
مذکرة " آية الله الشيخ عبد الكريم الحائري(قد) وتأسيس الحوزة العلمية في قم:
من الإحياء العلمي إلى المد المعاصر "
تُعدّ شخصية آية الله العظمى الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي(قد) من الشخصيات المحورية في التاريخ الحديث للحوزات العلمية الشيعية، إذ تمثّل حياته العلمية والسياسية مثالًا على دور المرجعية في مواجهة التحديات الفكرية والاجتماعية والسياسية في العصر الحديث. ولعل المحطة الأبرز والأهم في سيرته هي تأسيسه للحوزة العلمية في مدينة قم، والتي تحوّلت لاحقًا إلى المركز الأساسي للفكر الديني الشيعي ومصدرًا مهمًّا لإنتاج المعرفة الدينية وتخريج العلماء.
ولقد جاء انتقال الشيخ الحائري(قد) إلى قم في ظرفٍ حرجٍ من تاريخ إيران والمنطقة، حيث كانت الحوزات العلمية تمرّ بمرحلة من الضعف والتراجع، خاصة بعد أن أصيبت حوزة النجف ببعض التحديات الداخلية والخارجية. وبوصول الشيخ الحائري إلى قم سنة 1340هـ (1921م)، بدعوة من علماء المدينة، بدأ مشروعًا نهضويًا علميًا تمثّل في إعادة تنظيم الحوزة العلمية على أسس منهجية جديدة، تجمع بين عمق الموروث الحوزوي وأدوات التنظيم الحديثة في التعليم والإدارة.
وقد قام الشيخ الحائري(قد) بتنظيم شؤون الدراسة، وتحديد المراحل العلمية، وتوفير الدعم المالي والمعنوي للطلبة، كما أولى عناية كبيرة بتربية جيل من العلماء الملتزمين علمًا وأخلاقًا، وهو ما أفرز لاحقًا قامات علمية كان لها دور كبير في تحولات الفكر الديني والسياسي، وعلى رأسهم الإمام الخميني(قد) وآية الله العظمى السيد محمد رضا الكلبايكاني وآخرين.
ولم يكن دور الشيخ الحائري محصورًا في التأسيس الأكاديمي، بل امتدّ إلى إدارة العلاقة بين الحوزة والسلطة، إذ اتسم موقفه بالحكمة والتروّي تجاه السياسات القمعية التي انتهجها رضا شاه، فآثر الحفاظ على كيان الحوزة وحمايتها من القمع والإغلاق، ما ساعد على استمرارها وتطوّرها تدريجيًا لتتحول لاحقًا إلى مركز إشعاع علمي وفكري كبير.
وهذا التأسيس لم يكن مجرّد لحظة تاريخية منعزلة، بل أصبح نقطة انطلاق لمدّ علمي وفكري استمر حتى العصر الحاضر، حيث أصبحت الحوزة العلمية في قم مركزًا عالميًا للفكر الشيعي، ومؤثرة في صنع القرار الديني والسياسي في العالم الإسلامي، ومحورًا لحركة اجتهادية نشطة تتفاعل مع تحديات العصر.
ومن هنا، فإن دراسة محطة التأسيس التي قام بها آية الله الحائري لا تقتصر على توصيف الحدث، بل تتجاوز ذلك لتحليل أبعاده المنهجية، وآثاره البعيدة المدى، ومدى ارتباطها بالتحولات الفكرية والسياسية المعاصرة، مما يجعل من هذه المحطة المفصلية منطلقًا لفهم طبيعة العلاقة بين المرجعية الدينية والواقع المتغير، ودور الفكر الديني في بناء المجتمعات.
الكاتب والباحث الشيخ حسين التميمي
برچسب ها :
ارسال دیدگاه