هفته‌نامه سیاسی، علمی و فرهنگی حوزه‌های علمیه

نسخه Pdf

حديث الغدير والإشكالات المعاصرة

□ مقالة / الجزء الأول

حديث الغدير والإشكالات المعاصرة

□  الشيخ عباس علي الصائغ

▪ الملخّص تعرّض الكاتب في هذا البحث إلى إشكاليّة فصل السّياسة عن الدين الّتي يطرحها بعض العلمانيّين، مستدلّين على فكرتهم بحديث الغدير وغيره، وقد عرض الكاتب أوّلاً فكرتهم الّتي يريدون تصويرها بشكل مستقلّ، وذكر الشّواهد عليها بشكل موضوعيّ، ثمّ قام بنقدها ومناقشتها بشكل مفصّل وتجزيئيّ.

▪ مقدّمة
يعتبر حديث الغدير من أقوى الأحاديث الدّالّة على إمامة وخلافة الإمام علي(ع) بعد النّبيّ(ص) سنداً ودلالةً، وكان هذا الحديث وما زال هو المعضلة لدى علماء العامّة في كيفيّة الجمع بين خلافة الخلفاء الثّلاثة وبين هذا الحديث؛ إذ إنّ هذا الحديث يرفض فكرة خلافة غير الإمام علي(ع) بعد النّبيّ(ص)، ولكن الواقع الذي حصل هو خلافة الخلفاء الثّلاثة، فمن هنا ومن أجل تبرير خلافة الثّلاثة جاءت التّشكيكات والتّأويلات لحديث الغدير بما يتناسب مع الأهواء والمصالح والاعتقاد، فمن هؤلاء العلماء مَن شكّك في تواتر حديث الغدير، ومنهم من حاول تأويل معناه بما لا يخدش معتقده في الخلفاء الثّلاثة، وهكذا.
وقد انبرى علماؤنا الأبرار للرّدّ على هذه التّشكيكات والتّأويلات في كتبهم بما لا مزيد عليه، حتّى صار الأمر واضحاً وضوح الشّمس لكلّ متأمّل منصف.
إلّا أنّه في الآونة الأخيرة ظهرت مجموعة أخرى تشكّك في حديث الغدير أو تحاول تأويله بما يتناسب مع منهجهم، وهم مجموعة الحداثيّين والعلمانيّين، سواء كانوا منتسبين إلى مذهب التّشيّع أم لا، فيحاول هؤلاء تأويل حديث الغدير بما يتناسب مع فكرهم ومنهجهم وهو فصل السّياسة والدولة عن الدين، فهؤلاء يحاولون التّمسّك بكلّ فكرة تؤيّد هذا المعنى، فنلاحظ أنّهم قد يتمسّكون مثلاً ببعض إشكالات علماء العامّة القديمة الّتي يمكن أن تخدم فكرتهم كما سيتّضح، وكذلك يضيفون بعض الإشكالات الأخرى.
من هنا نحاول أن نطرح فكرتهم وإيراداتهم وإشكالاتهم على حديث الغدير بما يوضّح الهدف الّذي يريدون الوصول إليه، من دون حاجة إلى التطرّق إلى أسمائهم؛ فالمهمّ هو الفكرة، ثمّ نقوم بالرّدّ على تلك الإشكالات بما يسعه المقام.
فيقع البحث في قسمين:
▪ القسم الأول: توضيح فكرة عدم دلالة حديث الغدير على الجمع بين الدّين والسّياسة
سوف نقوم في هذا القسم بعرض فكرتهم وأدلّتها من دون المناقشة فيها؛ حتّى تتشكّل الصّورة بشكل واضح، ومن ثمّ سنقوم بالرّدّ والمناقشة في القسم الثّاني.
حاصل الفكرة: أنّه من الواضح أنّ الدّين لا يخالف حقوق الإنسان الفطريّة؛ لأنّ مخالفتها تعدّ ظلماً للإنسان، والظّلم لا يصدر من الدّين والشّريعة؛ لأنّه أمر قبيح، بل الدّين جاء ليعزّز هذه الحقوق الفطريّة للإنسان. ومن جملة الحقوق الفطريّة للإنسان هو حقّ اختيار الحاكم، وهو حقّ ندركه بالوجدان؛ إذ من الواضح وممّا ندركه بالوجدان أن ليس لأحد حقّ السّلطنة على الآخر إلّا إذا خُوّل بذلك، فإذا أدركنا هذا الحقّ الفطريّ فإنّه تتمحّض وظيفة الدّين حينئذٍ في إرشاد النّاس إلى اختيار الأفضل من الحكّام، ولا يمكن أن يُجبر الدّينُ النّاسَ على اختيار حاكم معيّن، ولذا يقول الإمام علي(ع) نفسه حول هذا الموضوع: >الواجب في حكم الله وحكم الإسلام على المسلمين بعدما يموت إمامهم أو يُقتل، ضالاً كان أو مهتدياً، مظلوماً كان أو ظالماً، حلال الدّم أو حرام الدّم، أن لا يعملوا عملاً، ولا يحدثوا حدثاً، ولا يقدّموا يداً ولا رِجلاً، ولا يبدؤا بشيء قبل أن يختاروا لأنفسهم إماماً يجمع أمرهم، عفيفاً، عالماً، ورعاً، عارفاً بالقضاء والسّنّة، يجمع أمرهم، ويحكم بينهم، ويأخذ للمظلوم من الظّالم، فالإمام(ع) يقرّر أنّ حقّ اختيار الإمام والحاكم هو من حقوق النّاس، فهم الّذين لهم الحقّ في اختيار الحاكم، لا أنّه يُفرَض عليهم فرضاً.
إذا اتّضح ذلك، فلا بدّ -إذا أردنا أن نفهم حادثة الغدير فهماً صحيحاً- ألّا نفصل بين حادثة الغدير وبين ما أثبتناه قبل قليل من أنّ الدّين لا يخالف الحقوق الفطريّة للإنسان، وإلّا كنّا بعيدين عن الفهم الحقيقيّ لحادثة الغدير.
▪ فكيف يمكن لنا أن نفهم حادثة الغدير فهماً صحيحاً عميقاً؟
للإجابة عن هذا التّساؤل ينبغي الالتفات إلى مجموعة من الأمور قبل الخوض في دلالات حديث الغدير؛ بحيث تعيننا هذه الأمور على فهم حديث الغدير فهماً صحيحاً:
الأمر الأوّل: هو ما قرّرناه سابقاً، من أنّ حقّ انتخاب الحاكم هو من الحقوق الفطريّة للإنسان الّتي ندركها بالوجدان، والدّين لا يمكن أن يخالف الحقوق الفطريّة؛ لأنّه ظلم قبيح.
الأمر الثّاني: إنّ الطّريقة العقلائيّة الّتي يمكن من خلالها انتخاب الحاكم هي الّتي تسمّى بالشّورى، وهي ما يُصطلح عليه في العصر الحديث بالدّيموقراطيّة، أي: حكم الأغلبيّة، أو الأخذ برأي أغلبيّة الشّعب؛ إذ إنّ هذه الطّريقة هي المتناغمة مع فطرة الإنسان في اختيار الحاكم.
الأمر الثّالث: إنّ النّظريّة الّتي يطرحها الشّيعة في تنصيب الحاكم هي نظرية تخالف الدّيموقراطيّة، والّتي هي طّريقة عقلائيّة لاختيار الحاكم، بل تخالف الحقّ الفطريّ للإنسان في انتخاب الحاكم؛ لأنّها تفرض على الشّعب حاكماً معيّناً من دون أن تكون للشّعب يدٌ في ذلك، بحيث يكون هناك تجاهل لآراء الأمّة، وهذا ممّا لا ينسجم مع الدّين كما أوضح سابقاً.
الأمر الرّابع: إذا لاحظنا أهداف الدّين نجدها تتقاطع مع أهداف الحكومة والدّولة ولا يمكن الجمع بينها؛ حيث إنّ أهداف الدّين تنصبّ حول هداية النّاس، وشدّهم نحو الله تعالى، وإعمار الآخرة، والتّحلّي بالفضائل الأخلاقيّة، بينما أهداف الحكومة تنصبّ حول إقامة العدل والقسط بين النّاس وإعمار الدّنيا، ومن الواضح أنّ إقامة العدل والقسط بين النّاس تُخلِّف حَنَقاً وأثراً سيّئاً لدى المحكوم عليهم بالأحكام القضائيّة وإن كان حكماً حقّاً وعادلاً، فإذا كان الدّين هو من يقوم بهذه الوظيفة -وهي إقامة القسط بين النّاس- فسوف ينفرُ النّاسُ منه ولن يحقّق أهدافه في هداية النّاس.
بعد أن اتّضحت هذه الأمور نأتي إلى حديث الغدير، ونرى هل يمكن أن يدلّ على ما تذهب إليه الشّيعة من أنّ الإمامة تكون بالتّنصيب الإلهيّ أو لا؟
فنقول: إنّ حديث الغدير ليس صريحاً في تنصيب الإمام علي(ع) خليفة للمسلمين، بل إنّ كلمة (المولى) لها عدّة معانٍ كما هو مقرّر في محلّه، وبالتّالي لا ينبغي حمله على ما يخالف الحقوق الفطريّة للإنسان من حقّ انتخاب الحاكم، فغاية ما يدلّ عليه قوله(ص): «من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه» هو أنّ الإمام علي(ع) هو مولاكم في أمور الدّين، أي: هو المرجعيّة الدّينيّة لكم بعد النّبيّ(ص)؛ لأنّه أفضل النّاس من بعد النّبيّ(ص) في هذا الأمر، أمّا أنّه(ع) هو الحاكم السّياسيّ من بعد النّبيّ(ص) فلا دلالة فيه على ذلك، فيبقى حقّ اختيار الحاكم متروكاً للنّاس.
نعم، من خلال الملازمة العقليّة نستكشف أنّ الدّين قد أرشد النّاس إلى اختيار الإمام علي(ع) حتّى في الإمامة السّياسيّة، ولكن هذا ليس بالإلزام الدّينيّ والتّنصيب الإلهيّ، فلا يوجد هناك تنصيب فعليّ للإمام علي(ع) في أمر الحكم والدّولة، بل للنّاس أن يأخذوا بهذا الإرشاد ولهم أنّ يتركوه، ولا تدخل مخالفة إرشاد النبي(ص) في هذا الأمر في عداد المعصية.
إذاً، المشكلة الّتي وقع فيها الشّيعة في فهم حديث الغدير هي أنّهم قد تصوّروا بأنّ هذا التّنصيب على نحو الإلزام الشّرعيّ، متغافلين عن أنّ الإلزام الشّرعيّ يعدّ مخالفاً للحقّ الفطريّ للإنسان في انتخاب الحاكم، كما أنّهم تصوّروا بأنّ أمر الأمّة الإسلاميّة لا يستقيم إلّا إذا تمّ تعيين الحاكم من قبل الله، والحال أنّ المسألة ليست كذلك، ولذا ذهبوا إلى تفسير حديث الغدير بتفسير خاطئ وهو التّنصيب الإلهيّ للحاكم السّياسيّ.
وإلّا لو ربطوا حديث الغدير بما قدّمناه سابقاً من نقاط لاتّضح لهم بشكل جليّ أنّ النّبيّ(ص) إنّما قام فقط بترشيح الإمام علي(ع) للخلافة، كما تفعل ذلك سائر الأحزاب والشّخصيّات السّياسيّة عند تقديم مرشّحيها للانتخابات من أجل انتخاب النّاس لهم، فهذا مجرّد ترشيح واقتراح، لا أنّه على نحو الإلزام.
ويشهد لهذا المعنى مجموعة من الشّواهد المهمّة:
الشّاهد الأوّل: أنّ صحابة النّبيّ(ص) قد سمعوا حديث الغدير وحضروا الواقعة، ومع ذلك خالفوا إرشاد النّبيّ(ص)، ومن المستبعد جدّاً -بحسب سيرة العقلاء، وبحسب طبيعة سلوك النّاس عامّة- أن يكونوا قد خالفوا أمراً إلزاميّاً من النّبيّ(ص)، بل الصّحيح أنّ الصّحابة لم يفهموا من حديث الغدير إلّا ما فهمناه، وهو أنّ الإمام علي(ع) هو الإمام في أمور الدّين فقط، وأمّا الرّئاسة الدّنيويّة واختيار الحاكم للدّولة فهو يبقى حقّاً للنّاس، يختارون من يشاؤون بحسب ما يرونه من مصلحة.
الشّاهد الثّاني: أنّ النّبيّ(ص) لم يأخذ البيعة من المهاجرين والأنصار للإمام عليّ(ع) بعد حادثة الغدير، وإنّما هناك مجموعة منهم بادروا بأنفسهم لتهنئة الإمام عليّ(ع) على هذه المكانة الّتي احتلّها من رسول الله(ص)، وأنّه أرشد النّاس لاختياره، وهذا شاهد على أنّ النّبيّ(ص) إنّما نصّب الإمام عليّ(ع) إماماً في الدّين وليس في الحكم.
الشّاهد الثّالث: أنّ الإمام عليّ(ع) عندما طُولب بالبيعة لأبي بكر لم يستشهد بحديث الغدير في مقام احتجاجه، وإنّما كان يحتجّ عليهم بكمالاته الذّاتيّة وأنّه الأصلح لتولّي الخلافة، وكذلك لم يفهم المسلمون من حديث الغدير أنّه يتنافى مع بيعة أبي بكر، وهذا شاهد على أنّ حديث الغدير لا يدلّ إلّا على الإمامة الدّينيّة فقط، ولا يدلّ على الإمامة السّياسيّة.
الشّاهد الرّابع: أنّ النّبيّ(ص) يعلم بأنّ في تنصيب الإمام عليّ(ع) خليفة على المسلمين خطراً كبيراً، وأنّ هذا التّنصيب سوف يؤدّي إلى الخلاف والشّقاق بين المسلمين، وأنّ جملة منهم سوف يخالفون هذا الأمر، وبالتّالي يذهب المخالفون لأمره إلى النّار بسبب عصيانهم لأوامر النّبيّ(ص)، وهذا خلاف الغرض الّذي جاء به النّبيّ(ص) وهو هداية النّاس وتقريبهم إلى الله عزّ وجلّ. فهذا شاهد على أنّ النّبيّ(ص) لم ينصّب الإمام علي(ع) أصلاً خليفة على المسلمين، بل أرشدهم لاختياره من دون إلزام، وبالتّالي لا يترتّب على مخالفة هذا الإرشاد أيّة معصية، ولا يذهبون إلى النّار.
الشّاهد الخامس: تهاون الإمام(ع) في استلام مقاليد الخلافة بعد أن بُويع أبوبكر، فهو(ع) بعد رحيل النّبيّ(ص) اشتغل بتجهيز النّبيّ(ص) ولم يذهب إلى السّقيفة، ثمّ بعد السّقيفة لم يبادر للثّورة وجمع الأصحاب واسترداد حقّه -لو كان له حقّ-، بل نجده قد رفض الخلافة بعد مقتل عثمان، فلو كان الإمام(ع) مُنصَّباً من قبل النّبيّ(ص) فهل له أن يرفض البيعة والخلافة؟ بل نجد أنّ الإمام(ع) يستهين بهذا المنصب غاية الاستهانة؛ وذلك فيما رواه ابن عباس حيث يقول: دخلت على أمير المؤمنين(ع) بذي قار وهو يخصف نعله، فقال لي: «ما قيمة هذا النّعل؟ فقلت: لا قيمة لها! فقال(ع): واللّه لهي أحبّ إليّ من إمرتكم»، فهذا كلّه شاهد على أنّ النّبيّ(ص) لم ينصّبه أصلاً للخلافة الدّنيويّة السّياسيّة.
الشّاهد السّادس: أنّ أصحاب الإمام عليّ(ع) قد تولّوا المناصب في فترة خلافة الخلفاء الثّلاثة، مثل: عمّار بن ياسر الّذي كان والي الكوفة، وسلمان الفارسيّ الّذي كان والي المدائن، وكانوا يشاركون القوم في حروبهم كما في فتح بلاد فارس وأفريقيا، هذا مضافاً إلى أنّ الإمام عليّ(ع) كان يقدّم المشورة والنّصيحة للقوم، ويتعاون معهم، وهذا شاهد على أنّ الإمام(ع) كان موافقاً لهم في سياستهم، وأنّ الأصحاب لم يفهموا من حديث الغدير إلّا الإمامة الدّينيّة، دون الإمامة الدّنيويّة السّياسيّة.
الشّاهد السّابع: أنّ سيرة الأئمّةi كانت قائمة على الرّفض من تولّي الخلافة، فأمّا الإمام علي(ع) فهو إنّما قبل بالخلافة بعد إلحاح النّاس عليه من بعد مقتل عثمان، وأمّا الإمام الحسن(ع) فهو أيضاً لم يكن يريد الخلافة من الأساس، بل كان يريد الصّلح مع معاوية منذ أن تولّى الخلافة، ولكن لكون رفضه للخلافة وتسليمه إيّاها لمعاوية منذ البداية سوف يؤجّج الموتورين من أصحابه ويُشعل أزمة داخليّة بين الشّيعة، قام(ع) أوّلاً بتولّي الخلافة لمدّة يسيرة، ثمّ سرعان ما تخلّى عنها بعد أن اتّضح لأهل الكوفة مقدار الخيانات الّتي حصلت في جيش الإمام الحسن(ع)، وبالتّالي خفّ الضّغط على الإمام الحسن(ع)، وهكذا سائر الأئمّة(ع) كانوا يرفضون القيام من أجل الأخذ بالخلافة، فهذا شاهد على أنّهم لم يكونوا يرون أنّ الخلافة الدّنيويّة حقّ لهم ليطالبوا بها.
إذاً، نكتفي بهذه المجموعة من الشّواهد الّتي تؤكّد على أنّ النّبيّ(ص) لم ينصّب الإمام عليّ(ع) خليفة على المسلمين في حادثة الغدير، وإنّما جعله إماماً في الأمور الدّينيّة فقد، وأرشد النّاس إلى اختياره حاكماً سياسيّاً ولكن لا على نحو الإلزام، فتبقى إمامة الإمام رهينة ببيعة الأمّة له، فما لم تنعقد البيعة للحاكم من قبل النّاس لن تقوم له الحجّة في أعناقهم، ولكن ما إن يبايعوه حتّى يكون حكمه ملزماً لهم، وتغدو سلطته شرعيّة، وتجب عليهم الطّاعة شرعاً.
هذا تمام الكلام في بيان فكرة ونظرة بعض العلمانيّين لحادثة الغدير، وكيف أنّهم يؤوّلون الحديث بما يتوافق مع نظريّتهم من فصل السيّاسة عن الدّين. وهم لديهم كذلك مجموعة أخرى من الرّوايات -غير حديث الغدير- يستندون إليها في تدعيم فكرتهم، ولكن اقتصرنا على ما يقال في حديث الغدير؛ لأهمّيته وتواتره.
▪ القسم الثّاني: نقد ومناقشة هذه الفكرة
لنأتي الآن لمناقشة هذا الطّرح بشكل تفصيليّ، وبالنّحو الّذي يرتفع به أيّ إشكال قد يعلق في الذّهن:
المناقشة الأولى: وهي ترتبط بالأساس الّذي بنيت عليه هذه الفكرة والنّظريّة، وهو أنّ حقّ انتخاب الحاكم هو من الحقوق الفطريّة للإنسان الّتي ندركها بالوجدان، فلا يجوز على الدّين مخالفة هذا الحقّ الفطريّ.
فنقول: أوّلاً: إنّ القول بأنّ انتخاب الحاكم هو من الحقوق الفطريّة للإنسان هو أوّل الكلام، فمن أين نعرف أنّ هذا من الحقوق الفطريّة؟! والوجدان لا يحكم بشيء هنا.
ثانياً: إنّ المسلَّم بالوجدان هو ألّا سلطنة لأحدٍ من البشر على أحدٍ من البشر، ولكن هذا لا يعني ألّا سلطنة لله تعالى على مخلوقاته، بل الله تعالى هو المالك لكلّ شيء، وكلّ مالك فإنّ له التّصرّف في ملكه؛ كما يقرّره العقلاء أنفسهم، فالله تعالى له الحقّ في تنصيب الحاكم بما يراه من مصلحة للعباد، ولا يكون في ذلك منافاة لحقّ النّاس؛ إذ لا حقّ في قبال حقّ الله عزّ وجلّ.
ثالثاً: إنّ المتكلّمين قد أثبتوا في كتبهم أنّ الإمامة تجب عن الله تعالى بقاعدة اللّطف العقليّة([3])، فالعقل هو الّذي يحكم بلزوم تنصيب إمامٍ على الأمّة، فكيف يقال بأنّ مسألة اختيار الحاكم ترجع لأمر البشر وأنّه حقّ من حقوقهم الفطريّة؟!
رابعاً: بالنّسبة للحديث الّذي تمّ الاستشهاد به والمرويّ عن أمير المؤمنين(ع) والّذي جاء فيه: «.. أن يختاروا لأنفسهم إماماً عفيفاً، عالماً، ورعاً، عارفاً بالقضاء والسّنّة»، فإنّه لو نُقلت الرّواية بتمامها لانتفى الإشكال، حيث يصرّح الإمام(ع) بعد ذلك بأنّ الله تعالى قد اختاره إماماً للنّاس وكفى المؤمنين مؤونة الاختيار، حيث قال(ع): «وأنّ أوّل ما ينبغي للمسلمين أن يفعلوه أن يختاروا إماماً يجمع أمرهم إن كانت الخيرة لهم ويتابعوه ويطيعوه، وإن كانت الخيرة إلى الله  وإلى رسوله فإنّ الله قد كفاهم النّظر في ذلك والاختيار، ورسول الله| قد رضي لهم إماماً وأمرهم بطاعته واتّباعه»، فهل هناك ما هو أصرح من هذا الكلام في كون الإمام عليّ(ع) قد اختاره الله تعالى ورسوله(ص) لمنصب الخلافة؟!
خامساً: ما هي الإمامة المقصودة والّتي نبحث عنها؟
يمكن تقسيم الإمامة إلى إمامة واقعيّة وإمامة ظاهريّة:
أمّا الإمامة الواقعيّة، فقد بيّنها الإمام الرّضا(ع) في رواية طويلة عن عبد العزيز بن مسلم، نذكر شيئاً منها: «يا عبد العزيز... هل يعرفون قدر الإمامة ومحلّها من الأمّة فيجوز فيها اختيارهم، إنّ الإمامة أجلّ قدراً وأعظم شأناً وأعلا مكاناً وأمنع جانباً وأبعد غوراً من أن يبلغها النّاس بعقولهم، أو ينالوها بآرائهم، أو يقيموا إماماً باختيارهم... إنّ الإمامة هي منزلة الأنبياء، وإرث الأوصياء، إنّ الإمامة خلافة الله وخلافة الرّسول(ص) ومقام أمير المؤمنين(ع) وميراث الحسن والحسينh، إنّ الإمامة زمام الدّين، ونظام المسلمين، وصلاح الدّنيا، وعزّ المؤمنين، إنّ الإمامة أسّ الإسلام النّامي، وفرعه السّامي، بالإمام تمام الصّلاة والزّكاة والصّيام والحجّ والجهاد، وتوفير الفيء والصّدقات، وإمضاء الحدود والأحكام، ومنع الثّغور والأطراف... فمن ذا الّذي يبلغ معرفة الإمام، أو يمكنه اختياره، هيهات هيهات، ضلّت العقول، وتاهت الحلوم، وحارت الألباب... وكيف يوصف بكلّه، أو ينعت بكنهه، أو يفهم شيء من أمره، أو يوجد من يقوم مقامه ويغني غناه، لا كيف وأنى؟ وهو بحيث النّجم من يد المتناولين، ووصف الواصفين، فأين الاختيار من هذا؟ وأين العقول عن هذا؟ وأين يوجد مثل هذا؟! أتظنّون أنّ ذلك يوجد في غير آل الرّسول محمّد|؟ كذبّتهم والله أنفسهم، ومنتهم الأباطيل، فارتقوا مرتقاً صعباً دحضاً، تزلّ عنه إلى الحضيض أقدامهم، راموا إقامة الإمام بعقول حائرة بائرة ناقصة، وآراء مضلّة، فلم يزدادوا منه إلّا بعداً،...»، فالإمامة الواقعيّة ثابتة للمعصوم(ع)، قبِل النّاس به أم لا، طالب بها الإمام أم لا، فهذا لا يغيّر من الواقع شيئاً.
وأمّا الإمامة الظّاهريّة، فقد عرّفها المشهور من المتكلّمين -من العامّة والخاصّة- بأنّها: "رئاسة عامّة في الدّين والدّنيا"، فالعامّة إذا قالوا بإمامة شخص فهم يقولون بإمامته في الدّين والدّنيا، والخاصّة إذا قالوا بإمامة شخص فهم يقولون بإمامته في الدّين والدنيا، وبالتّالي فإنّ القول الّذي يقول بالفصل بين الأمرين -أي بين الدّين والدّنيا- مخالف لما فهمه كثير من المسلمين من الإمامة.
المناقشة الثّانية: وهي ترتبط بقولهم بأنّ نظرية الشّيعة الإماميّة تتعارض مع الدّيموقراطيّة الّتي هي الطّريقة العقلائيّة لتنصيب الحاكم.
فنقول: أوّلاً: لا نريد هنا الخوض في ثغرات الدّيموقراطيّة الّتي يعترف بها حتّى الغربيّين أنفسهم، حيث بحثوا طويلاً في كيفية تبرير حكم الأكثريّة على الأقلّيّة، وغيرها من الثّغرات المذكورة، إلّا أنّنا نقول: ما هي قيمة الديموقراطية في قبال الحقّ الإلهيّ حتّى نقول بوجود التّعارض بينهما؟! إنّ الدّيموقراطيّة نتاج بشريّ وفيها الكثير من الثّغرات والنّواقص الحقوقيّة والإنسانيّة كما يقول معتنقوها، فكيف يمكن لمؤمن بالله تعالى أن يجعل الحقّ الإلهيّ في مصافّ هذا النّتاج البشريّ؟! نعم، "نحن قد نؤمن بالدّيموقراطيّة عمليّاً بلحاظات موضوعيّة معيّنة، ولكن هذا لا يعني أن نحتضنها ديناً، وألّا نناقشها فكراً، وألّا نحاسبها منطلقاً ونتيجةً، وألّا نردّ منها ما يردّه العقل والدّين".
ثانياً: إنّ الإمامة مسألة جعليّة إلهيّة، فالله تبارك وتعالى هو الّذي يجعل الإمامة عند من يشاء ويراه الأصلح لذلك، فبالإضافة إلى دليل العقل على ذلك -وهو دليل قاعدة اللطف- فقد دلّ النّقل على ذلك، كما في قوله تعالى: {وجعلنا منهم أئمّة يهدون بأمرنا لمّا صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون}، فالله تعالى هو الّذي يجعل الأئمّة لا النّاس، وكذلك قوله تعالى على لسان موسى(ع): {واجعل لي وزيراً من أهلي، هارون أخي}، فالنّبيّ موسى(ع) لم يجعل أخاه هارون وزيراً من تلقاء نفسه، وإنّما طلب من الله تعالى أن يجعله وزيراً؛ لأنّ هذا الجعل لا يكون إلّا من الله تعالى، وكذلك النّبيّ إبراهيم(ع) حينما قال: {قال ومن ذرّيتي، قال لا ينال عهدي الظّالمين}، فقد طلب من الله تعالى أنّ يجعل الإمامة في ذريّته، ولم يجعلها هو(ع) فيهم من تلقاء نفسه؛ وذلك لأنّ الإمامة عبارة عن جعل إلهيّ.
ثالثاً: يمكن النّقض عليهم بأنّ ما تُشكلون به على الإمامة يأتي حتّى على النبوّة، فهل نبوّة النّبيّ(ص) تتعارض مع الدّيموقراطيّة عندكم؟ لا تلتزمون بذلك.
رابعاً: هل الدّيموقراطيّة هدف أم وسيلة؟ لا شكّ أنّ الدّيموقراطيّة في نظر المفكّرين هي وسيلة لإقامة العدل والقسط بين النّاس وليست هدفاً في حدّ ذاتها، ولذا لو جاءت نظريّة أخرى تضمن تحقّق العدل بين النّاس لأُخذ بها، ولذا نقول بأنّ التّنصيب الإلهيّ يضمن للإنسان سعادته وإقامة العدل، وبالتّالي لا معنى للتّمسّك بالدّيموقراطيّة.
المناقشة الثّالثة: وهي المرتبطة بقولهم إنّ أهداف الدّين تتعارض مع أهداف الحكومة، فهدف الدّين هداية النّاس وإعمار الآخرة، بينما هدف الحكومة هو إقامة العدل والقسط بين النّاس وإعمار الدّنيا، فلو تولّى الدّين إقامة العدل والقسط بين النّاس لتنفّر النّاس من الدّين؛ باعتبار أنّ طبيعة إقامة العدل تخلّف سخطاً وأثراً سيّئاً لدى المحكوم عليهم بالأحكام القضائيّة، وهذا يتنافى مع أهداف الدّين.
فنقول: أوّلاً: لا نرى أيّ تعارض بين الأهداف، بل العكس من ذلك؛ فإنّ إقامة العدل والقسط بين النّاس يعتبر طريقاً لهداية النّاس وقبولهم الدّين الحقّ، فالنّاس كلّما رأت العدل انشدّت واقتربت نحو الدّين أكثر.
ثانياً: أمّا بالنّسبة لامتعاض بعضهم وحَنَقهم على بعض الأحكام القضائيّة الصّادرة في حقّهم فهذا لا يعني رفض حكومة الدّين كما هو واضح، فإنّ هذا الامتعاض منهم من غير وجه حقّ، وإلّا فلازم ذلك إلغاء كلّ المحاكم؛ لأنّه ليس من مصلحة أيّ حكومة أن تجمّع النّاقمين عليها، وهل يقول بذلك عاقل؟!
تم الجزء الأول من المقالة ویلیه الجزء الثاني في العدد المستقبل
المصدر: مجلة رسالة القلم، العدد 64‏

برچسب ها :
ارسال دیدگاه