مقالة
أزمة الخطاب المهدوي
فضيلة السيد أحمد الإشكوري
من الآفات الكبرى لفهم الدين أن يعيش أتباعه إحدى الظاهرتين المتضادتين، إمَّا ظاهرة التحجّر، وإمَّا ظاهرة التسامح والابتعاد عن خطّ الاعتدال المرسوم من قبل الشريعة، فيقعُ الأتباع بين طرفي كمّاشة _ كلّ طرف منهما في الزاوية الحادّة _ يشكّل خطراً ويستدعي نتائج وخيمة وسلبية، قد يؤدّي بالناظر والمشاهد إلى الانكماش والنفرة عن العقيدة، ظنّاً منه أنَّ هذا المتلبّس هو الذي يمثّل الأصالة للفكر والرؤية والعمل.
ومن جملة مصاديق لهذه الظاهرة هي:
*أزمة الخطاب المهدوي:
الأطروحة المهدوية وإن كانت تامّة من حيث الفكر والمحتوى، بيد أنَّ أصحاب وصنّاع الخطاب المهدوي يوجبون أحياناً خفاءها، وفقدان متانتها، ممَّا يوجب الغموض في الفكر، وعدم التفاعل معها.
وضعف الخطاب له نماذج:
منها: الخطاب بمفرداته المعقَّدة، وآلياته القديمة، وسياقاته البالية، والعكوف على الشبهات القديمة، سيّما إذا اكتنف بتصرّفات بهذا المستوى فإنَّه يستدعي خطاباً قديماً، يضفي القدم على الفكرة أيضاً، وأنَّ هذه الفكرة من الموروث العاجز عن مواكبة الحاضر والمستقبل،
فلا بدَّ من الانتفاض ضدّها وعزلها عن الساحات العلمية، بل البعض يصل إلى حالة الاستحياء من الانتماء إلى تلك الفكرة ظنّاً منه مقاطعة وسام الثقافة مع الخطاب المهدوي، لعدم ثقته به ولاتّهام الغير له بذلك، فيتبرَّأ في اللاشعور من الفكر المهدوي بسبب أزمة الخطاب المهدوي القديم.
ومنها: الخطاب الجديد المنسجم مع رؤى الناس الذي يسدُّ خلَّة الشباب، إلاَّ أنَّه يشبع حاجة طبقة وجيل خاصّ فقط، فيعطي الفكر المهدوي أوسمة وعناوين حديثة، مثل ديمقراطية المهدي بأن يستشير المهدي أصحابه ويقدّم رأي الأكثر على رأيه، وإن كان رأي الأكثر يتنافى مع رأيه، واشتراكية المهدي، وشيوعية أو عولمة المهدي، أو الحرّية المستوحاة من الفكر المهدوي، أو الحداثة المهدوية، وما بعد الحداثة، أو تكنوقراطية دولة المهدي، ونحوها.
ومشكلة هذا الخطاب أنَّ نفس هذه الأفكار ليست هي عين الرضا عندنا، فتنزيل فكرة سماوية على نغمة وضعية محلّ نظر، أجل ربَّما تستعمل هذه المصطلحات بحسب النقل لمعانٍ جديدة غير المعاني المقصود بها عند أصحابها المرفوضة بمبدأ الإسلام، إلاَّ أنَّ هذه المعاني الجديدة حتَّى وإن قبلت إسلاميّاً، إلاَّ أنَّها تبقى ظاهرة إلتقاطية لألفاظ غير إسلاميّة،
فإنَّ نظرية تحديث وأسلمة الألفاظ الغربية فيها أحياناً إرباك للمعاني، فضلاً عن ركّة الطريقة، وعدم الثقة بألفاظ الحضارة الإسلاميّة، وكيفما كان فليس هناك أزمة ألفاظ ليستعان بمصطلحات الثقافات الأخرى، وإن كان ولا بدَّ لدى البعض من ذلك، فينبغي من نصب القرينة الواضحة جدَّاً لنفرَّ من قلق المعنى، والحمل على المعنى السقيم، فمثلاً لو اصطلح على لفظ الديمقراطية بمعنى الاستشارة لرأي الآخر والاستعانة ببعض خبرويته، وهو وإن كان مبدأ إسلاميّاً مقبولاً إلاَّ أنَّ استعماله ربَّما يوجب الإيهام في المعنى الآخر وهو حاكمية رأي الأكثر على رأي السماء.
ومنها: سرد الخطاب المهدوي بلحن عرفاني مسرف، أو من الخيال المفرط الذي لا يتحمله العقل، إلاَّ بتكلّف وتأويل، والعمل على خلاف الظاهر من وقف على بواطن الحقائق ودقائقها فقد ورد: أنَّ علياً عليه السلام قال يوماً لحذيفة بن اليمان: (يا حذيفة لا تحدّث الناس بما لا يعرفون فيطغوا ويكفروا)(١٧٣)،
وحيث إنَّ منظومة المهدوية لها مراتب من المعارف وبعضها لا يتحمّله إلاَّ الأوحدي من الناس فإنَّ عامّة الناس يمجّونها فلا معنى للحديث بمثل هذه إذ ورد أيضاً عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم)(١٧٤).
ومن آفات الخطاب المهدوي أيضاً الاستعانة بالمبالغات، والمجازات، أو إحالة الفكرة إلى الغيب الجبري، وسلب إرادة التغيير والتأثير لدى الإنسان المؤمن، وتعطيل خطابات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من حيث الخطاب، أو توصيف الفكر المهدوي بخطاب يوحي أنَّ أطروحته عادية يمكن للكثير أن يصنعها، ولا حاجة إلى اللياقات السماوية، والدعم الربّاني، أو تحديث الخطاب الذي يسعى لتمجيد شخصيات تعيش حقباً زمانيةً خاصّةً، أو تغييب الخطاب المهدوي عن الواقع المعاش، أو تنظيم الخطاب المحقّق للتطرّف والعنف والتعسكر والتجيّش والتعصّب والتضيّق والاقصاء وخلق روح اليأس واللامسؤولية.
ولكن الخطاب المهدوي لا بدَّ أن يكون دفاعياً عصرياً أصيلاً علمياً معنوياً عقلانياً غيبياً قرآنياً موصلاً إلى قمم العمران، لا يمينياً سلفياً ولا يسارياً تجديدياً يميّع المفاهيم الإسلاميّة الحقّة،
فعن علي عليه السلام في ذكر الملاحم: (يعطف الهوى على الهدى إذا عطفوا الهدى على الهوى، ويعطف الرأي على القرآن إذا عطفوا القرآن على الرأي)(١٧٥)، فإنَّ علياً عليه السلام يرفض مبدأ سحق الهوى، بل يرشّد الهوى في طريق الهدف، ويمنع العكس، خلافاً للآخرين الذين يسيّسون الأهداف للوصول لأهوائهم، وأنَّ علياً عليه السلام يمنع حاكمية الرأي الشخصي على القرآن، بل يرى الأمر بالعكس كحاكمية القرآن على العقل الفردي.
نماذج من الخطاب المهدوي:
وإليك نماذج مقتضبة للخطاب المهدوي المبيّن لعقائد وفقه وسلوك فردي وجماعي وطقوس وسنن:
١ _ (وَنُريدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثينَ) (القصص: ٥).
٢ _ (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) (الأنبياء: ١٠٥).
٣ _ (وَعَدَ اللَّهُ الَّذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) (النور: ٥٥).
٤ _ (هُوَ الَّذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة: ٣٣).
٥ _ (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: ٥٦).
ولقد اكتفينا طلباً للاختصار بالخطاب القرآني، وإلاَّ فالخطاب المهدوي أوسع من ذلك إذ يعمّ الخطاب النبوي والمولوي وأصحاب النبيّ كأبي بكر وعمر وعثمان وعبد الله بن عمر وأبي هريرة وسمرة بن جندب وسلمان وأبي ذر وعمّار وزوجات النبيّ عائشة وحفصة واُمّ سَلَمة والتابعين كعون بن أبي جحيفة وعباية بن ربعي وقتادة،
وخطاب النوّاب والوكلاء والعلماء والمثقّفين والسياسيين والخطاب الأكاديمي، بل يعمّ حتَّى الخطاب المهدوي المسجَّل في التوراة والإنجيل والزبور، وخطاب أبناء العامّة من المفسّرين كالطبري والرازي والخازن والآلوسي وابن كثير والسيوطي ونحو ذلك، ومن الصحاح الستّة (البخاري ومسلم وابن ماجة وأبي داود والنسائي وأحمد) ومن كتب الحديث كالمستدرك على الصحيحين ومجمع الزوائد ومستند الشافعي وسنن الدارقطني وسنن البيهقي ومستند أبي حنيفة وكنز العمّال.
ولا بدَّ من دراسةٍ رصدية بحسب الأزمان والأطوار المتعدّدة ودراسة شاملة مقارنة والبحث عن المشتركات في المطوّلات والمنفردات، والبحث عن علل الخطاب في كلّ مرحلة ونماذجه وأهدافه من التحصين والتوحيد والدعوة، وتقديم دراسة داخلية للخطاب ودراسة خارجية مقارنة مع سائر الخطابات الدينية والوقوف الجاد على تأثير الكلام والفقه والتفسير عليه.
المصدر: كتاب العقيدة المهدوية إشكاليات ومعالجات تأليف: السيّد أحمد الإشكوري / تقديم وتحقيق: مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي عليه السلام
برچسب ها :
ارسال دیدگاه