□ ندوة
دور جهاد التبيين في إعادة تشكيل المجتمع
▪ تعريف المسألة المستحدثة
اختتم معهد المعارف الحكمية الأربعاء 17/5/2023 الساعة الخامسة عصرًا سلسلة محاضرات جهاد التبيين بمحاضرة خامسة تحت عنوان: “دور جهاد التبيين في إعادة تشكيل المجتمع” مع الأستاذ هادي قبيسي مدير مركز الاتحاد للأبحاث والتطوير. وبحضور نخبة من المثقفين والمهتمين.
استهل الأستاذ هادي قبيسي محاضرته بالحديث عن أن مفهوم جهاد التبيين أطلقه الإمام الخامنئي كعنوان للمواجهة مع الحروب التي تستهدف البعد المعنوي والمعرفي، لافتًا إلى أن هذا الجهاد يتحقق عبر تصحيح المعرفة والإدراك بعد التعرض للتشوه والالتباس بفعل الهجوم المعرفي الإعلامي.
وأكد أن هذا النوع من الحرب يترك آثارًا عميقة تطال أبعاد الحياة الإنسانية المختلفة، ومنها البعد الاجتماعي.
ثم تطرق إلى تعريف التبيين فاعتبره عملية اجتماعية تهدف لحفظ حضور ووصول الحقيقة بأبعادها المختلفة إلى كل الأفراد والفئات والشرائح، يسميها الإمام الخامنئي الحفاظ على سلسلة التواصي بالحق.
وأضاف، أن التبيين يؤدي إلى إعادة حيوية التواصل وتطوير التفاعل المعرفي والمعنوي على أساس الحقيقة والعدالة، وهو بمثابة عملية توحيد للجماعة البشرية التي يقسمها الانحراف عن الحقائق والوقائع، في ظل تنامي التدخلات الخارجية المرتكزة إلى ثورة الاتصالات الحديثة، والتي تعمل على إعادة تركيب العلاقات الداخلية للجماعة من خلال تعديل المعلومات المتداولة عبر التشويش والتضليل، وتجميد دور العقل، وتقديم دور الغريزة، وتشتيت التوجهات الفكرية والعبث بمنهج التقييم والتحليل، وتعديل مبادئ العلاقات والروابط والتلاعب بالأولويات.
وفي معرض حديثه عن بنية التشكل الاجتماعي/المعرفي أشار قبيسي إلى أن حياة الجماعة ترتكز إلى تركيب من مستويات التعامل المعنوي والإدراكي، في هذا البعد تجري الكثير من التفاعلات المفصلية التي تحدد مصير الجماعة وطبيعة عيشها المعنوي والمادي.
وتابع، يمكن تشخيص مرتكزات هذا التعامل المعنوي والإدراكي بالعناوين التالية: المنطق، الوعي، آداب الاعتراف المتبادل، التخادم المشترك، الثقة بالمعلومات والسلوكيات، القضايا العامة، القوانين الشرعية السماوية، البنى والأدوار والمسؤوليات، الاتفاقيات الجماعية، التعاطف القرابي العمومي.
وفي تناوله لعنوان منهج التحليل، صرّح قبيسي بأن الإمام الخامنئي وضع إطارًا عامًّا للاستراتيجية التي تستهدف الجمهورية الإسلامية، يتمحور حول جهاد التبيين، حيث يقف كمهمة تقع على عاتق الدولة والمؤسسات والأفراد، لتعيد بناء الروابط وتشكيل الثقة المتبادلة والاعتمادية بين كل مستويات البنية الاجتماعية، في مقابل هدفهم المتمثل بسياسة تركيع الجمهورية الإسلامية، وبث الخلاف، وتغييب ثقة التيارات السياسية بعضها ببعض، وغياب ثقة الناس بنظام الحكم، وغياب ثقة نظام الحكم بالناس وغيرها من السياسات.
واعتبر أن المنطق العقلاني يحتاج إلى الانسجام بين القواعد المدرَكة وبين المعلومات، وكذلك إلى قدرة تشخيص المغالطات والانزياحات في بناء الاستنتاج…
وفي ما يتعلق ببرامج الإقناع والتغيير الثقافي رأى قبيسي أنها تعمل على مجموعة واسعة من الأساليب التي تتجاوز القواعد العقلانية؛ وذلك بهدف تسيير المجتمع المستهدف نحو التخلي عن المصالح التي يقررها العقل والمنطق السليم لكي تسهل السيطرة على تلك المصالح والمكتسبات المتعلقة بها.
أما عمليات التبيين، فاعتبر أنها تحتاج إلى دائرة كاملة من المعالجة القادرة على إعادة تأهيل الشرائح المختلفة والتعامل مع الإشكاليات المتنوعة والظروف المتفاوتة، لإعادة ترميم ما انقطع من الانتظام العقلاني المنطقي، الذي يسمح للإنسان بالتعامل الواقعي بالمعنى الوجودي والقيمي والعملاني. موضحًا أن عمليات التبيين هنا تحصل عبر إعادة البناء وكذلك في المعالجة المباشرة.
وعن الوعي، شرح قبيسي بأنه يستند إلى الانتباه والذاكرة، بحيث يتشكل تيار الإدراك المنسجم والمتصل بين الحالات والمتغيرات والأفكار والذوات، ويمكن أن يتقلص الوعي ليصبح محدودًا وتنحسر قدرة الربط فينقطع تيار الإدراك وتصبح المعرفة مضطربة، وتتعذر إمكانية تشكل صورة كلية مستقرة عن الخارج الآني أو المستمر.
وأوضح أن عمليات الإقناع وإعادة صناعة الحقائق والوقائع في ساحات عديدة تعمل على تعديل نظرة المجتمعات إلى مواردها وقدراتها وإنجازاتها، وتحقق انفصامًا بين الإدراك والوقائع رغم وجود الوعي الكامن المطابق للوقائع، مشيرًا أنه وبهدف السيطرة على تلك المصالح يتم التلاعب بالمعطيات البديهية المتشكلة في الوعي البسيط، ومن خلال هذا التمزق في الوعي يمكن أن تتعرض سائر العناصر القائمة في الوعي للاهتزاز والضعف وصولًا إلى المسائل القيمية التي تمليها الفطرة البشرية لتصبح قابلة للشك والتساؤل.
واعتبر أن إعادة الفرد والجماعة إلى الوعي المنسجم والمتطابق بالحدود الممكنة مع الوقائع الكلية والأساسية في الزمان المعاش وتبعًا لضروراته وتحدياته، تستند إلى عمليات ترميم المنطق وتصحيح منتجاته واستنتاجاته، ومن خلال إعادة رسم المشهد الكلي للواقع المعاش تتم إعادة تصحيح الوعي المشترك، والتعريف التلقائي على المصالح الجوهرية بما يتلاءم مع المعطيات الأولية البديهية وينسجم مع الفطرة السليمة. موضحًا أن عمليات التبيين في هذا المستوى كذلك تستند إلى بناء مصفوفة مؤشرات ومعايير تساعد الفرد والمجتمع على تصنيف وتشخيص عمليات إدارة الإدراك وإزاحة الوعي، ويتم تعريف المجتمع هنا على العملية وأهدافها السياسية والاقتصادية ومخاطرها الواقعية وآثارها الحياتية وتداعياتها على وجود الإنسان ووعيه لذاته وواقعه وحضوره المعرفي ومصالحه الدنيوية والأخروية وعقلانيته وفطرته، كون هذه العمليات تجري بشكل متلاحق ومتصل بالمجالات المختلفة بالاعتماد على وسائل الاتصال الحديثة، فتترك تأثيرها العميق في كل أبعاد الإنسان.
وصرّح بأن وعي المجتمع عمومًا بطبيعة الاستهداف، الذي يتعرض له وغايات عمليات تعديل الإدراك الانتهازية والناهبة، يفترض أن يولد إوالية دفاعية حيوية مستدامة، إلا أن التغيير الدائم في وسائل تعديل الإدراك لناحية المرسل والكيفية والمحتوى والمصدر، يحتم تغذية تلك الإوالية بشكل دائم، خصوصًا مع تقدم أجيال جديدة إلى ساحة المواجهة والاستهداف.
وعن آداب الاعتراف المتبادل، وبأنها الأخلاقيات التي تحدد كيفية اعتراف الأفراد والجماعات بالحرمات والحدود. أوضح قبيسي بأن العلاقات الاجتماعية تنتظم وفق قواعد أخلاقية يعبّر من خلالها الفرد عن اعترافه وإدراكه لخصوصية واختلاف وحيثية الآخرين، وهي عملية متبادلة توجد الاستقرار ويقظة الإدراك، يمكن أن تتعرض عملية الاعتراف إلى الاختلال نتيجة مواقف مسبقة أو مشكلات الانعزال والتطرف في الموقف أو الصراع، وإنكار حيثيات الآخرين كفعل نزاعي.
أضاف، تتأثر نظم الاعتراف المتبادل وأخلاقيات التعامل بين الأفراد ضمن الجماعة الواحدة وبين الفرد والجماعة التي ينتمي إليها، وكذلك بين الجماعات في احتكاكاتها الفردية أو الكلية بالتواصل الإدراكي القائم داخل هذا التفاعل، فكل تغير معرفي متصل بالبيئة الاجتماعية يمكن أن يؤثر في النظرة المتبادلة والسلوك التفاعلي.
وشدد على أن البرامج الإعلامية الهجومية التي ينظمها التحالف الغربي ووكلاؤه ضد المجتمعات الملتزمة بهوية خاصة تقوم على عدة مسارات تؤثر جميعها في عمليات الاتصال الاجتماعي والاعتراف المتبادل، وأهم هذه المسارات: تغيير الوقائع، تبديل الذاكرة، إثارة الكوامن المؤدية للنزاعات، التذكير بالسلبيات الاجتماعية، تغيير المعايير الأخلاقية، طرح النماذج المفككة اجتماعيًّا، تعديل الهوية، التهجين الثقافي، نشر الاضطراب المعرفي.
واعتبر أن العلاقات الاجتماعية تتفكك بفعل انزياح واضطراب المعلومات المتعلقة بالبيئة الاجتماعية بطريقة سلبية، كما يؤثر تعديل اتجاهات الاسترجاع في الذاكرة في الإخلال بمرتكزات الاتصال المتبادل، وتؤدي إثارة الكوامن المؤدية للنزاعات إلى إعطاب العلاقات الضعيفة والهشة، وتنشر الرسائل السلبية عن الذات الاجتماعية والهوية العامة إلى تعميم النظرة السلبية حتى ضمن الجماعة نفسها كأثر نفسي، وبين الجماعة والجماعات الأخرى كذلك…
وأضاف، بأن التبيين والتعريف الواقعي والمتوازن للأحداث والذوات والفئات والأفكار والمعايير الاجتماعية يرمم العلاقات في كل مستوياتها، ينبغي أن يعاد تنظيم المعرفة ووضع المجريات في سياقها المتوازن وتحديد العناوين السلبية لتفادي الانفلات داخلها ومعالجتها حيث يمكن.
أما التخادم المشترك، فيعتبره قبيسي بأنه تبادل المنافع والمكتسبات بشكل مقنن أو بشكل تطوعي غير محتسب.
ويشرح، بأن الحياة الفردية والاجتماعية وكذلك العلاقات الدولية تقوم على التخادم وتبادل المنافع والمكتسبات الحياتية الضرورية أو الكمالية الرفاهية نظرًا لعدم اكتفاء الإنسان عمومًا بما لديه وعدم امتلاكه لكل ما يلزمه، يمكن أن تنقطع الصلات النفعية بفعل حركة التفضيلات والخيارات وتتحول إلى صلات بديلة.
ويؤكد بأن الطغيان المادي يعمل على الإخلال بتوازن عمليات التبادل والتخادم المشترك، فيقطع أوصال كل علاقة تبادلية لا تصب في صالحه، ويستبدل تلك العلاقة بالارتباط به وتبادل الخدمات معه بشكل يكون له التفوق فيه لناحية نسبة المكتسبات فلا يرضى بالعلاقات العادلة والمتوازنة.
وأضاف، تستخدم في هذا السبيل عمليات الإقناع والدعاية المتصلة بالأولويات والمعايير المعتمدة في الاختيار والتفضيل، وتسهم الموارد والثروات التي يجمعها من يتحرك في ركب الطغيان المادي في الدفع نحو اعتماد خياراته والتعامل مع شبكاته التبادلية، التي تحصر اهتمامها بإشباع رغبات نخبة محددة تصبح جزءًا حيويًّا من الشبكة، فيما يخسر الجمهور العام في كل الاتجاهات، ما يشكل تربة خصبة للنزاعات الداخلية.
واعتبر أن التبيين وحده لا يكفي لاستعادة النخبة التي ارتبطت فكريًّا واقتصاديًّا بالمؤثر السلبي، بل ينبغي اتباع سياسة تقطع الصلات المادية بالمؤثر السلبي وباحتواء اجتماعي شامل لا يمكن استكماله إلا بتبيين الصلة بين الأفكار والمفاهيم، وبين التبعية الواقعية بآثارها الهدّامة على كل صعيد.
وفي معالجته لموضوع الثقة في المعلومات والسلوكيات لفت قبيسي إلى أنها تعني ثقة الأفراد بأقوال الآخرين والسلوكيات المتوقعة من قبلهم في المواقف.
وأردف قائلًا: تتوطد العلاقات والمعاملات الناتجة عنها من خلال الشعور بالثقة البينية لناحية تبادل المعلومات والثقة بها، ومن خلال الثقة بالنوايا التي تحرك سلوك الأفراد والمجموعات، ويمكن أن تتعرض الثقة للاهتزاز أو التفكك بفعل التجارب السلبية، أو الاشتباه والتحليل الخاطئ للنوايا أو تعارض المعلومات.
ورأى أن التباعد الاجتماعي الناشئ بفعل اضطراب التلاؤم المعرفي الجماعي في عدد كبير من القضايا يفكك الثقة الاجتماعية بين الأفراد على المستوى الشخصي، وبين الفرد والجماعة، وبين الفئات والجماعات، وتهيمن صورة الإنسان السلبي الفرداني المتعلق والمختنق غير القادر على التفاعل والتواصل ولا اكتساب الثقة ولا إعطائها.
واعتبر أن حركة التبيين تعالج الانقطاع في الصلات والنواقل المعرفية المعلوماتية، فهي تحيد مصادر المعرفة الملوثة والمشوبة بالخلل عن نقطة التموضع المؤثر، وتعيد توحيد المعرفة بالوقائع والظروف عبر التذكير والتعليم وتفكيك المغالطات والشبهات، وتعيد الثقة بالمصادر الصافية للمعرفة، وترمم الصور والانطباعات المتشكلة بين الفئات اتجاه بعضها، وكذلك فيما بين الأفراد وبين الفرد والجماعة.
مؤكدًا أن إعادة الثقة الاجتماعية لا تتطلب منع التفاوت والاختلاف في المعلومات أو في تحليلها، لكنها تتطلب إحداث التغيير في البنية التي تتحرك حالة التنوع والتعدد، فتحولها من بنية قائمة على أساس غياب الخير الاجتماعي، والافتراض المسبق للسلبية وانعدام المصداقية، إلى بنية طبيعية متوازنة تتحمل التنوع وتحيله إلى الحوار العلاجي الواثق، بعيدًا عن حالات التطرف المتبادل.
ثم تطرق إلى الحديث عن القضايا العامة التي هي الشؤون والهموم التي تشكل نقطة مشتركة في السعي والاشتغال بين الأفراد والجماعات. مصرّحًا بأن الاشتغال في القضايا العامة المشتركة يتعرض للتصدع بفعل الاختلاف حول الأولويات أو الكيفيات أو النتائج المطلوبة أو الشبهات التي قد تحيط بهذه العناصر.
وأضاف، تعمل أجهزة الاستكبار على تشتيت وإرباك الرؤيا الجماعية اتجاه القضايا العامة من خلال التأثير على المباني الفكرية والنفسية للجماعة بحيث ينتج عنها تصورات مختلفة ومتعددة توجد الاختلافات على صعيد الأولويات الكبرى للجماعة، وتخلق نقاشات مستمرة حول القضايا الدفاعية والاقتصادية والدبلوماسية بما يعطل القدرة على مواجهة التحديات ومعالجة المشكلات.
ثم تابع قائلًا: تستدعي عمليات التبيين إعادة اللحمة إلى النخبة والجمهور بعد الانقسام حول القضايا العامة الرئيسية إلى معالجات متعددة الأبعاد، خصوصًا مع التأثير الثقافي والعقائدي الذي تتركه هذه التحولات في الخيارات الكبرى، مشيرًا إلى أنه ثمة حاجة إلى إعادة بناء لمناهج الحساب الاستراتيجي واتخاذ القرار وتشخيص المصلحة والأولوية، وإعادة قراءة التاريخ بعيدًا عن تأثير المستكبر. وصياغة مفردات تناسب السياق الثقافي والسياسي والمصالح المستقلة، يتزامن ذلك مع بناء مرجعيات ومصادر معرفة نقية، وإدارة حوار داخلي هادئ ومنفصل عن التأثير الخارجي.
وفي معرض حديثه عن القوانين الشرعية السماوية، التي هي التوجيهات والحدود الإلهية المقدسة التي تحدد المعاملات المناسبة والمحققة للسعادة الفردية والاجتماعية، قال: تهيء القوانين السماوية الأفراد للاندماج مع الآخرين دون أن يلغي أو يقلص أحدهم حضور الآخر أو حقوقه، بحيث تفتح المجال للتسامي الفردي والجماعي ما فوق الذاتية الحسيرة، ويطلق روح الإنسان للسير نحو السعادات المتنامية، يتعرض الانتظام الشرعي الاجتماعي للاضطراب بفعل اختلال الإيمان أو الشعور بفقدان مصاديقه التطبيقية أو انتشار الشبهات حول الجزئيات القانونية أو مصادر استنباطها.
واعتبر أن الشريعة الإلهية تشكل طبقة صلبة في البنية الاجتماعية لدى الشعوب الإسلامية الملتزمة، كما تدخل في تركيب هوية وشخصية المجتمع وتحدد معايير التدخل مع الدخيل الثقافي والمتعدي السياسي والاقتصادي، وتعطي للشخصية القدرة والطاقة المعنوية الضرورية لمواجهة الاستكبار.
وشدد بأن الاستكبار يشتغل بشتى السبل على دفع الشعوب إلى التخلي عن الثقافة الدينية، مستندًا إلى ترسانة ثقافية وعلمية وأدبية تشكلت في ساحة الصراع مع الكنيسة الأوروبية، لتستخدمها في البيئة الإسلامية لتفكيك النظام الاجتماعي وتبديد القدرة على مواجهة الهيمنة الاستكبارية. موضحًا أنه تستخدم في هذا الميدان أساليب متعددة منها المباشر والهجومي اللاذع ضد الحالة الدينية، ومنها ما هو فكري، وحواري، وتربوي، وآخر سلوكي يتعلق بترويج النماذج والرموز الاجتماعية.
وأشار إلى أن معالجة تأثيرات البرامج متعددة المستويات والسبل التي تستهدف الشريعة والالتزام الشرعي والهوية الثقافية الدينية، عملية واسعة وشديدة التعقيد، لأن هذه البرامج متصلة بالبنى التحتية للحياة الاجتماعية المعاصرة، في المجال الاقتصادي والعلمي والإداري والمؤسساتي والمديني والاتصالي والتكنولوجي والمعرفي والفني.
وتابع قائلًا: بناءً على سعة هذه التحديات فإن عملية التبيين لا يمكن أن تعمل بشكل عمومي، بل تحتاج إلى العناية بكل الشؤون مع مراعاة خصوصيات واحتياجات تلك البنى التحتية كل منها على حدة.
وعن البنى والأدوار والمسؤوليات؛ أي المؤسسات التي تحدد توزيع الأدوار الاجتماعية والمسؤوليات الملحقة بها رأى قبيسي أن الأفراد يعطون اعتبارًا بحسب أدوارهم ومسؤولياتهم في البنى والمؤسسات الاجتماعية، وهذا الاعتبار هو الذي يسمح لهم بأداء الوظائف الاجتماعية التي تشكل عصب الاجتماع والتواصل وتنظيم العلاقات وتحقيق الاحتياجات، لافتًا إلى أن هذه البنى الاعتبارية تعاني من الضعف والتفكك بفعل إسقاط هيبتها، وتوهين دورها أو إضعاف موقع أفرادها أو تسفيه جدواها وفعاليتها.
وصرّح أن المجتمعات التي تتعرض للتنمّر والاستهداف الناعم تستند إلى مؤسسات وبنى تشكل حاجزًا أمام التهديد المعنوي، ويمكن أن تكون مؤسسات عامة أو شبه عامة أو خاصة، تعترض طريق التدخل الخارجي التفكيكي، بما تمتلكه من موارد وبرامج ورموز مقبولة اجتماعيًّا وقدرة على التوجيه والفعالية الشعبية، وبما تشكله من إطار مساعد على حفظ الانتظام الاجتماعي.
وأشار إلى أن المجتمع الحديث يرتكز إلى إطار مؤسساتي ينظم شؤونه الكلية والتفصيلية بحيث يتمكن المجتمع الكثيف والمتشابك من المحافظة على اعتداله وتوازن تحقيق حاجاته المختلفة في درجتها وقيمتها وأهميتها. مبيّنًا أن هذه المؤسسات تمثّل الإطار الذي يوجه قدرات المجتمع ويوزعها ويصل بينها بحيث تتكامل وتتوازن في سبيل الدفاع والبناء. مؤكدًا، أن السيطرة على قدرات المجتمع تستدعي تفكيك هذه البنى وتعطيل الأدوار وتشتيت المسؤوليات، بحيث يتمكن الطامع من الوصول إلى مآربه في سلب المجتمع موارده ونقاط قدرته، ذلك أن الدفاع عن الممتلكات العامة ونواحي الأقطار غير متيسر إلا بجهد جماعي منتظم ضمن بنى تؤطر الأدوار وتحدد المسؤوليات، فمتى اختلت تلك البنى تعرضت البلاد للمخاطر وتعذر رفعها والتصدي لها، وبذلك تفتح الأبواب لكل متدخل يريد التحكم بالموارد وإخضاع المجتمع.
ثم بيّن أن المؤسسات العامة في المجتمعات والدول التي لا تخضع للاستكبار تعاني من تحديات مختلفة الاتجاهات، فهي تتحمل مسؤوليات تفوق مقدرتها نتيجة طغيان القدرة المادية للمستكبر، وتعيش حالة استنزاف الموارد والجهود في المواجهة المتواصلة، ومن شمولية المواجهة بحيث تصبح تلك البنى معرضة لضغط مزدوج من المتدخل الخارجي والجمهور الداخلي المستهدف بالمواجهة الشاملة. مشيرًا أن التبيين هنا يعمل على إعادة النظرة الواقعية إلى تلك البنى وإدارة التوقعات التي يتبناها الجمهور اتجاهها، وتحديد دوره في المواجهة إلى جانب المؤسسات العامة، والتثقيف على طبيعة تلك المسؤوليات ومشكلاتها وأزماتها في مراحل المواجهة خصوصًا.
وعن الاتفاقيات الجماعية؛ التوافقات الفكرية والقانونية والعملية والإدارية التي تشكل مساحة الانتظام الجماعي تحدث قائلًا: يحصل التوافق والتواضع على الضرورات أو المنافع لتيسير المعاملات ونظمها وتثبيتها مع مرور الزمان وتخفيف الاحتكاكات والنزاعات في المجال العمومي أو الخاص أو حتى الشخصي بطبيعة الحال، ويتعرض التوافق للضعف عند التشكيك في مشروعيته أو جدواه أو الالتزام التطبيقي به.
وصرّح أنه في سياق الهجوم على الفضاء المعنوي للشعوب والثقافات، يتم استهداف الاتفاقيات العامة التي تنظم العلاقات الداخلية والخارجية، مثل الدستور والقوانين الرئيسية والتفصيلية والمعاهدات الدولية.
وأضاف، تعمل الاتفاقيات بنصوصها كلغة تواصل ومنصة لحل الخلافات والمشكلات الاجتماعية، وكإطار حاضن للهوية الجماعية، وكاعتراف من قبل الفئات المختلفة المكونة للتعددية الجماعية بأن الهوية الكلية تعلو على الهويات الفرعية وتشكل صلة وصل بين تلك الهويات، وبذلك تشكل مساحة أمان اجتماعي تحجز عوامل الصراع الداخلي عن التحول إلى عوامل تفكيك للبنية.
وأكد أنه مع تجاوز الاتفاقيات تنهار الثقة الاجتماعية ولو لم يتم إلغاؤها بشكل رسمي توافقي، يتجه المجتمع إلى إعادة التشكل التي قد تمر بمسار عنيف يحدد مساحة نفوذ كل فئة وميزان قوتها الجديد.
وأشار إلى أنه تبعًا للمرجعيات التي تستند إليها الاتفاقيات والتي تسوغ وتشرع وجودها واستمرارها وتطبيقها، يمكن أن تصمَّم عمليات التبيين التي توضح الرؤية التي قامت تلك التوافقات على أساسها، وتحدد الغايات العليا التي تخدمها، فترفع التشويه والتشتت الذي يحيط بها بسبب عمليات التأثير المعرفي التي يمارسها التدخل الخارجي. موضحًا أن عمليات التبيين تتعقد في حال وصل التأثير إلى تبديل المرجعيات المشكلة للتوافقات، وهو ما تتعرض له النخب التي لا تهتم بالنتائج بل تتعداها إلى الأصول وتعمل عليها.
ثم تطرق إلى الحديث عن التعاطف القرابي والعمومي؛ التفاعل النفسي والعاطفي داخل العائلة وخارجها واتجاه الجماعة الكلية. فقال: مضافًا إلى الانتظام المعرفي أو العملاني يقوم البعد الشعوري على تجسير المسافة بين الأفراد والمجموعات والفئات والمجتمعات عندما يحصل الخلل في الأوضاع الحياتية أو النفسية، ويعيد إحياء الإحساس بالهوية الواحدة، وينقطع هذا التعاطف بفعل الاختلالات الروحية والأخلاقية والنفسية والانعزال والتقسيم الاجتماعي على أساس فئوي أو طبقي، أو التشكيك في قيمة الهوية الجماعية وإضعاف الانتماء إليها.
ورأى أن الثقافة المادية تحمل بذور التفكك الإنساني وترمي بروح الإنسان نحو الحضيض، فإن وضع الإنسان في موضع القطب من هذا العالم قد هشم روحه؛ إذ وضعه في غير موضعه، وأفقده مشاعره الفطرية؛ إذ يمارس الادعاء والتوهم لما ليس له.
واعتبر أن عملية الإحياء الشعوري والعاطفي تستند إلى أبعاد متعددة، فهناك موئل العترة الطاهرة لرسول الله(ص)، الذي يشكل محضرًا روحانيًّا وشعوريًّا مثاليًّا، وتتنوع دواعي التبيين من نمط الحياة ونظام العيش الفردي والأسري، وإحياء الحياة المعنوية الفكرية والعبادية والروحية، وترميم الهوية الجماعية وشعور الانتماء الأخلاقي المتوازن إليها. لافتًا إلى أنه يفترض أن تنضبط هذه العمليات في نطاق لغة شعورية وعاطفية تعيد الثقة النفسية والمعنوية وتشتد الروابط بين الدائرة القرابية الخاصة والمستوى العام.
وأضاف، أنه لا يرجح عادة أن تحصل حالة التحفز واليقظة العاطفية والشعورية بشكل دفعي، فذلك يحتاج إلى ظروف خاصة تحرك المشاعر الجماعية مثل الثورات الأخلاقية أو الحروب العادلة، أما إعادة الحالة الإنسانية إلى الفطرة الحية الحساسة فهو في الظروف العادية ينطوي ضمن مسارات متعددة يرفد بعضها بعضًا، بدءًا من الالتفات والاهتمام بالبعد الشعوري في الحياة الفردية والاجتماعية، ومرورًا بتبيُّن السبل لنظم دوائر المجتمع بحيث تراعي المجال الشعوري العام والخاص وتوفر له مساحة آمنة في كل مجالات الحركة والتفاعل الاجتماعي.
وختم الأستاذ هادي قبيسي محاضرته قائلًا: يعكس هذا البحث الوجيز التقاطع الدينامي العميق بين الإعلام والمعرفة والتواصل والبنية الاجتماعية، وازدادت درجة هذا التقاطع بفعل تحديث أشكال الحروب الإدراكية وزيادة وتيرتها وزخمها بالتوازي مع التطور الهائل في وسائل الاتصال ونظم تحليل المعلومات الضخمة، التي تتيح تقييم وتصنيف نقاط الخلل المعرفي الاجتماعي واستهدافها بشكل منتظم بعيد عن العشوائية، بما يؤدي إلى اختراق البنية الاجتماعية وتفكيكها وعزل فئات فيها وتحويلها إلى أداة للهدم والتخريب المعرفي والتواصلي، الأمر الذي يبرز مدى أهمية تحويل التبيين إلى عمل جهادي، أي مهمة شاملة للأمة مقابل حركة التفكيك الجارية عبر التضليل.
المصدر: المعارف الحکمیة