printlogo


printlogo


□ مقالة/ الجزء الأول
الخاتمية والمرجعية العلمية لأهل البيت
□ آیة‌الله الشيخ جعفر سبحاني/ ترجمة: السيد حسن مطر


□ الانتباه: الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي «الآفاق» بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
▪ مدخل ‏
ألقى الدكتور عبد الكريم سروش، الذي تربطني به صداقة قديمة، كلمة في ‏فرنسا حول المسائل ‏المتعلقة بالتشيّع. وكان لها أصداء واسعة نسبياً. وقد أرسل له ‏المفكر المحترم السيد بهمن پور نقداً على ‏هذه الكلمة. ولكن يبدو أنه لم يُقنعه، ولذلك ‏نشر جواباً تفصيلياً على موقعه، والذي بحوزتي حالياً هو ‏هذا الردّ التفصيلي الذي أخذته ‏من ذلك الموقع.‏
ونحن بمعزل عن كل هذه الحوارات نستعرض آراء التشيع بشأن (الخاتمية ‏وانقطاع الوحي)، ‏و(المرجعية العلمية للأئمة المعصومين)، و(مصادر علومهم ‏ومعارفهم). ونذكِّره بأننا  قد أجبنا عن أكثر ‏الإشكالات التي طرحها في كتابنا ‏‏«أضواء على عقائد الشيعة الإمامية وتاريخهم»، والذي طبع عام ‏‏1421ه؛ وذلك ‏لأنّ هذه الإشكالات غير جديدة، وليس هو من أبدعها وابتكرها، وإنما لها جذور ‏في ‏كلام المتقدمين، ولا يسعنا التطرُّق إليها حالياً. وكذلك استعرضتُ في كتاب آخر ‏بعنوان ‏‏«الاعتصام بالكتاب والسنة»، الذي طبع عام 1414ه، الآراء الشيعية بشأن ‏المرجعية العلمية للأئمة ‏المعصومين، ومصادر علمهم، بحيث لا يؤدي إلى أدنى ‏تعارض بينه وبين الخاتمية.‏
قد يكون عذره أنه لم يحصل على هذا النوع من الكتب، ولكن كان بإمكانه ‏الرجوع إلى كتاب ‏‏«منشور عقائد إمامية»، الذي تمّ طبعه بمختلف اللغات، الأعمّ من ‏الفارسية والعربية والإنگليزية ‏وغيرها؛ لاشتماله على جميع المسائل التي ‏أثارها بنحو من الأنحاء.‏
تعود مشكلة هذا النوع من الأقلام في الأساس إلى أنها قطعت علاقتها ‏بالحوزات العلمية والخبراء ‏والمتخصِّصين الحقيقيين في المسائل الإسلامية، ثمّ ‏عمدوا إلى إقامة الحوارات بشأنها ونقدها. وأنا ‏أطالبه شخصياً، وأطلب من ‏الأصدقاء الآخرين، الذين يطرحون أحياناً أفكاراً جديدة، أن يأتوا بها ‏أولاً إلى ‏المحافل العلمية والحوزوية، ليبادروا بعد ذلك إلى نشر خلاصة تلك الحوارات.‏
إنّ هؤلاء الأصدقاء، مهما كانوا بارعين في الكلام، ومهما بلغوا من العلم، ‏يبقون دون مستوى التخصُّص ‏في المعارف والأحكام الإلهية. أتذكر أنّ الدكتور ‏سروش انتقد في إحدى خطبه الحوزة العلمية في قم، ‏نافياً أن يكون فيها أيّ نوع من ‏أنواع التحقيق والإبداع، فعقدت العزم آنذاك (عام 1370ه ش / ‏‏1991م) إلى لفت ‏انتباهه إلى المراكز التحقيقية في قم؛ إذ أحسستُ أنه يجهل وجود مثل ‏هذه ‏المؤسسات على نطاق واسع. ولذلك فقد أرسلت له دعوة عن طريق بعض الأصدقاء ‏ليقوم بزيارة ‏تفقدية وجولة في مرافق (مؤسسة الإمام الصادق(ع) التعليمية ‏والتحقيقية). وبعد أن قام بتلك الزيارة، ‏واطلع على وجود الكثير من المحقِّقين ‏الكبار، وتأليفاتهم القيّمة، دوَّن ملاحظته في دفتر المؤسسة، ‏ونحن ننقل هنا نص تلك ‏الملاحظة التي وقَّعها باسمه:‏
باسمه تعالى
كانت زيارة مؤسسة الأستاذ المحترم سماحة الشيخ سبحاني التعليمية ‏والتحقيقية توفيقاً من الله تعالى ‏لي. ماذا يمكنني أن أكتب عن هذه الزيارة، سوى ‏التعبير عن مسرّتي، وعن تمنياتي للإخوة العاملين ‏في هذه المؤسسة مزيداً من ‏النجاح والتوفيق، وتطوير أمثال هذه المؤسسة في قم وسائر مناطق هذه ‏البلاد، ‏لنحصل على مزيد من المعرفة الدينية؟!‏
والله وليّ التوفيق
عبد الكريم سروش- ‏13/11/1370ه ش
وبهذا أترك شكواي من هؤلاء العلماء، الذين مارسوا مهماتهم لسنوات طويلة ‏بوصفهم مدافعين عن ‏الإسلام، ومن المستنيرين الدينيين، إلى وقتٍ وفرصة أخرى.‏
▪ الخاتمية أو انقطاع الوحي التشريعي ‏
اتفقت كلمة جميع المسلمين وأجمعوا على أنّ خاتمية النبي الأكرم(ص) من ‏ضروريات الإسلام، ‏واعتبارها أصلاً ثابتاً لا يقبل أي تأويل وتحريف في آية ‏الخاتمية، ولا يعطون أي اعتبار لتفسيرها ‏على نحو مغاير لصريحها؛ إذ يقول ‏تعالى: [ما كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ ‏وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ ‏بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً].‏ (الأحزاب: 40)‏
ومضافاً إلى هذه الآية الشريفة هناك الكثير من الروايات  الواردة عن النبي ‏الأكرم(ص) والأئمة ‏المعصومين(ع) في شأن الخاتمية. وقد سحبت تلك الروايات الذريعة ‏من أيدي الذين يدَّعون ‏استمرار النبوّة، والقائلين بمواصلة الوحي التشريعي ‏والتجربة النبوية. وقد كتب علماء المسلمين، من ‏السنة والشيعة، الكثير من الكتب ‏والرسائل في هذا الشأن، وعلى الخصوص المفسِّرون المسلمون كلّما ‏بلغوا هذه ‏الآية الشريفة. ولم يشذّ عن ذلك إلا شرذمة قليلة، بنتها الأصابع الاستعمارية، وهي: ‏البهائية، ‏والقاديانية، في الهند، فإنها أنكرت الخاتمية، وبذلك طردت من حظيرة ‏المجتمع الإسلامي.‏
▪ مفهوم الخاتمية ‏
إنّ المراد من الخاتمية هو أنه لن يكون هناك من نبيّ بعد النبي الأكرم(ص)، وأنّ ‏باب الوحي سيغلق ‏على الإنسانية، وأنه لن ينزل بعد ذلك على أيّ إنسان وحي يحمل ‏تشريع حكم، أو تعيين تكليف، أو ‏تحليل حرام، أو تحريم حلال. وإنّ كلّ فردٍ يدّعي ‏أنه يوحى إليه بأحكام إلهية من قبل الله، وأنه ‏حصل على أحكام جديدة وغير مسبوقة ‏من قبل الله، وهي غير موجودة في الديانة الإسلامية وشريعة ‏النبي الأكرم(ص)، فهو ‏مشبوهٌ ومغرض، وهو من وجهة نظر المسلمين منكِرٌ لأصل معلوم من ‏ضرورات ‏الإسلام. ومن جهة أخرى فقد أخبرنا القرآن الكريم عن إكمال الدين؛ إذ يقول ‏تعالى: [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً] (المائدة:3).‏
وإنما يتحقق كمال الدين بنزول جميع المسائل المتعلقة بالدين، أعمّ من ‏الأصول والفروع، على قلب ‏النبي الأكرم(ص). وإنه(ص) قد وضعها تحت تصرّف الأمّة ‏بنحو من الأنحاء.‏
إنّ هذين الأصلين من الأصول التي لا يمكن لأيّ مسلم أن يتنكَّر لهما. ولكن ‏هناك إلى جانب هذه ‏الأصول حقيقة لا يمكن التشكيك فيها، وهي أنّ مدّة رسالة النبي ‏الأكرم(ص) قد استغرقت ثلاثاً ‏وعشرين سنة. وقد كان منها ثلاث عشرة سنة في مكة ‏المكرّمة، وعشر سنوات في المدينة المنوّرة. ‏وفي المرحلة الأولى لم تكن الأجواء ‏والدعوة بشكل يساعد النبيّ الأكرم(ص) على تبيين جميع ‏المسائل المتعلِّقة بالعقائد ‏والأحكام والتكاليف الإسلامية. لقد كانت الضغوط والإرهاب السائد في مكة ‏بحيث ‏أمر الله نبيّه بترك مسقط رأسه، والتوجه نحو (يثرب)، واختيارها مركزاً لتبليغ ‏دعوته. وقد ‏كانت السنوات العشر من حياة النبي في المدينة مليئة بالحوادث المختلفة ‏والمتنوّعة، المصحوبة بالعقد ‏والمشاكل. فمن جهة قاد النبي بنفسه ستاً وعشرين ‏غزوة، وكان بعض هذه الغزوات يستغرق وقتاً ‏طويلاً، مثل: فتح مكة، وحنين، ‏وغزوة تبوك؛ ومن ناحية أخرى جهَّز ستاً وثلاثين سريّة للجهاد، ‏وكان يعطيهم ‏التعليمات اللازمة، ويوجّههم نحو جبهات القتال.‏
كان محيط المدينة وأطرافها مركزاً لتجمّعات اليهود، الأمر الذي فتح باب ‏الجدال من قبلهم مع النبي ‏الأكرم. وبعد خيانتهم المفضوحة اضطر النبي إلى ‏مناجزتهم، وواجه عنادهم وتعنتهم بقوة السلاح، ‏وأجلى قبائل بني قينقاع وبني ‏النضير، ثم توجه نحو بني قريظة وأهالي خيبر فلحق بهم المصير ‏المعلوم للجميع.‏
وكان(ص) في مدّة إقامته يكاتب رؤساء القبائل، ويعقد المواثيق والعهود السياسية ‏والعسكرية، التي ‏حفظت نصوصها في كتب السير والتواريخ. وإنّ ما كتبه أحمد ‏ميانجي تحت عنوان «مكاتيب ‏الرسول» يُعدّ من أكثر الكتب جامعية في هذا ‏الخصوص. ‏
وعلى الرغم من الموانع والصعوبات الكثيرة التي أحاطت بالنبي الأكرم(ص) من ‏كلّ جانب فقد عمل ‏كلّ ما في وسعه من أجل بيان الأصول والأحكام الدينية العامة ‏للناس. وكان نفسه يُذكّر من طريق ‏الوحي الإلهي بأنّ ساحة التشريع لا تخلو من ‏واحدٍ من أمرين، هما: حكم الله؛ أو حكم الجاهلية. وإنّ ‏كلّ حكم لا يعود بجذوره إلى ‏الإسلام فهو من أحكام الجاهلية. قال تعالى: [وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ ‏اللّهُ] (المائدة: ‏‏49). وإنّ كلّ حكم وقضاء لا ينتهي إلى القوانين والأحكام الإلهية فهو من ‏أحكام ‏الجاهلية أيضاً: [أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ] ‏‏(المائدة: ‏‏50).‏
وعليه ينبغي القول: إنّ النبيّ الأكرم هو خاتم الأنبياء. وقد انقطع بعد رحيله ‏الوحي التشريعي؛ لأنه قد ‏أكمل الدين الإلهي. وقد احتوت شريعته كل ما يحتاجه ‏الإنسان لحياته.‏
ومن جهة أخرى فقد حالت المشاكل والعراقيل دون بيان النبي لبعض ‏الأصول والأحكام العملية. ‏ولجبران ذلك عمد، بأمر من الله، إلى استئمان جماعة ‏على ما لم يستطع بيانه وتوضيحه. وإنّ تلك ‏الجماعة هم عترته وأهل بيته(ع)، الذين ‏عرفوا في بعض روايات النبي الأكرم بأنهم عدل القرآن ‏وأحد الثقلين. قال رسول ‏الله(ص): «إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله؛ وعترتي أهل بيتي».‏
وهنا يأتي التساؤل القائل: ما هي مصادر علوم أهل البيت ومعارفهم؟ وكيف ‏يشرحون الأحكام ‏والتكاليف التي لم ترِدْ في القرآن الكريم وسنّة النبي؟ وهذه هي ‏الشبهة التي يؤكد عليها الدكتور ‏سروش. ونحن سنطرح آراءه في عدة محاور، ‏ونعمل على تحليلها، والإجابة عنها.‏
▪ المحور الأول: عدم انسجام المرجعية العلمية مع الخاتمية
هذا هو السؤال الذي طرحه سروش في المحور الأول؛ إذ قال: «كيف يأتي ‏بعد خاتم الأنبياء أشخاص ‏يتحدَّثون؛ استناداً للوحي والشهود، بكلام لا أثر له في ‏القرآن والسنة النبوية، وفي الوقت نفسه تكون ‏تلك الكلمات تعليماً وتشريعاً، وإيجاباً ‏وتحريماً، وعلى مستوى الوحي النبوي في العصمة والحجيّة، ‏ومع ذلك لا يضرّ هذا ‏بالخاتمية؟ فأي شيء تنفيه الخاتمية وتمنعه؟! وأي شيء تحول الخاتمية دون ‏وقوعه ‏وحصوله؟! وأي فرق بين وجود وعدم هذه الخاتمية الرقيقة والمهلهلة التي تنتقل ‏جميع ‏شؤونها إلى الآخرين؟! لقد عمد الشيعة من خلال طرحهم نظرية الغيبة إلى ‏تأخير فلسفة الخاتمية ‏لقرنين ونصف من الزمن».‏
إنّ حاصل كلامه أنّ الاعتقاد بإمامة المعصومين(ع)، والقول بمرجعيتهم ‏العلمية، يتنافى مع القول ‏بأصل خاتمية النبي الأكرم؛ وذلك لأنّ معنى الخاتمية هو ‏أنّ باب الوحي قد أغلق بعد رحيل النبي ‏الخاتم إغلاقاً كاملاً، ولن ينزل بعد ذلك ‏وحي على أي فردٍ من أفراد الإنسانية. ومن جهة أخرى فإنّ ‏معنى مرجعية الأئمة ‏المعصومين(ع) تعني أننا نحصل منهم على أحكام لا وجود لها في القرآن ‏الكريم وسنّة ‏النبي. ولازم ذلك أنهم أنبياء يوحى إليهم كما يوحى إلى النبي، وأنهم يحصلون ‏على ‏أحكام من العالم العلوي والسماوي.‏
▪ مصادر علم الأئمة المعصومين(ع)
إنّ التعارض الذي تصوّره الكاتب بين ختم النبوّة وبين المرجعية العلمية ‏للأئمة المعصومين(ع) يدلّ ‏على أنه لم يلاحظ  المصادر العلمية التي يستند إليها هؤلاء ‏المعصومون، أو أنه يجهلها. وهنا سنشير ‏إلى مصادر علوم الأئمة الأطهار(ع). وبذلك ‏سنرى عدم وجود أدنى تعارض بين (الخاتمية) وبين ‏مرجعيتهم العلمية.‏
أ الرواية عن رسول الله(ص) ‏
‏إنّ الأئمة المعصومين(ع) يأخذون الأحاديث عن رسول الله، مباشرة أو من ‏طريق آبائهم الكرام، ‏وينقلونها إلى الآخرين. وإنّ هذا النوع من الأحاديث التي ‏يأخذها كلّ إمام عن الإمام الذي يسبقه ‏حتى تنتهي سلسلتها إلى رسول الله(ص) موجودة ‏في المصادر الحديثية المعتمدة عند الشيعة بكثرة. ‏ولو تمّ جمع هذه الأحاديث المروية ‏عن أئمة أهل البيت بسند متصل عن النبي الأكرم(ص) في كتاب ‏واحد لحصلنا على مسند ‏ضخم، يمكنه أن يكون كنزاً عظيماً للمحدِّثين والفقهاء المسلمين؛ لأن ‏الروايات التي ‏تتمتَّع بمثل هذا السند المحكم والمتين لا مثيل لها في عالم الحديث. ومن باب ‏المثال ‏نشير، من باب التبرك والتيمّن، إلى واحد من هذه الأحاديث، التي يقال: إن هناك ‏صورة ‏محفوظة له في خزانة سلسلة (السامانيين) المحبة للأدب والثقافة، وهو ‏الحديث المعروف بسلسة ‏الذهب: روى الشيخ الصدوق (381ه) بسندين عن أبي ‏الصلت الهروي أنه قال: كنت مع الإمام علي ‏بن موسى الرضا(ع) عند اجتيازه ‏نيسابور، إذ تجمّع حوله جماعة من المحدِّثين في نيسابور، مثل: ‏محمد بن رافع، ‏وأحمد بن حرب، ويحيى بن يحيى، وإسحاق بن راهويه، وجماعة من أهل ‏العلم، ‏فأخذوا بركابه، وقالوا: نسألك بحق آبائك الأخيار الأطهار إلا ما حدثتنا حديثاً سمعته ‏من ‏أبيك. وعندها أخرج الإمام رأسه من محمله، وقال: «حدّثني أبي العبد الصالح ‏موسى بن جعفر(ع)، ‏قال: حدّثني أبي الصادق جعفر بن محمد(ع)، قال: حدثني أبي أبو ‏جعفر محمد بن علي باقر علم ‏الأنبياء(ع)، قال: حدثني أبي علي بن الحسين سيد ‏العابدين(ع)، قال: حدثني أبي سيد شباب أهل ‏الجنة الحسين(ع)، قال: حدثني أبي علي ‏بن أبي طالب(ع)، قال: سمعت النبي(ص) يقول: سمعت ‏جبرئيل يقول: سمعت الله جلّ ‏جلاله يقول: لا إله إلا الله حصني فمن دخل حصني أمن من عذابي»، ‏ثم واصل ‏طريقه، فأدار رأسه، وقال: «بشرطها وشروطها، وأنا من شروطها»‏.‏
وعليه فإنّ جانباً من علومهم ومعارفهم قد توارثوه مشافهة عن آبائهم عن النبي ‏الخاتم(ص).‏
والملفت للانتباه أنّ هذا الإشكال الذي يطرحه الدكتور سروش كان مطروحاً ‏من قبل المخالفين في ‏عصر الأئمة المعصومين(ع) أنفسهم. وقد كان يتم طرحه على ‏صيغة تساؤل، وأحياناً يتخذ طابعاً ‏اعتراضياً، فيسألونهم عن مصدر أحاديثهم ‏ورواياتهم، وكانوا(ع) يجيبون عن هذا التساؤل ‏والاعتراض على النحو التالي: ‏‏«حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي ‏حديث علي بن أبي ‏طالب(ع)، وحديث علي حديث رسول الله(ص)، وحديث رسول الله قول الله ‏».‏
ب  النقل من كتاب علي(ع)
كان الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) مصاحباً وملازماً للنبي ‏الأكرم(ص) في جميع ‏مراحل البعثة. وقد تمكن بذلك من جمع الكثير من أحاديث النبي ‏في كتاب، بل كان ذلك الكتاب ‏في الحقيقة بإملاء النبي(ص) وخط علي. وكان من ‏خصوصيات ذلك الكتاب أنه يتوارثه كل إمام ‏عمَّن سبقه بعد استشهاده. وقد روي ‏عن الإمام الصادق(ع) أنه قال في صفة هذا الكتاب: إنّ طوله ‏سبعون ذراعاً، وإنه من ‏إملاء رسول الله وخط علي بن أبي طالب، وفيه كل ما يحتاج إليه الناس، ‏حتى ‏الأرش في الخدش.‏
ومن الجدير بالذكر أنّ هذا الكتاب كان يتمّ توارثه بين الأئمة(ع). وقد روى عنه ‏الإمام الباقر ‏والصادق‘ مراراً وتكراراً، وكانا أحياناً يظهرانه لأصحابهما أيضاً. ‏وهناك حالياً الكثير من الروايات ‏المنقولة عنه في المجامع الحديثية، وخاصة ‏‏«وسائل الشيعة»، وهي مبثوثة في مختلف أبوابه.‏
ج  الاستنباط من الكتاب والسنّة
كان الأئمة المعصومون(ع) يستنبطون شطراً من الأحكام الشرعية النازلة على ‏النبي الأكرم(ص) ‏من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. وهو استنباط لم يكن ‏بوسع غيرهم التوصّل إليه. ‏ونذكر في ما يلي نموذجاً؛ ليقف القارئ الكريم على أن ‏شطراً من مصادر علومهم كان من هذا النوع ‏من الاستنباطات:‏
في عهد المتوكِّل العباسي ارتكب رجل من النصارى موبقة الزنا مع امرأة ‏مسلمة، وحيث كان هذا ‏العمل يمثل خرقاً لشروط الذمة فقد حكم عليه بإهدار دمه، ‏ووجب قتله، وعندما أرادوا تطبيق هذا ‏الحكم في حقّه بادر إلى النطق بالشهادتين، ‏وأعلن الإسلام؛ لينجو بنفسه، وفقاً لقاعدة «الإسلام يجبّ ‏ما قبله»، الأمر الذي أدى ‏إلى انقسام فقهاء البلاط العباسي على أنفسهم؛ فذهبت جماعة إلى أنه قد ‏أسلم، وقطع ‏صلته بالماضي، وهذا يدرأ عنه القتل، ويُسقط عنه الحد؛ وذهبت جماعة ثانية إلى ‏وجوب ‏أن يقام عليه الحدّ ثلاثاً؛ وذهبت طائفة ثالثة إلى حكم آخر، فاضطر المتوكِّل ‏العباسي إلى التماس ‏حكم هذه المسألة عند الإمام الهادي(ع)، فقال الإمام(ع): إنّ ‏حكمه هو القتل؛ وذلك لأنّ هذا ‏الإسلام المعلن عنه في ساعة الضيق والخوف ‏والفزع يفقد قيمته؛ وذلك بدليل قوله تعالى: [فَلَمَّا رَأَوْا ‏بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ‏وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّة ‏اللَّهِ الَّتِي قَدْ ‏خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ] (غافر: 84  85). ‏
لقد اعتبر الله تعالى في هذه الآية عدم جدوائية الإيمان الناتج عن الخوف من ‏العذاب سنّةً إلهيةً لا ‏تقبل التبديل أو التحويل.‏
لقد قرأ الفقهاء والمفسِّرون بأجمعهم هذه الآية، وفسَّروها، دون أن يوفَّق أيٌّ منهم ‏إلى هذا الفهم. إنّ ‏هذه المدركات العميقة والواقعية هي من المواهب الإلهية التي ‏خصّ الله بها الأئمة من أهل بيت النبي، ‏وشكل ذلك جزءاً من مصادر علومهم ‏ومعارفهم. ومن هنا قال الإمام الباقر(ع): «إنّ الله تبارك ‏وتعالى لم يَدَعْ شيئاً تحتاج ‏إليه الأمّة إلاّ أنزله في كتابه، وبيّنه لرسوله(ص)». وقال الإمام ‏الصادق(ع): «ما من ‏شيء إلاّ وفيه كتاب وسنّة». وسأل سماعة، وهو من الفقهاء، الإمام موسى ‏بن ‏جعفر(ع): «أكلّ شيء في كتاب الله وسنة نبيّه(ص)، أو تقولون فيه؟ قال(ع): بل كلّ شيء ‏في ‏كتاب الله وسنة نبيه». وكان الإمام الباقر(ع) غالباً ما يستشهد بآيات القرآن ‏الكريم، ويقول: «إذا ‏حدثتكم بشيء فاسألوني من كتاب الله..». ‏
‏وعليه لم يكن الأئمة المعصومون(ع) مبتدعين في مجال المعارف والأحكام، ‏بل لكل ما يقولونه ‏جذور في الكتاب والسنة. وكان نوع استنباطهم مستحيلاً على ‏غيرهم.‏
د  الإلهام الإلهي
وهناك مصدر آخر لعلوم الأئمة من أهل البيت(ع) يمكننا تسميته بالإلهام؛ إذ ‏ليس الإلهام من ‏مختصّات الأنبياء، فقد تمتَّع به الكثير من الصالحين والأوصياء على ‏طول التاريخ. فقد أخبر القرآن ‏الكريم عن أشخاص لم يبلغوا مرتبة النبوّة، ومع ذلك ‏كان الله تعالى يُلهمهم أسراراً من عالم الغيب، من ‏قبيل: (الخضر) صاحب موسى(ع)؛ ‏إذ يقول عنه تعالى: [آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا ‏عِلْماً[ (الكهف: 65).‏
إنّ هؤلاء الأفراد لم يحصلوا على علمهم من الطرق العادية، بل إنّ علمهم  ‏كما يعبّر القرآن الكريم  ‏علم لدني؛ إذ يقول تعالى: [وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً[. وعليه ‏فإنّ عدم النبوّة لا يحول دون حصول ‏بعض الشخصيات الإلهية السامية على الإلهام ‏الإلهي. ويسمى هذا النوع من الأفراد في كتب الحديث ‏عند الفريقين ب ‏‏«المحدَّثون»، أي أناس تتحدث إليهم الملائكة، دون أن يكونوا من الأنبياء.‏
فقد نقل البخاري في «صحيحه» عن النبي الأكرم(ص) أنه قال: «لقد كان في من ‏قبلكم من بني ‏إسرائيل مَنْ يُكلَّمون من غير أن يكونوا أنبياء».‏
وبذلك فإنّ أئمة أهل البيت(ع)؛ حيث كانوا مرجع الأمة في تبيين المعارف ‏الإلهية والأحكام ‏الدينية، كانوا يحصلون على أجوبة ما يعرض لهم من الأسئلة عن ‏طريق الإلهام وعلم الغيب، إذا لم ‏يكن الجواب موجوداً في المرويّ عندهم من ‏أحاديث النبي(ص)، وكتاب الإمام علي(ع).‏
ويمكن لنا أن نستنتج من هذا البيان أن الذين يوردون مثل هذا الإشكال لم ‏يفرِّقوا بين الوحي ‏التشريعي والإلهامات الإلهية، وتصوَّروا أنّ كلّ من يُلهَم لابد أن ‏يكون نبياً بالضرورة. في حين أنّ كون ‏الإنسان (محدَّثاً) هو من المراتب التي ينالها ‏الصالحون، فتحدِّثهم الملائكة، وإن لم يكونوا أنبياء. كما ‏تقدم أن مثَّلنا لذلك بصاحب ‏موسى(ع)، الذي كان حاصلاً على العلم اللدني؛ إذ يقول تعالى: [وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا ‏عِلْماً]، ولم يكن نبياً.‏
انتهی الجزء الأول
المصدر: نصوص معاصرة، العدد الواحد والعشرون
السنة السادسة، ‏شتاء 2011م، 1432ه