مقالة
مشكلة تعويم الاجتهاد في الفقه والعقائد
علي الکوراني
الجزء الثاني والأخیر
4 ـ تعويم الاجتهاد في جزيرة الوهابيين
من المعروف أن مصر كانت أول من تصدى للحركة الوهابية منذ نشأتها. فقد كتب علماء الأزهر وكتاب مصر مقالات كثيرة وألفوا كتباً عديدة في رد فكر الوهابية وفقهها، ثم تصدت مصر سياسياً حتى أنها قامت بالحملات العسكرية المصرية المعروفة على الحجاز. وقد تواصل ذلك الصراع السياسي حتى عهد عبد الناصر، وكانت نتيجته قبل عبد الناصر عودة الروح مراراً إلى الحركة الوهابية حتى تمت لها السيطرة على الحجاز. وكانت نتيجته بعد عبد الناصر أن توجت المملكة العربية السعودية ملكة على العرب والمسلمين.
هذا ولكن نتيجة الصراع الفكري كانت بالعكس، فقد أثرت مصر على الوهابية تأثيراً كبيراً، ولم تتأثر بها إلا ضئيلاً!
لقد انحصر تأثير الوهابية على مصر رغم جهودها الضخمة بأن الوهابية ملكت في مصر شبكة مؤسسات للنشر والدعاية، وشريحة صغيرة متأثرة بأفكارها أو مرتزقة من أفكارها. وكلها مرشحة لأن تنتهي في أي وقت توقف مددها!
لكن لو لم يكن لمصر تأثير على الوهابية إلا تبني الوهابية لنظرية التعويم المصري للاجتهاد لكفى!
فمن المفارقات أن علماء المذهب الوهابي مقلدون في العقائد للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومقلدون في الفقه للشيخ ابن تيمية وتلامذته، تقليداً حنبلياً، ومع ذلك فهم يحاولون أن يظهروا بمظهر المجتهدين المتحررين من التقليد لمذهب معين، سواء المذاهب الأربعة أو غيرها، ولذا تراهم يرددون مقولة أن يرجع المسلم إلى مصادر الشريعة ويأخذ بما يغلب على ظنه ويجتهد ويفتي. فمن أين جاءهم فتح باب الاجتهاد هذا، إلا من مصر؟!
بل نلاحظ أن فتاواهم أكثر ميلاً إلى العصرنة، وأكثر إفراطاً في تسهيل أمر الاجتهاد من المصريين!
قد تجد في مصر معلمة تقرأ شيئاً عن الدين وتفتي لتلميذاتها. ولكن لم نسمع أن شيخ الأزهر أعطاها "شهادة مجتهدة" يحق لها بموجبها أن تفتي. بينما أعطت هيئة علماء الوهابيين الشهادة التالية لهذه المعلمة كما جاء في كتاب "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء في المملكة العربية السعودية" مجلد 5، الصفحة 48 – 49.
السؤال الأول من الفتوى، رقم 4798
س: أنا مدرسة دين متخرجة من الكلية المتوسطة قسم دراسات إسلامية وقد اطلعت على مجموعة من الكتب الفقهية، فما هو الحكم حين أسأل من قبل الطالبات فأجاوبهن على حسب معرفتي أي عن طريق القياس والاجتهاد دون التدخل في أحكام الحرام والحلال؟
ج: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد: عليك مراجعة الكتب والاجتهاد ثم الإجابة بما غلب على ظنك أنه الصواب ولا حرج عليك في ذلك، أما إذا شككت في الجواب ولم يتبين لك الصواب فقولي لا أدري وعديهن بالبحث ثم أجيبيهن بعد المراجعة، أو سؤال أهل العلم للاهتداء إلى الصواب حسب الأدلة الشرعية. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء؛ عضو: عبدالله بن قعود؛ عضو: عبدالله بن غديان
نائب الرئيس: عبدالرزاق عفيفى؛ الرئيس: عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
السؤال الثالث من الفتوى رقم 4400.
س: هل أن من لم يحفظ ستة آلاف حديث فلا يحل له أن يقول لأحد هذا حلال وهذا حرام، فليتوضأ وليصل صلاته فقط.
ج : الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد: كل من تعلم مسألة من مسائل الشريعة الإسلامية بدليلها ووثق من نفسه فيها فعليه إبلاغها وبيانها عند الحاجة ولو لم يكن حافظا للعدد المذكور في السؤال.. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء (نفس التواقيع)
هل يعرف هؤلاء السادة العلماء أن معنى فتواهم: أنه يجوز لأغلب الذين يقرؤون ويكتبون أن يفتوا ويقولوا: هذا دين الله تعالى، وهذا حلال وهذا حرام. وتكون فتوى أحدهم صحيحة مبرئة لذمته وذمة من يعمل بها؟!
وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا يحمل هؤلاء الفقهاء خشبة الخلاف مع المسلمين ويكفرون باجتهاداتهم؟ مع أن أصل الفكر الوهابي ليس أكثر من اجتهاد شخص في فهم أصول الدين، هو محمد بن عبد الوهاب، واجتهاد عدة أشخاص في فهم فروع الدين، هم ابن تيمية وتلاميذه؟!
لكن يظهر أنهم يقولون: إن الاجتهاد حلال لاتباع المذهب الوهابي دون غيرهم من المسلمين!
5 ـ أصل مصيبة التعويم من العمل بالظن
يقوم منهج الاستنباط في مذهب أهل البيت(ع) على ضرورة تحصيل العلم بالحكم الشرعي. فإن لم يحصل للمجتهد العلم بالحكم من الكتاب والسنة، فلا يجوز له الاعتماد على ظنه مهما كانت درجته عالية، إلا إذا ثبت اعتبار هذا الظن من الشريعة بدليل قطعي يصلح أن يكون حجة للمجتهد أو حجة للمكلف.
فالاجتهاد الفقهي عندنا يتجه دائماً إلى تحصيل "الحجة القطعية" من الكتاب أو السنة أو العقل، إما على الحكم الشرعى مباشرة، أو على ما يجب عمله عند الشك في حكم الله تعالى. فهو في كلا المرحلتين يبحث عن العلم أو الحجة، ما شئت فعبر.
بينما يقوم منهج الإستنباط في الفقه السني على طلب العلم بالحكم أولاً، فإن لم يحصل للمجتهد علم بالحكم من الكتاب أو السنة، انتقل فوراً إلى اجتهاد الرأي، الذي يعني اتباع الظن الحاصل للمجتهد مهما كانت درجته نازلة، بل يعني الاكتفاء بما هو أقل من الظن كالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة، التي لا تفيد غالباً أكثر من مجرد الاحتمال!
وبسبب هذا الفرق في منهج الاستنباط تفاوت معنى الحكم الشرعى فصار معناه عندنا (ما علم أنه حكم الله تعالى بالعنوان الأولي، أو ما علم أنه حكمه تعالى لحالة الشك في الحكم) بينما صار عند إخواننا السنة (ما علمه المجتهد أو ظنه أو احتمله أنه حكم الله تعالى)!
وبسبب هذا الفرق أيضاً كان معنى دليل العقل في استنباط الاحكام عندنا: حجية مدركاته القطعية فقط؛ لأنها وحدها تنهض بتنجيز التكليف على المكلف وتعذير المكلف بين يدي الله تعالى. دون المدركات الظنية والاحتمالية. بينما معناه عند إخواننا السنة: حجية ما يدركه العقل إدراكاً قطعياً أو غير قطعي.
وبسببه كان معنى التقليد عند الشيعة: الالتزام بالتعبد بما وصل إليه المجتهد من علم بالحكم الشرعى، أو علم بما يجب عمله عند الشك في الحكم الشرعى. بينما معنى التقليد عند إخواننا السنة: الالتزام بالتعبد بما وصل إليه إمام المذهب أو فلان المجتهد من اختيار للحكم الشرعى عن علم أو ظن أو احتمال!
وإذا عرفنا أن نسبة الأحكام التي يعتمد فيها أصحاب هذا المنهج على ظنهم واحتمالهم قد تبلغ ثلث فروع الفقه مثلاً، فذلك يعني أن ثلث ما يأخذه العوام على أنه أحكام الله تعالى ما هو إلا ظنون واحتمالات؛ لا أكثر! والأمر ليس أفضل من ذلك في تفاصيل العقائد!!
وفي اعتقادي أن (بازار)[ سوق] الظنون والاحتمالات سيبقى قائماً في مجتمعات إخواننا السنة حتى ينهض فقهاؤهم ويضعوا ضوابط علمية لهؤلاء المزدحمين في سوق الاجتهاد، وأولئك المتجهين للدخول من أبوابه الواسعة!!
6 ـ مشكلة تعويم القيادة ليست أقل خطراً
من الذي له حق أن يقود المسلمين ويأمر وينهى؟
من الذي له حق الحكم على أعلى مستوى، وعلى مستويات أقل؟
أما في زمن النبي(ص) فالمسلمون متفقون على أن النبي(ص) وحده صاحب هذا الحق.
وأما في عصرنا فالمذهب الغربي أن حق الحكم لمن غلب، مهما كانت وسائله في الغلبة! والظاهر أن مذاهب إخواننا السنة تميل إلى هذا الرأي لأنها تعتبر أن من غلب وتسلط فقد صار حاكماً شرعياً واجب الإطاعة، ولا تسأل عن سلوكه ووسائله في الوصول إلى الحكم!
وإذا تبنى المسلمون تعويم حق القيادة والحكم في أعلى مستوى في الجميع، يكون ثبوته في المستويات الأقل بطريق الأولى.
ومعنى ذلك أن لكل إنسان الحق في أن يتصدى للوجاهة والأمر والنهي والقيادة، على مستوى قريته أو محلته أو محيط عمله. فإن (توفق) وأطاعه آخرون فهو (أمير) شرعي عليهم!
ومعنى ذلك أنه لا فرق بين نظرية القيادة والإمرة في الإسلام وفي الثقافة الغربية أبداً، فهي قانون المغالبة والغلبة الحاكم في الجاهلية الأولى والثانية، الذي أقره الاسلام!!
ومعنى ذلك أن مجتمعاتنا سوف لا تعرف الهدوء، لأن باب الفتوى والقيادة مفتوحان على مصراعيهما، ورغبة الفتوى والقيادة ضاربة جذورها في شخصية الإنسان، وبما أن المجتمع لا يتحمل تحقيق مجموع هذه الرغبات، فلا نتيجة إلا الصراع وامتلاء المجتمع بغابة الاتجاهات والقيادات!
7 ـ مذهب التشيع تحت الأضواء
فاجأ الإمام الخمينى(قد) العالم بأنه استعمل في ثورته طاقة جديدة هي طاقة التشيع لأهل بيت النبي(ص).
وذهل الغرب واتجهت أنظاره وبحوثه لمعرفة نوع هذه الطاقة وكمية مخزونها. وسلط أضواءه على التشيع وقدرته السياسية.
وبهرت الشعوب الإسلامية السنية بهذا الحدث المفرح الذي هز العالم، واتجهت أنظارها لمعرفة التشيع من ناحية عقائدية وفقهية وروحية.
وبذلك صار مطلوب الجميع: معلومات، أفكار، تحليلات، مقالات، كتب وفتاوى؛ عن الشيعة والتشيع. وبذلك انفتح السوق العالمي أمام الفكر الشيعي وإن كانت كتبه ممنوعة. فأول الذين يقرؤونها هم الذين يمنعونها!
وكثرت الكتابات والخطابات عن عقائد الشيعة وفقههم وتاريخهم وآرائهم وشخصياتهم، من علماء وكتاب وخطباء شيعة وغير شيعة. كتابات من كل نوع، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار بالتعبير المعاصر، وكثر العرض بسبب زيادة الطلب، حتى اختلط الحابل بالنابل وضاعت في كثير من الأحيان قدرة القارئ على تمييز ما هو أصيل من مذهب التشيع أو غريب عنه ملصق به.
ودخلت على الخط تأثيرات التعويم المصري للاجتهاد، فبرز المتأثرون بها من الشيعة وغيرهم يفتون بظنونهم وينسبونها إلى التشيع!
بل وصل الأمر إلى أنهم نسبوا إليه مدرسة العمل بالظن في أمور الدين التي أسسها الخليفة عمر بن الخطاب وقاومها الأئمة من أهل بيت النبي(ص)، مقاومة شديدة!!
ولم يقتصر الأمر على الفتاوى، بل تعداه إلى عقائد الشيعة، فرأينا فيها كتابات وفتاوى متنوعة، وأحياناً متضادة خاصة في التفاصيل الأولى والثانية، وبالأخص في فهم شخصيات الأئمة(ع)، وفهم عقيدة الإمامة وأهداف الله تعالى ورسوله من اعتماد نظام إمامة أهل بيت النبي(ص) في الأمة.
وقد أوجبت هذه الحالة المعاصرة على مراجع المذهب أن يراقبوا الساحة العقائدية مراقبة أكبر، وأن يوجهوا جهودهم إلى توضيح عقيدة التشيع وتعميم تفهيمها للناس!
8 ـ رأي علماء الشيعة في الثابت والمتغير
واجه فقهاؤنا عبر العصور التعارض بين مسألتين: مسألة مراعاة الظروف المتجددة المتطورة، ومسألة الحفاظ على عقائد الإسلام وأحكامه. وقبل العلماء واجه الأئمة أهل البيت(ع) هاتين المسألتين فكانوا أعظم قدوة فيما يجب الحفاظ عليه والثبات مهما كانت التكاليف، وفيما هو مفتوح لتغير الزمان وتطور الحياة.
والمتتبع لسيرة علماء الشيعة وفقههم يلاحظ أنهم اهتدوا بهدى أئمتهم(ع) فمثلوا الثبات على الأصالة والنقاء حيث يجب، والانفتاح على الأوضاع الجديدة حيث يجوز. وبذلك تَكَوَّنَ في فقههم خط عام سلكه الفقهاء المتأخرون واحترموه وحرصوا عليه، لأنه يمثل حصيلة فهم الفقهاء والنوابغ عبر العصور حتى يصل إلى مصدر الفقه والفهم، الأئمة الطاهرين(ع).
ولا يعني ذلك إغلاق باب الاجتهاد في المذهب الشيعي، بل يعني أن للاجتهاد فيه شروطاً وضعها النبي والأئمة من آله(ص) وأخذت شكلهاعلى أيدي تلاميذهم فقهاء المذهب رضوان الله عليهم، فصارت مما يؤمن به مراجع التقليد وطلبة العلوم الدينية، ويشعر بها المتفقهون من جمهور الشيعة أينما وجدوا. وأن الاجتهاد إن كان ضمن هذه الشروط تقبله فقهاء المذهب وجمهوره سواء وصفت نتائجه بأنها تميل إلى المحافظة أو تميل إلى التجدد. أما إذا تخطى شروطه فإن حساسيتهم تعمل، وينهضون لمعالجة الحالة لأنها نشاز جاء من خلل في الفهم العلمي، أو من سبب آخر!
على هذا سار التاريخ الفقهي والعقائدي للشيعة. وكانت تحدث نشازات في هذا القرن أو ذاك، وفي هذه المسألة أو تلك، ولكنها كانت تنتهي دائماً لمصلحة الفقه والعقائد المؤصلة عند فقهاء المذهب وجمهوره. ويذهب النشاز بعيداً ليكون شيئاً منفصلاً عن المذهب!
وتشمل شروط الاجتهاد في مذهبنا: المجتهد والمنهج والمجال. فهذه الشروط الثلاثة بمثابة شروط الفارس والفرس والميدان في السباق. فكما أنه إذا اختل شرط منها فلا ميدان ولا سباق. كذلك إذا اختل شرط في الاجتهاد فلا اجتهاد ولا فتوى.
وفي تقديري أن ضغط طلب المعرفة الغربي، وتأثير تعويم الاجتهاد المصري سيبقى إلى مدة من الزمن يلقي بآثاره على الكتابات عن التشيع وعلى "فتاوى" بعض المتصدين للفتوى من مدعي الخبرة بالتشيع ومدعي تمثيل الشيعة. وأن هذه المسألة ستفرض على مراجع الدين الأجلاء التصدي إلى ظواهر النشاز الفقهية والعقائدية وتحذير الناس منها، مضافاً إلى جهودهم في توضيح معالم المذهب الفقهية والعقائدية.
انتهت
المصدر: موقع علي الکوراني
برچسب ها :
ارسال دیدگاه