□ مقالة/ الجزء الأول
الخاتمية والمرجعية العلمية لأهل البيت
نقد آراء د.سروش
□ آیةالله الشيخ جعفر سبحاني/ ترجمة: السيد حسن مطر
□ الانتباه: الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي «الآفاق» بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
▪ مدخل
ألقى الدكتور عبد الكريم سروش، الذي تربطني به صداقة قديمة، كلمة في فرنسا حول المسائل المتعلقة بالتشيّع. وكان لها أصداء واسعة نسبياً. وقد أرسل له المفكر المحترم السيد بهمن پور نقداً على هذه الكلمة. ولكن يبدو أنه لم يُقنعه، ولذلك نشر جواباً تفصيلياً على موقعه، والذي بحوزتي حالياً هو هذا الردّ التفصيلي الذي أخذته من ذلك الموقع.
ونحن بمعزل عن كل هذه الحوارات نستعرض آراء التشيع بشأن (الخاتمية وانقطاع الوحي)، و(المرجعية العلمية للأئمة المعصومين)، و(مصادر علومهم ومعارفهم). ونذكِّره بأننا قد أجبنا عن أكثر الإشكالات التي طرحها في كتابنا «أضواء على عقائد الشيعة الإمامية وتاريخهم»، والذي طبع عام 1421ه؛ وذلك لأنّ هذه الإشكالات غير جديدة، وليس هو من أبدعها وابتكرها، وإنما لها جذور في كلام المتقدمين، ولا يسعنا التطرُّق إليها حالياً. وكذلك استعرضتُ في كتاب آخر بعنوان «الاعتصام بالكتاب والسنة»، الذي طبع عام 1414ه، الآراء الشيعية بشأن المرجعية العلمية للأئمة المعصومين، ومصادر علمهم، بحيث لا يؤدي إلى أدنى تعارض بينه وبين الخاتمية.
قد يكون عذره أنه لم يحصل على هذا النوع من الكتب، ولكن كان بإمكانه الرجوع إلى كتاب «منشور عقائد إمامية»، الذي تمّ طبعه بمختلف اللغات، الأعمّ من الفارسية والعربية والإنگليزية وغيرها؛ لاشتماله على جميع المسائل التي أثارها بنحو من الأنحاء.
تعود مشكلة هذا النوع من الأقلام في الأساس إلى أنها قطعت علاقتها بالحوزات العلمية والخبراء والمتخصِّصين الحقيقيين في المسائل الإسلامية، ثمّ عمدوا إلى إقامة الحوارات بشأنها ونقدها. وأنا أطالبه شخصياً، وأطلب من الأصدقاء الآخرين، الذين يطرحون أحياناً أفكاراً جديدة، أن يأتوا بها أولاً إلى المحافل العلمية والحوزوية، ليبادروا بعد ذلك إلى نشر خلاصة تلك الحوارات.
إنّ هؤلاء الأصدقاء، مهما كانوا بارعين في الكلام، ومهما بلغوا من العلم، يبقون دون مستوى التخصُّص في المعارف والأحكام الإلهية. أتذكر أنّ الدكتور سروش انتقد في إحدى خطبه الحوزة العلمية في قم، نافياً أن يكون فيها أيّ نوع من أنواع التحقيق والإبداع، فعقدت العزم آنذاك (عام 1370ه ش / 1991م) إلى لفت انتباهه إلى المراكز التحقيقية في قم؛ إذ أحسستُ أنه يجهل وجود مثل هذه المؤسسات على نطاق واسع. ولذلك فقد أرسلت له دعوة عن طريق بعض الأصدقاء ليقوم بزيارة تفقدية وجولة في مرافق (مؤسسة الإمام الصادق(ع) التعليمية والتحقيقية). وبعد أن قام بتلك الزيارة، واطلع على وجود الكثير من المحقِّقين الكبار، وتأليفاتهم القيّمة، دوَّن ملاحظته في دفتر المؤسسة، ونحن ننقل هنا نص تلك الملاحظة التي وقَّعها باسمه:
باسمه تعالى
كانت زيارة مؤسسة الأستاذ المحترم سماحة الشيخ سبحاني التعليمية والتحقيقية توفيقاً من الله تعالى لي. ماذا يمكنني أن أكتب عن هذه الزيارة، سوى التعبير عن مسرّتي، وعن تمنياتي للإخوة العاملين في هذه المؤسسة مزيداً من النجاح والتوفيق، وتطوير أمثال هذه المؤسسة في قم وسائر مناطق هذه البلاد، لنحصل على مزيد من المعرفة الدينية؟!
والله وليّ التوفيق
عبد الكريم سروش- 13/11/1370ه ش
وبهذا أترك شكواي من هؤلاء العلماء، الذين مارسوا مهماتهم لسنوات طويلة بوصفهم مدافعين عن الإسلام، ومن المستنيرين الدينيين، إلى وقتٍ وفرصة أخرى.
▪ الخاتمية أو انقطاع الوحي التشريعي
اتفقت كلمة جميع المسلمين وأجمعوا على أنّ خاتمية النبي الأكرم(ص) من ضروريات الإسلام، واعتبارها أصلاً ثابتاً لا يقبل أي تأويل وتحريف في آية الخاتمية، ولا يعطون أي اعتبار لتفسيرها على نحو مغاير لصريحها؛ إذ يقول تعالى: [ما كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً]. (الأحزاب: 40)
ومضافاً إلى هذه الآية الشريفة هناك الكثير من الروايات الواردة عن النبي الأكرم(ص) والأئمة المعصومين(ع) في شأن الخاتمية. وقد سحبت تلك الروايات الذريعة من أيدي الذين يدَّعون استمرار النبوّة، والقائلين بمواصلة الوحي التشريعي والتجربة النبوية. وقد كتب علماء المسلمين، من السنة والشيعة، الكثير من الكتب والرسائل في هذا الشأن، وعلى الخصوص المفسِّرون المسلمون كلّما بلغوا هذه الآية الشريفة. ولم يشذّ عن ذلك إلا شرذمة قليلة، بنتها الأصابع الاستعمارية، وهي: البهائية، والقاديانية، في الهند، فإنها أنكرت الخاتمية، وبذلك طردت من حظيرة المجتمع الإسلامي.
▪ مفهوم الخاتمية
إنّ المراد من الخاتمية هو أنه لن يكون هناك من نبيّ بعد النبي الأكرم(ص)، وأنّ باب الوحي سيغلق على الإنسانية، وأنه لن ينزل بعد ذلك على أيّ إنسان وحي يحمل تشريع حكم، أو تعيين تكليف، أو تحليل حرام، أو تحريم حلال. وإنّ كلّ فردٍ يدّعي أنه يوحى إليه بأحكام إلهية من قبل الله، وأنه حصل على أحكام جديدة وغير مسبوقة من قبل الله، وهي غير موجودة في الديانة الإسلامية وشريعة النبي الأكرم(ص)، فهو مشبوهٌ ومغرض، وهو من وجهة نظر المسلمين منكِرٌ لأصل معلوم من ضرورات الإسلام. ومن جهة أخرى فقد أخبرنا القرآن الكريم عن إكمال الدين؛ إذ يقول تعالى: [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً] (المائدة:3).
وإنما يتحقق كمال الدين بنزول جميع المسائل المتعلقة بالدين، أعمّ من الأصول والفروع، على قلب النبي الأكرم(ص). وإنه(ص) قد وضعها تحت تصرّف الأمّة بنحو من الأنحاء.
إنّ هذين الأصلين من الأصول التي لا يمكن لأيّ مسلم أن يتنكَّر لهما. ولكن هناك إلى جانب هذه الأصول حقيقة لا يمكن التشكيك فيها، وهي أنّ مدّة رسالة النبي الأكرم(ص) قد استغرقت ثلاثاً وعشرين سنة. وقد كان منها ثلاث عشرة سنة في مكة المكرّمة، وعشر سنوات في المدينة المنوّرة. وفي المرحلة الأولى لم تكن الأجواء والدعوة بشكل يساعد النبيّ الأكرم(ص) على تبيين جميع المسائل المتعلِّقة بالعقائد والأحكام والتكاليف الإسلامية. لقد كانت الضغوط والإرهاب السائد في مكة بحيث أمر الله نبيّه بترك مسقط رأسه، والتوجه نحو (يثرب)، واختيارها مركزاً لتبليغ دعوته. وقد كانت السنوات العشر من حياة النبي في المدينة مليئة بالحوادث المختلفة والمتنوّعة، المصحوبة بالعقد والمشاكل. فمن جهة قاد النبي بنفسه ستاً وعشرين غزوة، وكان بعض هذه الغزوات يستغرق وقتاً طويلاً، مثل: فتح مكة، وحنين، وغزوة تبوك؛ ومن ناحية أخرى جهَّز ستاً وثلاثين سريّة للجهاد، وكان يعطيهم التعليمات اللازمة، ويوجّههم نحو جبهات القتال.
كان محيط المدينة وأطرافها مركزاً لتجمّعات اليهود، الأمر الذي فتح باب الجدال من قبلهم مع النبي الأكرم. وبعد خيانتهم المفضوحة اضطر النبي إلى مناجزتهم، وواجه عنادهم وتعنتهم بقوة السلاح، وأجلى قبائل بني قينقاع وبني النضير، ثم توجه نحو بني قريظة وأهالي خيبر فلحق بهم المصير المعلوم للجميع.
وكان(ص) في مدّة إقامته يكاتب رؤساء القبائل، ويعقد المواثيق والعهود السياسية والعسكرية، التي حفظت نصوصها في كتب السير والتواريخ. وإنّ ما كتبه أحمد ميانجي تحت عنوان «مكاتيب الرسول» يُعدّ من أكثر الكتب جامعية في هذا الخصوص.
وعلى الرغم من الموانع والصعوبات الكثيرة التي أحاطت بالنبي الأكرم(ص) من كلّ جانب فقد عمل كلّ ما في وسعه من أجل بيان الأصول والأحكام الدينية العامة للناس. وكان نفسه يُذكّر من طريق الوحي الإلهي بأنّ ساحة التشريع لا تخلو من واحدٍ من أمرين، هما: حكم الله؛ أو حكم الجاهلية. وإنّ كلّ حكم لا يعود بجذوره إلى الإسلام فهو من أحكام الجاهلية. قال تعالى: [وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ] (المائدة: 49). وإنّ كلّ حكم وقضاء لا ينتهي إلى القوانين والأحكام الإلهية فهو من أحكام الجاهلية أيضاً: [أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ] (المائدة: 50).
وعليه ينبغي القول: إنّ النبيّ الأكرم هو خاتم الأنبياء. وقد انقطع بعد رحيله الوحي التشريعي؛ لأنه قد أكمل الدين الإلهي. وقد احتوت شريعته كل ما يحتاجه الإنسان لحياته.
ومن جهة أخرى فقد حالت المشاكل والعراقيل دون بيان النبي لبعض الأصول والأحكام العملية. ولجبران ذلك عمد، بأمر من الله، إلى استئمان جماعة على ما لم يستطع بيانه وتوضيحه. وإنّ تلك الجماعة هم عترته وأهل بيته(ع)، الذين عرفوا في بعض روايات النبي الأكرم بأنهم عدل القرآن وأحد الثقلين. قال رسول الله(ص): «إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله؛ وعترتي أهل بيتي».
وهنا يأتي التساؤل القائل: ما هي مصادر علوم أهل البيت ومعارفهم؟ وكيف يشرحون الأحكام والتكاليف التي لم ترِدْ في القرآن الكريم وسنّة النبي؟ وهذه هي الشبهة التي يؤكد عليها الدكتور سروش. ونحن سنطرح آراءه في عدة محاور، ونعمل على تحليلها، والإجابة عنها.
▪ المحور الأول: عدم انسجام المرجعية العلمية مع الخاتمية
هذا هو السؤال الذي طرحه سروش في المحور الأول؛ إذ قال: «كيف يأتي بعد خاتم الأنبياء أشخاص يتحدَّثون؛ استناداً للوحي والشهود، بكلام لا أثر له في القرآن والسنة النبوية، وفي الوقت نفسه تكون تلك الكلمات تعليماً وتشريعاً، وإيجاباً وتحريماً، وعلى مستوى الوحي النبوي في العصمة والحجيّة، ومع ذلك لا يضرّ هذا بالخاتمية؟ فأي شيء تنفيه الخاتمية وتمنعه؟! وأي شيء تحول الخاتمية دون وقوعه وحصوله؟! وأي فرق بين وجود وعدم هذه الخاتمية الرقيقة والمهلهلة التي تنتقل جميع شؤونها إلى الآخرين؟! لقد عمد الشيعة من خلال طرحهم نظرية الغيبة إلى تأخير فلسفة الخاتمية لقرنين ونصف من الزمن».
إنّ حاصل كلامه أنّ الاعتقاد بإمامة المعصومين(ع)، والقول بمرجعيتهم العلمية، يتنافى مع القول بأصل خاتمية النبي الأكرم؛ وذلك لأنّ معنى الخاتمية هو أنّ باب الوحي قد أغلق بعد رحيل النبي الخاتم إغلاقاً كاملاً، ولن ينزل بعد ذلك وحي على أي فردٍ من أفراد الإنسانية. ومن جهة أخرى فإنّ معنى مرجعية الأئمة المعصومين(ع) تعني أننا نحصل منهم على أحكام لا وجود لها في القرآن الكريم وسنّة النبي. ولازم ذلك أنهم أنبياء يوحى إليهم كما يوحى إلى النبي، وأنهم يحصلون على أحكام من العالم العلوي والسماوي.
▪ مصادر علم الأئمة المعصومين(ع)
إنّ التعارض الذي تصوّره الكاتب بين ختم النبوّة وبين المرجعية العلمية للأئمة المعصومين(ع) يدلّ على أنه لم يلاحظ المصادر العلمية التي يستند إليها هؤلاء المعصومون، أو أنه يجهلها. وهنا سنشير إلى مصادر علوم الأئمة الأطهار(ع). وبذلك سنرى عدم وجود أدنى تعارض بين (الخاتمية) وبين مرجعيتهم العلمية.
أ الرواية عن رسول الله(ص)
إنّ الأئمة المعصومين(ع) يأخذون الأحاديث عن رسول الله، مباشرة أو من طريق آبائهم الكرام، وينقلونها إلى الآخرين. وإنّ هذا النوع من الأحاديث التي يأخذها كلّ إمام عن الإمام الذي يسبقه حتى تنتهي سلسلتها إلى رسول الله(ص) موجودة في المصادر الحديثية المعتمدة عند الشيعة بكثرة. ولو تمّ جمع هذه الأحاديث المروية عن أئمة أهل البيت بسند متصل عن النبي الأكرم(ص) في كتاب واحد لحصلنا على مسند ضخم، يمكنه أن يكون كنزاً عظيماً للمحدِّثين والفقهاء المسلمين؛ لأن الروايات التي تتمتَّع بمثل هذا السند المحكم والمتين لا مثيل لها في عالم الحديث. ومن باب المثال نشير، من باب التبرك والتيمّن، إلى واحد من هذه الأحاديث، التي يقال: إن هناك صورة محفوظة له في خزانة سلسلة (السامانيين) المحبة للأدب والثقافة، وهو الحديث المعروف بسلسة الذهب: روى الشيخ الصدوق (381ه) بسندين عن أبي الصلت الهروي أنه قال: كنت مع الإمام علي بن موسى الرضا(ع) عند اجتيازه نيسابور، إذ تجمّع حوله جماعة من المحدِّثين في نيسابور، مثل: محمد بن رافع، وأحمد بن حرب، ويحيى بن يحيى، وإسحاق بن راهويه، وجماعة من أهل العلم، فأخذوا بركابه، وقالوا: نسألك بحق آبائك الأخيار الأطهار إلا ما حدثتنا حديثاً سمعته من أبيك. وعندها أخرج الإمام رأسه من محمله، وقال: «حدّثني أبي العبد الصالح موسى بن جعفر(ع)، قال: حدّثني أبي الصادق جعفر بن محمد(ع)، قال: حدثني أبي أبو جعفر محمد بن علي باقر علم الأنبياء(ع)، قال: حدثني أبي علي بن الحسين سيد العابدين(ع)، قال: حدثني أبي سيد شباب أهل الجنة الحسين(ع)، قال: حدثني أبي علي بن أبي طالب(ع)، قال: سمعت النبي(ص) يقول: سمعت جبرئيل يقول: سمعت الله جلّ جلاله يقول: لا إله إلا الله حصني فمن دخل حصني أمن من عذابي»، ثم واصل طريقه، فأدار رأسه، وقال: «بشرطها وشروطها، وأنا من شروطها».
وعليه فإنّ جانباً من علومهم ومعارفهم قد توارثوه مشافهة عن آبائهم عن النبي الخاتم(ص).
والملفت للانتباه أنّ هذا الإشكال الذي يطرحه الدكتور سروش كان مطروحاً من قبل المخالفين في عصر الأئمة المعصومين(ع) أنفسهم. وقد كان يتم طرحه على صيغة تساؤل، وأحياناً يتخذ طابعاً اعتراضياً، فيسألونهم عن مصدر أحاديثهم ورواياتهم، وكانوا(ع) يجيبون عن هذا التساؤل والاعتراض على النحو التالي: «حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث علي بن أبي طالب(ع)، وحديث علي حديث رسول الله(ص)، وحديث رسول الله قول الله ».
ب النقل من كتاب علي(ع)
كان الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) مصاحباً وملازماً للنبي الأكرم(ص) في جميع مراحل البعثة. وقد تمكن بذلك من جمع الكثير من أحاديث النبي في كتاب، بل كان ذلك الكتاب في الحقيقة بإملاء النبي(ص) وخط علي. وكان من خصوصيات ذلك الكتاب أنه يتوارثه كل إمام عمَّن سبقه بعد استشهاده. وقد روي عن الإمام الصادق(ع) أنه قال في صفة هذا الكتاب: إنّ طوله سبعون ذراعاً، وإنه من إملاء رسول الله وخط علي بن أبي طالب، وفيه كل ما يحتاج إليه الناس، حتى الأرش في الخدش.
ومن الجدير بالذكر أنّ هذا الكتاب كان يتمّ توارثه بين الأئمة(ع). وقد روى عنه الإمام الباقر والصادق‘ مراراً وتكراراً، وكانا أحياناً يظهرانه لأصحابهما أيضاً. وهناك حالياً الكثير من الروايات المنقولة عنه في المجامع الحديثية، وخاصة «وسائل الشيعة»، وهي مبثوثة في مختلف أبوابه.
ج الاستنباط من الكتاب والسنّة
كان الأئمة المعصومون(ع) يستنبطون شطراً من الأحكام الشرعية النازلة على النبي الأكرم(ص) من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. وهو استنباط لم يكن بوسع غيرهم التوصّل إليه. ونذكر في ما يلي نموذجاً؛ ليقف القارئ الكريم على أن شطراً من مصادر علومهم كان من هذا النوع من الاستنباطات:
في عهد المتوكِّل العباسي ارتكب رجل من النصارى موبقة الزنا مع امرأة مسلمة، وحيث كان هذا العمل يمثل خرقاً لشروط الذمة فقد حكم عليه بإهدار دمه، ووجب قتله، وعندما أرادوا تطبيق هذا الحكم في حقّه بادر إلى النطق بالشهادتين، وأعلن الإسلام؛ لينجو بنفسه، وفقاً لقاعدة «الإسلام يجبّ ما قبله»، الأمر الذي أدى إلى انقسام فقهاء البلاط العباسي على أنفسهم؛ فذهبت جماعة إلى أنه قد أسلم، وقطع صلته بالماضي، وهذا يدرأ عنه القتل، ويُسقط عنه الحد؛ وذهبت جماعة ثانية إلى وجوب أن يقام عليه الحدّ ثلاثاً؛ وذهبت طائفة ثالثة إلى حكم آخر، فاضطر المتوكِّل العباسي إلى التماس حكم هذه المسألة عند الإمام الهادي(ع)، فقال الإمام(ع): إنّ حكمه هو القتل؛ وذلك لأنّ هذا الإسلام المعلن عنه في ساعة الضيق والخوف والفزع يفقد قيمته؛ وذلك بدليل قوله تعالى: [فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّة اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ] (غافر: 84 85).
لقد اعتبر الله تعالى في هذه الآية عدم جدوائية الإيمان الناتج عن الخوف من العذاب سنّةً إلهيةً لا تقبل التبديل أو التحويل.
لقد قرأ الفقهاء والمفسِّرون بأجمعهم هذه الآية، وفسَّروها، دون أن يوفَّق أيٌّ منهم إلى هذا الفهم. إنّ هذه المدركات العميقة والواقعية هي من المواهب الإلهية التي خصّ الله بها الأئمة من أهل بيت النبي، وشكل ذلك جزءاً من مصادر علومهم ومعارفهم. ومن هنا قال الإمام الباقر(ع): «إنّ الله تبارك وتعالى لم يَدَعْ شيئاً تحتاج إليه الأمّة إلاّ أنزله في كتابه، وبيّنه لرسوله(ص)». وقال الإمام الصادق(ع): «ما من شيء إلاّ وفيه كتاب وسنّة». وسأل سماعة، وهو من الفقهاء، الإمام موسى بن جعفر(ع): «أكلّ شيء في كتاب الله وسنة نبيّه(ص)، أو تقولون فيه؟ قال(ع): بل كلّ شيء في كتاب الله وسنة نبيه». وكان الإمام الباقر(ع) غالباً ما يستشهد بآيات القرآن الكريم، ويقول: «إذا حدثتكم بشيء فاسألوني من كتاب الله..».
وعليه لم يكن الأئمة المعصومون(ع) مبتدعين في مجال المعارف والأحكام، بل لكل ما يقولونه جذور في الكتاب والسنة. وكان نوع استنباطهم مستحيلاً على غيرهم.
د الإلهام الإلهي
وهناك مصدر آخر لعلوم الأئمة من أهل البيت(ع) يمكننا تسميته بالإلهام؛ إذ ليس الإلهام من مختصّات الأنبياء، فقد تمتَّع به الكثير من الصالحين والأوصياء على طول التاريخ. فقد أخبر القرآن الكريم عن أشخاص لم يبلغوا مرتبة النبوّة، ومع ذلك كان الله تعالى يُلهمهم أسراراً من عالم الغيب، من قبيل: (الخضر) صاحب موسى(ع)؛ إذ يقول عنه تعالى: [آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً[ (الكهف: 65).
إنّ هؤلاء الأفراد لم يحصلوا على علمهم من الطرق العادية، بل إنّ علمهم كما يعبّر القرآن الكريم علم لدني؛ إذ يقول تعالى: [وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً[. وعليه فإنّ عدم النبوّة لا يحول دون حصول بعض الشخصيات الإلهية السامية على الإلهام الإلهي. ويسمى هذا النوع من الأفراد في كتب الحديث عند الفريقين ب «المحدَّثون»، أي أناس تتحدث إليهم الملائكة، دون أن يكونوا من الأنبياء.
فقد نقل البخاري في «صحيحه» عن النبي الأكرم(ص) أنه قال: «لقد كان في من قبلكم من بني إسرائيل مَنْ يُكلَّمون من غير أن يكونوا أنبياء».
وبذلك فإنّ أئمة أهل البيت(ع)؛ حيث كانوا مرجع الأمة في تبيين المعارف الإلهية والأحكام الدينية، كانوا يحصلون على أجوبة ما يعرض لهم من الأسئلة عن طريق الإلهام وعلم الغيب، إذا لم يكن الجواب موجوداً في المرويّ عندهم من أحاديث النبي(ص)، وكتاب الإمام علي(ع).
ويمكن لنا أن نستنتج من هذا البيان أن الذين يوردون مثل هذا الإشكال لم يفرِّقوا بين الوحي التشريعي والإلهامات الإلهية، وتصوَّروا أنّ كلّ من يُلهَم لابد أن يكون نبياً بالضرورة. في حين أنّ كون الإنسان (محدَّثاً) هو من المراتب التي ينالها الصالحون، فتحدِّثهم الملائكة، وإن لم يكونوا أنبياء. كما تقدم أن مثَّلنا لذلك بصاحب موسى(ع)، الذي كان حاصلاً على العلم اللدني؛ إذ يقول تعالى: [وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً]، ولم يكن نبياً.
انتهی الجزء الأول
المصدر: نصوص معاصرة، العدد الواحد والعشرون
السنة السادسة، شتاء 2011م، 1432ه