printlogo


printlogo


□ مقالة/ الجزء الثاني والأخیر
نظام التربية والتعليم في الحوزات العلميّة الشيعية مشكلاتٌ وحلول

▪ العلوم الاُخرى في أوقات الفراغ
د) إن هذه النظرة أدّت إلى أن تظهر حالة خطيرة تتمثل في أن بعض الفقهاء تصدّوا إلى تدريس العلوم ‏الأخرى باعتبار أنها علوم ثانوية يدرسونها وقت فراغهم، فظهرت عندنا حالة عجيبة ننفرد بها عن جميع ‏الجامعات العلمية، وهي أن نصف أحدهم بانه: (فقيه أصولي ومحدث رجالي، نجومي ورياضي، متبحِّر في ‏المعقول والمنقول، وأستاذ ماهر، وشاعر بليغ، وزاهد متّقٍ، وهو في أوصافه الحميدة وأخلاقه الفاضلة ‏مشهور ومعروف، وجامع الكمالات الصورية والمعنوية، وإضافة إلى العلوم العقلية والنقلية والمتداولة له ‏باع طويل في الكثير من العلوم)، وهذا ما لا نجده في أيٍّ من الجامعات العلمية الأخرى، فلا نجد في ‏العالم أحد يقول: (طبيب مهندس طيار عالم ذرّة فيلسوف أديب...).‏
قد يقول قائل: ما هو المانع؟ فهذا ليس غريباً في تاريخنا، فقد وجدنا أمثال ابن سينا، والشيخ البهائي، ‏وغيرهم قد نبغوا في العديد من العلوم‎.‎
وفي معرض الجواب عن ذلك أقول‎:‎
‏1ـ إن هذه الحالات كانت من النوادر والقاعدة لا تؤسِّس على الشاذ النادر‎.‎
‏2ـ ان من ذكروا لو كانوا تخصّصوا في علم واحد من العلوم المتعدّدة التي اشتغلوا بها لكان أنفع بكثير ‏للإسلام والمذهب، وهو ما ثبت بالتجربة في العلوم الأخرى، إذ إن اشتغاله بعدّة علوم سيشتت جهوده من ‏جهة، ومن جهة أخرى سيحدث خلطاً في العلوم التي يدرسها، وهو ما وجدناه في عدّة مجالاتٍ لا مجال ‏لذكرها هنا‎.‎
‏3ـ لا دليل يلزمنا بأن نبقى على ما فعله السابقون مهما كان وإنْ ثبت عدم نجاعته وعدم نجاحه، بل العقل ‏يلزمنا أن نستفيد من تجارب الآخرين الناجحة، ومن أخطائهم‎.‎
‏4ـ إن من البديهيات العلمية أن لكلّ علم من العلوم أدواته، وطرقه، ومنابعه الخاصة به، وهذا الشخص له ‏طرقه وأدواته ومنابعه في علمه الذي تخصص به، وأما في تلك العلوم فهو لا يملك أدواتها ولا طرقها ‏ولا منابعها، فكيف يمكنه النجاح في ذلك؟‎!‎
نعم، بعض العلماء توجهوا لتدريس هذه العلوم من جهة سدّ النقص الحاصل بسبب سياسة الانحصار، ‏وهؤلاء ليسوا محلّ الكلام، بل كلامنا حول مَنْ يصنِّف العلوم على أنها أوّلي وثانويّ، ويدرس هذه العلوم ‏على هذا الأساس في أوقات الفراغ‎.‎
وهذا الأمر انجرّ إلى الندوات التخصصية، فنجد أنه يدّعى شخصية متخصّصة في الفقه لإلقاء محاضرة ‏حول (نهج البلاغة)، وهذا الشخص في حياته لم يكتب مقالة حول هذا الموضوع، ولا دَرَسَ ولا درّس ‏هذا الكتاب، وإنما دُعي لأنه مجتهد في الفقه والأصول.‏
وقد كنا نسمع البعض ينتقدون المقرَّبين من السيد أبو القاسم الخوئي(1413هـ) في أنهم منعوه من أن ‏يكتب تفسيراً للقرآن الكريم، وفي الحقيقة علينا أن نكرِّم هؤلاء لأنهم بذلك جعلوا السيد يبدع في مجال ‏تخصُّصه، واستطاع بذلك تخريج خمسة أجيال من الفقهاء محلّ اعتماد الطائفة إلى يوم الناس هذا‎.‎
▪ النظرة الفوقية لدارسي الفقه والأصول
هـ) الحالة النفسية التي تتولَّد لدى طلبة العلوم الدينية من جرّاء هذا الجوّ، فإن طلبة الفقه وأساتذته يرَوْن ‏لأنفسهم أفضلية، وينظرون لغيرهم نظرةَ استنقاصٍ ـ وإن كانوا لا يصرِّحون بذلك، والبعض يصرِّح، بل ‏إن هناك اصطلاح لمَنْ لا يتفوق في الفقه والأصول فينبز بأنه (روضه خون)، أي إنه لا يعرف الفقه ‏والأصول، وما تشكله هذه القضية من آثار على نفسية الطلبة من الجانبين، وهنا نذكر بعض آثارها‎:‎
‏1ـ إنها تؤدي إلى الإحساس بالتفضيل لدى قسم من الطلبة مما يؤدي إلى تهيئة الأرضية الخصبة لنشوء ‏التكبر باعتبار أنه له الأفضلية على غيره من بقية طلاب علوم آل محمد(ع).‏
‏2ـ إنها تؤدي إلى الحرص على اكتساب هذا العلم دون غيره لما فيه من مميزات ـ ذكرت آنفاً، وإن ‏كان ليس في هذا التخصص قربة إلى الله أو فيه مصلحة للإسلام والمسلمين‎.‎
‏3ـ إنها تؤدي إلى الحسد من قبل الطرف الآخر من الطلبة المتخصصين في العلوم الأخرى من علوم آل ‏محمد(ص).‏
‎ ‎والحالات الثلاث آنفة الذكر تعتبر من أخطر الأمراض الأخلاقية التي يمكن أن يصاب بها الانسان، وهو ‏ما أشارت إليه الرواية المروية عن الإمام الحسن(ع) أنه قال: (هلاك الناس في ثلاث الكبر والحرص ‏والحسد فالكبر هلاك الدين وبه لعن إبليس والحرص عدو النفس وبه أخرج آدم من الجنة والحسد رائد ‏السوء ومنه قتل قابيل هابيل).‏
▪ العزوف عن التخصُّص في سائر العلوم
و) إنها تؤدي إلى عزوف الطلبة عن التخصُّص في العلوم الأخرى من علوم آل محمد(ص)، باعتبار أنه ‏يقول لنفسه: أنا أتعب نفسي في علم غير مقدر من أهله والمفروض أن يكونوا من حماته بل قد أعاقب ‏على تخصصي بقطع راتبي الشهري لعدم نجاحي في امتحان الفقه والأصول، مع أن غيري في علم الفقه ‏والأصول ينالون جميع الامتيازات، وما لهذا الأمر من عوارض من أخطرها انقراض هذه العلوم الإلهية، ‏وحرمان الأمة منها‎.‎
▪ العجز عن حلّ المشكلات غير المرتبطة بالفقه والأصول
ز) انتشار الحالات السلبية والظواهر الخطيرة في المجتمع، عقائدية وأخلاقية وسلوكية، وعجز الحوزة من ‏معالجتها، من جهة أن جميع الطلبة مشغولون بدراسة علم الفقه والأصول، فهم يستطيعون حل مشاكل ‏المجتمع التي لها ارتباط بالفتوى، وأما المجالات الأخرى فإنهم غير مؤهلين لحلها، بل أستطيع القول ‏بأنهم لو تصدّوا لحلّها فإنهم سوف يزيدون الطين بلّة، لأن هذه المشاكل تحتاج إلى متخصِّص لحلّها، فمثله ‏كمثل الطبيب المتخصص في القلب يدعى لمعالجة كسر في رجل شخص فإنه بالتأكيد سوف يؤدي إلى ‏عرجه وإلى الأبد‎.‎
▪ مخالفة مناهج سائر الجامعات العلمية
ح) إن الحوزة العلمية من خلال هذه الطريقة وهذا المنهج تخالف جميع الجامعات العلمية في العالم، ‏والتي حققت في جميع مجالات العلوم أفضل الانجازات في جميع المجالات، حيث تجد أن هذه ‏الجامعات فيها كليات، والكليات تنقسم إلى فروع وهكذا، فمثلاً في الطب لا نجدهم يدرسون الباطنية ‏ويعتبرون بقية أعضاء الجسم ثانوية، ولو كانوا قد فعلوا كما فعلنا لأدّى ذلك إلى انقراض البشر عن وجه ‏الارض، وفي الهندسة لو أنهم اتخذوا من الهندسة المعمارية أساساً واعتبار بقية الفروع الأخرى في ‏الهندسة ثانوية لوجَدْتَنا بدون طرق ولا جسور ولا سدود ولا مفاعلات نووية ولا حتّى بنايات من جهة ‏أن البناء يحتاج إلى مواد تعتمد على الهندسة في مجالات أخرى غير الهندسة المعمارية‎.‎
▪ تضييع النظرية الفكرية الجامعة في القرآن والحديث
ط) إننا ومن خلال هذا المنهج ـ التركيز على علم معين وإهمال العلوم الأخرى ـ نهمل قسماً كبيراً من ‏الآيات القرآنية وقسماً عظيماً من تراثنا الواصل إلينا من قِبَل الأئمة(عم)، فإن القرآن الكريم والإرث ‏الروائي الواصل إلينا لم يكن فقهاً وأصولاً فقط بل هو فكر جامع لجميع المجالات الفلسفية والعقائدية ‏والاخلاقية… فبإهمال جميع هذه العلوم ـ كما يحدث الآن ـ سوف يحدث عندنا خللٌ كبير في ‏استخراج النظرية الاسلامية العامة‎.‎
▪ إشكالٌ وجواب
هنا قد يقول قائلٌ: إن التوسع في العلوم الأخرى إنما يجيء من خلال التوسع في الفقه والأصول‎.‎
وهو كلامٌ غير صحيح من جهتين‎:‎
الأولى: إنه مدّعى لا دليل عليه، فنحن لم نجرب التخصص في العلوم الدينية المختلفة لنقارن بين ‏النتيجتين، بل ان التجارب في العلوم الأخرى أثبتت عكس ذلك‎.‎
الثانية: إنه خلاف السيرة العقلائية فلا يقال: إننا تقدّمنا في الفيزياء لأننا درسنا الكيمياء بشكلٍ جيد‎.‎
▪ العجز أمام تيّارات الانحراف المتعدِّدة
ومما يؤكِّد ما أوردناه ـ عجز الحوزة الذي خلّفته سياسة انحصار العلم بالفقه والأصول ـ ما حدث في ‏النصف الثاني من القرن العشرين من ظهور ظواهر خطيرة هدّدت الإسلام، كظهور الشيوعية بعد الثورة ‏البلشفية التي حدثت في روسيا سنة 1917م، ومعه المدّ القومي الذي جاء من أوروبا ـ إذ وجدنا أن ‏الحوزة العلمية ـ والتي كانت تضمّ مجموعةً كبيرة من الفقهاء لم يسبق لها مثيلٌ في تاريخ التشيع ـ تقف ‏عاجزةً أمام هذا التحدي الخطير، بل إن هذه الافكار والمدارس دخلت بيوت النخبة من علماء الطائفة من ‏خلال أبنائهم، وإليك بعض النماذج‎:‎
النموذج الأول: نقل عن الشيخ محمد رضا المظفر ـ وهو من المجدِّدين، وممَّنْ واجه ذلك المدّ الشيطاني ‏بكلّ قوّةٍ ـ أنه ما نصب طعام إلّا وشبّ جدالٌ بين أبنائه والذين كانوا منقسمين بين هذه المذاهب الوضعية.‏
النموذج الثاني: إن محمد صالح بن مهدي بن محسن بحر العلوم الطباطبائي أحد ابناء عائلة بحر العلوم ‏كان شاعر الشيوعيين الأوّل في العراق والعالم العربي‎.‎
النموذج الثالث: محمد مهدي الجواهري، شاعر العرب الأول، كان أحد طلبة العلوم الدينية، وهو من عائلة ‏الشيخ حسن صاحب الجواهر، ثم أصبح شاعراً للشيوعيين تارةً؛ وتارةً للقوميين، بحَسَب ظروفه وحالته ‏المزاجية‎.‎
النموذج الرابع: بلغَتْ قوّة الشيوعيين في النجف الأشرف ـ والتي قلنا: إنها كانت تضمّ عدداً من الفقهاء لم ‏يسبق له نظير في تاريخ التشيع ـ بحيث إنهم حاصروا بيت السيد الحكيم، والذي كان مرجع الطائفة في ‏ذلك الوقت ممّا اضطرّه إلى الرحيل إلى مدينة كربلاء‎.‎
والنماذج أكثر من أن تُحصى، وأستطيع تصنيف كتب أشير فيها إلى ما حدث في تلك الفترة؛ لأنني كنت ‏معاصراً لها، ورأيتُ بأمّ عيني ما حدث للأمة في ذلك الزمان‎.‎
فاذا كانت هذه الحالة في النجف التي هي مقرّ الحوزة العلمية، فما بالك ببقية الأصقاع الأخرى من ‏العراق؟ وما بالك بحال البلدان والقارات الأخرى؟ وهذا العجز أمر طبيعي إذ كيف يمكن لهذه الحوزة ‏الفقهية الأصولية أن تتصدى لمجالٍ ليس من تخصُّصها، ولو كانت الحوزة اتّخذت منهج الأئمة(عم) في ‏عدم حصر اهتمامهم بعلمٍ دون آخر لما حدث ما حدث‎.‎
▪ محاربة المشتغلين بغير هذين العلمين
وليتهم حصروا العلم في هذين العلمين، بل إنهم حاربوا كلّ مَنْ يحاول أن يخرج عن هذا الخطّ، ولنذكر ‏هنا حادثتين‎:‎
‏1ـ روى الإمام الخميني أن ابنه الشهيد مصطفى شرب ماءً في المدرسة الفيضية فبادر أحدهم إلى غسل ‏الإناء، ولما سُئل عن السبب قال: إن والده يدرّس الفلسفة.‏
‏2ـ بسبب الضغوط التي كانت تمارس على العلامة الطباطبائي(1401هـ) اضطرّ إلى تعطيل درسه عدّة ‏مرات، وحرم طلابه من الراتب، وقد سمعت من أحد العلماء أنه كان يذهب إلى درس السيد سرّاً بدون ‏علم والده الذي كان يمنعه من ذلك‎.‎
ولولا تصدّي بعض الأفاضل ممَّنْ كانوا قد درسوا هذه العلوم بشكلٍ غير منتظم وخارج السياق الحوزوي، ‏وشروع بعض العلماء الشجعان في تحدّي انحصار العلم بالفقه والأصول من خلال الشروع بتدريس ‏الفلسفة وعلم الكلام، وخصوصاً في حوزة قم المقدّسة، وبالنتيجة تخريج مجموعة من الفضلاء الذين وقفوا ‏أمام هذه الهجمة، لما بقي للإسلام اسمٌ ولا رسم‎.‎
المشكلة الثانية: الاعتماد على كتبٍ لم تؤلَّف للتدريس
إن النظام الحالي في الحوزة يعتمد ـ في كلّ المجالات التي تدرس وحتّى في الفقه والأصول ـ على كتب ‏لم تؤلَّف لكي تكون كتباً دراسية، كاللمعة والمكاسب والكفاية، وهذا الأمر يدخل الطالب في دوّامة ‏وأرق، إذ إن المطالب العلمية في تدريسها تحتاج إلى آليات وطرق خاصة متبعة وناجحة في كل أنحاء ‏العالم في تدريس العلوم، بل إننا نجد حتى في المدارس التعليمية الأكاديمية الأولى ـ الابتدائية والمتوسطة ‏والإعدادية ـ هناك لجان لتأليف الكتب المدرسية، ويقومون بإدخال الإصلاحات عليها في كلّ سنةٍ ‏تماشياً مع المستجدات العلمية على الساحة العالمية‎.‎
المشكلة الثالثة: غياب الآلية الناجعة لتطوير التحقيقات العلميّة
إن النظام المتَّبع في الحوزة لا توجد فيه آلية محدّدة في مجال تطوير التحقيق العلمي، فليست هنا نسبة ‏معينة من الحقوق الشرعية لهذا المجال، ومن أجل هذا الأمر تجد المحقِّقين في الحوزة، وخاصة الجدد، ‏يستجدون هذا، ويتملّقون لهذا، ويبيعون آثارهم التي جاءت من السهر والتعب البدني، بأرخص الأثمان ‏وتقوم دور النشر بفرض تغييرات على المضامين العلمية الواردة في هذه الكتب، وهذا يؤدّي بالنتيجة إلى ‏أن يستغني الطالب عن هذا المنهج، إذ يقول في نفسه: لماذا أكتب والمؤسسة التي أكتب لها غير مهتمة ‏وغير داعمة؟ وبذلك ينتهي التحقيق والبحث العلمي، ونبقى نخاطب العالم اليوم بكتب ألّفت قبل ألف ‏سنة، ويكون يومنا كالبارحة، وخير ما يمكن أن يعبِّر عن هذه الحالة قول أمير المؤمنين(ع): (مَنْ اعتدل ‏يوماه فهو مغبون).‏
المشكلة الرابعة: ضعف الدعم الماليّ
في كلّ مرّةٍ ترتفع الدعوات إلى الإصلاح يرفع في وجوهنا موضوع الضعف المادّي وقلة الأموال، وعندما ‏تقول لهم: إننا نعيش في دولةٍ إسلامية غنية، يقولون: إننا يجب أن نفرِّق بين الدولة والحوزة، وهنا ترد ‏عدّة اسئلة: أليست هذه دولة إسلامية تعمل بالقوانين الإسلامية ودستورها إسلامي؟ أوليست هذه الحوزة ‏تعمل من أجل خدمة الإسلام والمسلمين ومنهم أبناء هذه البلاد، إنْ لم يكن هم أكثر المستفيدين منه؟ ‏اذن يرتفع الإشكال الذي من أجله أسّست القاعدة، فالقاعدة أسّست بالأصل من أجل أن لا تصبح ‏الحوزة ألعوبةً في أيدي الطغاة ـ كما حدث في بعض المذاهب الأخرى، ولكنْ الآن الدولة إسلامية، ‏ومن ناحيةٍ أخرى الحوزة تخدم الدولة في مدّها بالمبلِّغين وأئمّة الجمعة والجماعة، والقضاة، وتخدم أمنها ‏القومي من خلال التبليغ لمبادئها والدفاع عنها في الخارج، وبعد كلّ هذا أليس من الإنصاف أن تدعم هذه ‏المؤسسة من قبل الدولة الإسلامية؟‎!‎
المشكلة الخامسة: انحصار اللغات بالعربيّة والفارسيّة
من الواضحات أن في العالم الآلاف من اللغات، ورسالة الحوزة رسالة عالمية، وليست منحصرة في بلد أو ‏قارة معينة، ولكن الملاحظ أن الحوزة لا تولي هذا الجانب الاهتمام المطلوب، فلا يوجد في الحوزة ‏تدريس إلاّ بلغتين، هما: العربية والفارسية فقط، ومعنى ذلك أننا حددنا نشاطنا في رقعةٍ محدودة من ‏العالم وتركنا بقية أرجاء العالم تفترسه الأديان والفرق المختلفة، وتركنا للمصادفة وضربة الحظّ أن يصبح ‏شخصٌ يعرف إحدى هذه اللغات شيعيّاً ويأتي إلى الحوزة ويدرس، ثم يبلغ للتشيع والإسلام ويدافع ‏عنهما، وأما نفس الحوزة فلم تقم بأيّ جهدٍ من أجل تدريس هذه اللغات وإنشاء مبلغين يتقنونها وبالتالي ‏يبلغونها، وهذا أيضاً يرجع إلى انحصارية العلم في الحوزة‎.‎
▪ المعالجات المتصوَّرة للنظام التعليميّ في الحوزة
إذا أردنا أن نواكب العصر، ونحلّ المشاكل التي يعاني منها الشيعة خاصة، والمسلمون بشكلٍ عامّ، فلا بُدَّ ‏ولزاماً علينا تغيير هذا النظام الحالي واستبداله بنظام يتلاءم والتحدّيات التي نواجهها‎.‎
وهذه الإصلاحات تتمثَّل في عدة أمور‎:‎
‏1ـ أن يُصار إلى تصنيف العلوم التي تدخل في مجال العلوم الإسلامية، وتأسيس كلّيات بعدد هذه العلوم، ‏وبذلك يكون عندنا متخصِّصون في جميع المجالات، فلا نواجه بنقصٍ، ولا نضطر إلى إيكال حل ‏المشكلات إلى غير المتخصِّصين فلا يزيدون الأمور إلا سوءاً‎.‎
‏2ـ يدخل الطالب في بداية أمره إلى دورةٍ من الدراسة عامّة لمدّة أربع سنوات يدرس فيها العلوم الدينية ‏بأجمعها، الفقه والأصول والكلام والحديث والفلسفة…، ومن ثمّ يتخرّج بدرجة بكالوريوس عامّة في ‏العلوم الدينية‎.‎
‏3ـ عدم إجبار الطلبة على الانخراط في تخصُّص الفقه والأصول رغم أنفه كما يحدث الآن، بل يترك له ‏كامل الحرّية في أن ينتخب تخصُّصاً من التخصُّصات الإسلامية، لكي يتخصَّص بها، فيصبح إمّا مؤلِّفاً فيها ‏أو مدرِّساً أو متخصّصاً ترجع إليه الناس ومؤسّسة الحوزة إذا حدثت مشكلةٌ في تخصُّصه‎.‎
‏4ـ الشروع في تصنيف المدرِّسين الأكفاء كلٌّ بحَسَب مادته، وايجاد دورات تخصُّصية لإيجاد منهج ‏تدريسي علمي يقوم هؤلاء من خلاله بتدريس المواد الموكلة إليهم‎.‎
‏5ـ تشكيل لجان علمية متخصِّصة لتأليف المواد في جميع التخصُّصات، مع التخلّي عن الكتب المتَّبع ‏تدريسها في الحوزة في الوقت الراهن، من جهة أنها كتب لم تؤلَّف لكي تكون كتباً دراسية، بل إنها ‏أُقحمت إقحاماً وفرضت فرضاً‎.‎
‏6ـ العمل على تغيير النظرة التحقيرية لباقي علوم آل محمد(ص)، من خلال الإشارة إلى أهميتها من قِبَل ‏مراجع الأمّة، مع الإشارة إلى الآثار السيئة ـ التي ذكرنا جانباً منها ـ‎.‎
‏7ـ تغيير نظام الرواتب المتَّبع في الحوزة، وهو نظامٌ وضعي بلا أدنى شكٍّ، ويصار إلى نظام جديد يعتمد ‏آلية التخصُّصات لا الاقتصار على الفقه والأصول، فطلبة علم الكلام يعطون راتباً بحسب درجتهم في علم ‏الكلام، لا بحَسَب درجتهم في الفقه، وهكذا سيشعر فضلاء الحوزة في التخصُّصات المتعددة بالأمان المالي ‏فيبدعون في تخصُّصاتهم‎.‎
‏8ـ دعم المحقِّقين في جميع العلوم الدينية، مادّياً ومعنوياً، من أجل خلق الأرضية للتجديد والإبداع في ‏جميع المجالات، ومن أجل أن تتواكب الحوزة مع المستجدّات العالمية، وذلك من خلال أمور‎:‎
الأوّل: تأسيس مراكز تحقيقية هدفها تقديم الاستشارات العلمية للمحقِّقين في جميع المجالات العلمية، ‏ويعمل فيه وبجدٍّ مجموعة من المحقِّقين متخصّصين من ذوي الباع في العلوم التي تخصَّصوا بها، لا ان ‏يجعل فاضلٌ في الفقه والأصول مسؤولاً عن قسم الفلسفة كما يحدث الآن.‏
الثاني: تأسيس المجلاّت العلمية لنشر مقالاتهم العلمية، في جميع التخصُّصات، فتؤسَّس مجلة لعلم الكلام ‏وأخرى للفقه وثالثة للفلسفة، وهكذا‎.‎
الثالث: تأسيس دار نشر متخصِّصة لنشر كتب المحقِّقين، وعدم تركهم فريسة لأصحاب دور النشر ذات ‏النفع المادي‎.‎
ولا بُدَّ من الإشارة إلى أنه ينبغي أن لا يكون هدف هذه المجلات ودار النشر مادّياً، بل بما أنها مأخوذة ‏من الحقوق الشرعية فيكون هدفها الإرشاد والتثقيف فقط‎.‎
‏9ـ تقنين الدعم الذي تقدِّمه الدولة الإسلامية للحوزة باعتبارها مؤسّسة تخدم الصالح العامّ، وعليه فإنها لا ‏بُدَّ أن تستفيد من موارد الدولة، حالها في ذلك حال المؤسّسات الأخرى، فلا يعقل أن تعطى أموال الدولة ‏للعمّال الذين يجمعون الزبالة، ولا تعطى هذه الأموال لمَنْ يهدون الناس إلى الحقّ وإلى الصراط المستقيم‎!‎
‏10ـ إنشاء كلّية للغات تابعة للحوزة؛ لإعداد مبلغين يتقنون اللغات المختلفة لنشر الإسلام والتشيع في ‏أنحاء العالم، وللدفاع عنه‎.‎
انتهت
المصدر:‏ موقع نصوص معاصرة