبع تدريسها في الحوزة في الوقت الراهن، من جهة أنها كتب لم تؤلَّف لكي تكون كتباً دراسية، بل إنها أُقحمت إقحاماً وفرضت فرضاً.
6ـ العمل على تغيير النظرة التحقيرية لباقي علوم آل محمد(ص)، من خلال الإشارة إلى أهميتها من قِبَل مراجع الأمّة، مع الإشارة إلى الآثار السيئة ـ التي ذكرنا جانباً منها ـ.
7ـ تغيير نظام الرواتب المتَّبع في الحوزة، وهو نظامٌ وضعي بلا أدنى شكٍّ، ويصار إلى نظام جديد يعتمد آلية التخصُّصات لا الاقتصار على الفقه والأصول، فطلبة علم الكلام يعطون راتباً بحسب درجتهم في علم الكلام، لا بحَسَب درجتهم في الفقه، وهكذا سيشعر فضلاء الحوزة في التخصُّصات المتعددة بالأمان المالي فيبدعون في تخصُّصاتهم.
8ـ دعم المحقِّقين في جميع العلوم الدينية، مادّياً ومعنوياً، من أجل خلق الأرضية للتجديد والإبداع في جميع المجالات، ومن أجل أن تتواكب الحوزة مع المستجدّات العالمية، وذلك من خلال أمور:
الأوّل: تأسيس مراكز تحقيقية هدفها تقديم الاستشارات العلمية للمحقِّقين في جميع المجالات العلمية، ويعمل فيه وبجدٍّ مجموعة من المحقِّقين متخصّصين من ذوي الباع في العلوم التي تخصَّصوا بها، لا ان يجعل فاضلٌ في الفقه والأصول مسؤولاً عن قسم الفلسفة كما يحدث الآن.
الثاني: تأسيس المجلاّت العلمية لنشر مقالاتهم العلمية، في جميع التخصُّصات، فتؤسَّس مجلة لعلم الكلام وأخرى للفقه وثالثة للفلسفة، وهكذا.
الثالث: تأسيس دار نشر متخصِّصة لنشر كتب المحقِّقين، وعدم تركهم فريسة لأصحاب دور النشر ذات النفع المادي.
ولا بُدَّ من الإشارة إلى أنه ينبغي أن لا يكون هدف هذه المجلات ودار النشر مادّياً، بل بما أنها مأخوذة من الحقوق الشرعية فيكون هدفها الإرشاد والتثقيف فقط.
9ـ تقنين الدعم الذي تقدِّمه الدولة الإسلامية للحوزة باعتبارها مؤسّسة تخدم الصالح العامّ، وعليه فإنها لا بُدَّ أن تستفيد من موارد الدولة، حالها في ذلك حال المؤسّسات الأخرى، فلا يعقل أن تعطى أموال الدولة للعمّال الذين يجمعون الزبالة، ولا تعطى هذه الأموال لمَنْ يهدون الناس إلى الحقّ وإلى الصراط المستقيم!
10ـ إنشاء كلّية للغات تابعة للحوزة؛ لإعداد مبلغين يتقنون اللغات المختلفة لنشر الإسلام والتشيع في أنحاء العالم، وللدفاع عنه.
انتهت
المصدر: موقع نصوص معاصرة