هفته‌نامه سیاسی، علمی و فرهنگی حوزه‌های علمیه

نسخه Pdf

الأربعينية زيارة أم حضارة؟

□ مقالة

الأربعينية زيارة أم حضارة؟

□ بقلم: ا.د. رياض الجميلي

​​​​​​​
الانتباه: الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي «الآفاق» بالضرورة،
بل تعبر عن ‏رأي أصحابها
تقامُ العديد من المناسبات والاحتفالات والمهرجانات الوطنية والشعبية والعالمية بشكل مستمر في ارجاء مختلفة من العالم، بعضُها دوريٌ والآخر موسميٌ ومنها ما هو فصليٌ، و جميعها تصبو الى تحقيق أغراض واهداف اجتماعية ودينية وترفيهية ورياضية وسياسية ولعل أبرزها عالمياً هي (فريضة الحج) التي تؤدى في بيت الله الحرام بمكة المكرمة سنوياً و(الكرنفال ريو دي جانيرو ) السنوي للرقص في البرازيل الذي يحضره قرابة مليوني شخص، وكرنفال (كاندي ايسالا) للرقص والعروض الموسيقية وألعاب النيران في سيريلانكا ومهرجان (ميلفانا) الصوفي في تركيا، حتى ادرج البعض منها على لوائح اليونسكو ضمن التراث غير المادي من قبيل كرنفال (أورورا) في بوليفيا والكرنفال الشعبي (بارانكيا) في كولومبيا وغيرها من المهرجانات والملتقيات في شتى انحاء العالم التي تكتسب شهرة ومشاركة جماهيرية واسعة، وقد اعتاد المجتمع الدولي على مثل هذه التجمعات البشرية فدُعمّت بالمال والامن والقوانين، فبعضها يُكلف اقامته مليارات الدولارات الأميركية كمونديال كأس العالم لكرة القدم الذي بات يمثل علامة فارقة للدول المضيفة له والمشاركة فيه، بل بات السباق للوصول اليه محموماً على المستويين الشعبي والحكومي كل هذه الملتقيات البشرية والشعبية بعناوينها المختلفة تمثل نواة للتواصل الاجتماعي والفكري والروحي لمحبيها، وان مسالة الحفاظ على ديمومتها بات من ضرورات المشهد الثقافي والحضاري لتلك الشعوب والأمم.
وهنا نحاول في مقالتنا هذه ان نتطرق لأكبر تجمع ديني بشري في العراق على أقل تقدير تشهده مدينة كربلاء الواقعة جنوب العاصمة بغداد خلال ما يعرف بـ (زيارة أربعينية الامام الحسين) للفترة من ( 1 - 20 ) من شهر صفر بحسب التقويم الهجري الذي يربو عدد المشاركين فيه على أكثر من (15) مليون شخص وبشكل سنوي، وهدف مقالتنا هو الوقوف على عناصر هذا التجمع الديني البارز وهل يمثل تجمعاً دينياً فحسب؟ أم له دلالات ومقاصد أخرى؟ وهل بالإمكان الاستفادة منه انسانياً؟  وهل تقودنا الإجابة الى فرضية ان زيارة الأربعين حضارة إنسانية يمكن قراءها بهذا السياق؟
▪ أولاً: عناصر زيارة الأربعين في كربلاء
لهذا التجمع الديني - الشعبي عناصر ومقومات أساسية أهمها:
1-عنصر الهدف المشترك: هو الغاية المرجوة من أي عمل يقصده الفرد او الجماعة او ان تكون جهودهم منصبة في نفس الاتجاه لأجل تحقيقه، فبما ان أصل هذا التجمع هو مبدأ ديني مستوحى من أفكار عقائدية فان الشعور الشعبي والجماهيري هو بالأساس شعورٌ دينيٌ منشدٌ نحو هدف وغاية واضحة المعالم مفادها السبيل لتحصيل مرضاة الله من خلال ممارسة  طقوس وشعائر هذا التجمع البشري الهائل.
2- عنصر التعاون في تحقيق الهدف: وهذا العنصر من اهم عناصر زيارة الأربعين، وناتج من الشعور والادراك والايمان الفردي والجماعي بأن تحقيق الهدف المنشود من الزيارة لا يتأتى من على صعيد الفرد وحده مهما تعاظم دوره في ذلك، فلا يمكن بلوغ الهدف إلا عن طريق تحقيق مبدأ التعاون الجماعي، فالوصول الى هذه النتيجة الإنسانية يحتاج مستوى عالياً من التفاهم والانسجام المجتمعي ينتاب جميع الافراد المشاركين في هذه الفعالية مهما كان شكل ونوع وطبقة الفرد المشارك وبدون تمايز وطبقية.
3- عنصر المكان الفريد: وهنا تبرز مدينة كربلاء ومرقد سيدها الامام الحسين(ع) في ان تكون القبلة والوجهة المشتركة لجميع المشاركين في الزيارة اذ لا تتم الزيارة عقائدياً الا بالسفر نحو كربلاء والتبرك بمرقد سيدها صاحب المناسبة، وهنا تمتاز الرقعة الجغرافية لزيارة الأربعين بميزة مكانية تكاد تنفرد بها عن بقية المهرجانات والاحتفالات الدينية الأخرى في العالم، فهي تتمدد تارة لتغطي اكثر من ثلثي مساحة العراق، يصبح فيها كل بيت ومنزل وحارة وشارع مركزاً لتأدية مراسيم الزيارة على اختلاف جغرافيته بغض النظر عن قربة او بعده عن كربلاء، فيما تتقلص فيها جغرافية الزيارة لتصل الى حدود مرقد الامام الحسين(ع) تارة أخرى، وهذه الخاصية بحد ذاتها لا تتوفر في بقية الاحتفالات والمهرجانات الأخرى على حد علمنا.
4- عنصر الإدارة والتنظيم المشترك: تُعرّف الإدارة بانها الأسلوب الذي يحكم أوجه العمل لأجل انجاحه والوصول به نحو التنظيم ضمن خطوات ومراحل مدروسة بعناية، هذا من وجهة نظريات الإدارة الحديثة، اما ما يتعلق بعنصر التنظيم المكاني والأداء والفعالية في زيارة الأربعين ومن خلال تعايشنا المستمر مع هذه المناسبة فيلتمس منه العناية الفائقة والحرص الشديد من قبل الجميع لتحقيق مستوى عال من تنظيم مراحل الزيارة وسياقاتها من رحلات سياحية منظمة الى تنظيم مراكز الايواء والإقامة فضلاً عن مواكب الاطعام المنتشرة في كل حدب وصوب ضمن أجواء المناسبة ورقعتها الجغرافية، واللافت للنظر في هذا الموضوع ان عنصر التنظيم والإدارة يدار عبر ما يعرف بهيئات ومواكب حسينية - شعبية لا تمتلك توصيفاً رسمياً ولا يوجد ما يوحي الى تدخل حكومي في إدارة هذه المناسبة بتفاصيلها ومراحلها الدقيقة سوى المشاركة في تقديم بعض الخدمات السيادية وتوفير الأمن والخدمات البلدية والصحية  بالواقع الذي حدا بالمنظمة الدولية اليونسكو الى تسجيل (ملف الضيافة والكرم) خلال موسم زيارة الأربعين ضمن لائحة التراث غير المادي للشعب العراقي في العام 2019 عبر التنسيق مع العتبة الحسينية المقدسة ومركزها المعتمد للدراسات والبحوث.
 ▪ ثانياً: دلالات ومقاصد زيارة الأربعين
ان كل عمل لابد من مقاصد وغايات تسعى فكرته الأساسية والمشاركون فيها الى الوصول اليها وبأسهل الطرق وآمنها، فطبيعة الفلسفة الإسلامية مهدت سبل الوصول الى مرضاه الله(جل وعلا)، وعدّت الطرق إليه بتأدية الفرائض والمستحبات وأعمال مستحسنة سنتها الشريعة المقدسة ووضعت لها المقاييس والاطر،  فزيارة الأربعين أحد أوجه الاعمال الدينية لدى المسلمين الشيعة في العراق والعالم الإسلامي الذين يؤدونها تقرباً لله تعالى ضمن طقوس وشعائر عقائدية، فتأديتها ضمن هذه الأجواء الروحية والشعبية تحقق مقاصد وغايات كبيرة على مختلف المستويات والصعد ابرزها:
المستوى الروحي: يعد العامل الروحي أبرز أوجه أعمال الزيارة كونها من الاعمال المستحبة التي تؤدى تعظيماً لأبرز القضايا الإسلامية التي ضحى من اجلها أئمة المسلمين من آل البيت(ع) وهي القضية المركزية في الإسلام المتمثلة في مقارعة الظلم بجميع اشكاله وصوره الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والتي تجسدت معالمها الواضحة في واقعة الطف الشهيرة وهذا المبدأ اليوم يقع في طليعة مبادى حقوق الانسان عالمياً ولوائحها الدولية فتشبث المسلمين وغيرهم في اصل هذا المبدأ جعل منهم يميلون وبقوة نحو تمظهراته الواقعية التي يعتقدون بها خير سبيل لرفع الظلم والحيف في حياتهم العملية وهناك شواهد كثيرة في هذا الجانب الوضاء، وما تحققه أجواء الزيارة في هذا الجانب كبير للغاية يمكن ملاحظته في أية جزئية من جزئيات الزيارة من خلال النصوص الدينية الملقاة والشعارات المرفوعة والادب المتداول وواقعية الاعمال المرافقة لها، جميعها تحاول تجسيد هذا المبدأ كلٌ بحسب إدراكه ومعرفته والفنون التي يجيدها في ذلك.
المستوى الثقافي:المتمثل بالمصير المشترك بين أبناء الشعب الواحد والطائفة الواحدة التي تتحقق ملامحها العملية خلال موسم الزيارة وفعالياتها، فزيارة الأربعين تحمل بين طياتها جرعة ثقافية غنية بالمعاني والمثل والاطر الثقافية والفنون والمعارف التي يحاول المشاركون من خلالها عكسها واظهارها بطرق متنوعة بغية تنشيط الذاكرة الإنسانية بإحياء معاني النبل والتضحية في سبيل اصلاح المجتمع والاقتداء بسيرة العظماء من هذه الامة، وبالنتيجة تنصهر جميع هذه الممارسات والطقوس في بودقة كربلاء لتأخذ نكهتها وعبرتها من سيرة سيد الشهداء وتمزج عبر عادات وممارسات تراثية فلكلورية غاية في التنوع والأداء فتكون بذلك صور فريدة تجمع بين التراث والمعاصرة.
المستوى الاجتماعي:  كل عمل تشاركي - جمعي يحظى بصفة اجتماعية واسعة الدلالات، ما بالك بعمل يشترك فيه ملايين الناس بمختلف مناطقهم وعاداتهم وتقاليدهم وطبقاتهم وفئاتهم العمرية ومناطق ورودهم المحلية والإقليمية والدولية، والكل يحاول ان يخدم الكل بطريقته الخاصة عبر مجموعة من الممارسات والفنون ان العنصر البارز في هذا المجال هو الانسجام المجتمعي بين سكان الداخل والخارج على اختلاف المعطيات الاجتماعية فمظاهر الايواء والاطعام وتقديم الخدمات للمشاركين بتنوع عال وعطاء جزيل دون ادنى مقابل مادي يذكر مهما كان نوع الخدمة المقدمة ورتبتها الوظيفية هي همزة الوصل الكفيلة بتحقيق نوع من الاندماج الاجتماعي والانصهار الثقافي وإن تعددت المشارب واختلفت الرؤى، وقلّما تتحقق غايات إنسانية ومثل مجتمعية نافعة في مهرجانات او تجمعات بشرية مناظرة.
المستوى الايدلوجي: لا تخلو فكرة الأربعين من ترسيخ ابعاد ومدلولات فكرية على مستوى سلوك الفرد والجماعة وفقاً لما تضمنته من مبادئ العدل والأخاء ونشر العدالة الاجتماعية والسياسية بين أبناء الوطن الواحد دون ادنى عنصرية او طائفية او قومية، فمنبع الفكرة من صميم تعاليم الدين الإسلامي وأسس لها القرآن والسنة وترجمها الأئمة والصحابة وبذلك فهي تتمتع بأصالة المنبع والتجسيد، ولما كانت أي فكرة تحضى بتوفر هذين العنصرين فلابد ان يكتب لها الاتساع والتطور في أي مجتمع يؤمن بهذه القيم والاطر الفكرية.
ثالثاً: ما معنى (الحضارة) وهل يمكن ان تحقق زيارة الأربعين بعداً حضارياً؟
تعرف الحضارة بانها تقدم روحيٌ وماديٌ للأفراد او المجتمعات الإنسانية، يرتكز مفهومها على مبدأ أخلاقي بحت، ليشمل الحياة بجميع مظاهرها المادية والإنسانية تحقيقاً للتقدم  فلا وجود لحضارة من فراغ، وانما تقوم الحضارات على مبدأين رئيسين هما الواهب والمضيف، ويقصد بـ (الواهب) مجموعة القيم المستوحاة من الخالق، اما (المضيف) المجتمع المستقبل لهذا النوع من العطاء، ويراها بعض المعاصرين ((بانها جملة العوامل المعنوية والمادية التي تتيح لمجتمع ما ان يوفر لكل فرد من أفراده الضمانات الاجتماعية اللازمة لتقدمه ))، والدين الإسلامي الحنيف خلق صورة متعددة من الحضارة الإنسانية العالية في مفاهيمها الخلقية والروحية والمعنوية غرسها في نفوس اتباعه بقوة، فالبناء الحضاري للإنسان او المجتمع يقوم على توفر مجموعة من العناصر والمؤهلات ابرزها الإنتاج الثقافي والبيئة الاجتماعية الواعية التي ترسخ مفهوم العمل الجماعي، والسؤال المهم في هذا السياق هو ما هو الجانب الحضاري في زيارة الأربعين؟ وما هي أبرز اركانه؟
وللإجابة عن هذا التساؤل لابد من تشخيص عناصر الحضارة ومدى انطباقها على زيارة الأربعين في كربلاء، فالحضارة تحتاج الى انتاج ثقافي ومعرفي لكي يتصدر مشهد الحضارة، وفي الأربعين مشاهد متعددة من الإنتاج البشري - الجمعي من قبيل (العمل التطوعي، السخاء، مبدأ تقديم الخدمات، إشاعة روح التعاون بين الافراد، المصير المشترك، الهدف الواحد...الخ ) من هذا النتاج البشري المتطور والذي يتصف بالأخلاق والشعور الكبير بالآخر وهذا بحد ذاته مُنتجٌ قليل التكرار في غير زيارة الأربعين، اما العنصر الثاني للحضارة هو البيئة الاجتماعية التي تمثل الوعاء الذي يحوي هذا المنتج الاجتماعي، وللتعرف على طبيعة بيئة الأربعين لابد من التعايش معها عن كثب لأجل التفاعل الحي مع مشاهدها الإنسانية الكبيرة، ففي زيارة الأربعين وفي مدينة كربلاء تحديداً تنشأ حضارة إنسانية قل نظيرها على مستوى العالم من مظاهر التفاهم والتعاون والشعور بالآخر مهما كان ذلك الآخر، ويشترك في هذه البيئة مختلف طبقات المجتمع وفئاته، يتسابق فيها الناس على خدمة الناس وتسود فيها أجواء تصالح وتواصل وانسجام بعيداً عن التمايز والطبقية والاحتكار، وتكاد تتصف بالمجتمع المثالي لولا خوفنا في الدخول بالغلو العلمي او المبالغة في التوصيف، وجميع افراد مجتمع الأربعين مشدودين نحو هدف سامٍ وهو التقرب الى مرضاة  الله من خلال خدمة مجتمع زوار الحسين(ع)، فكل من زار كربلاء من غير اهل العراق انبهر بصورة هذا المجتمع الاربعيني الذي يمتد من جنوب العراق الى شماله ضمن صور وانماط واشكال من العمل والإنتاج المجتمعي التشاركي الذي لا يبتغي تحقيق ربح او منفعة مادية سوى مرضاة الله في مؤاساة اهل بيت النبي(ص)، وهنا ألا يمكن اعتبار هذا المشهد المتقدم على المستوى الاجتماعي والثقافي السلمي تقدماً حضارياً عالي المضامين؟ وهل يمكن ان يعد مجتمع الأربعين في العراق مجتمعاً يمتلك هدفاً ورؤية وهوية وغاية؟ الا يمكن ان يكون مجتمع يقتدى بصفاته ومميزاته على المستوى الإقليمي والعالمي من شعوب ومجتمعات؟ على الرغم من ما مر ويمر به المجتمع العراقي من حساسية الظروف السياسية والاقتصادية والأمنية طيلة العقود الخمسة الماضية إلا انه آلى على نفسه حمل هذه الصفات المجتمعية والمحافظة على استمرارها وديمومتها رغم الظروف الراهنة وصعوبتها، وهنا يمكن القول ان القيم الثقافية والسلوكية والنفسية العالية التي يتحلى بها المجتمع العراقي عامة ومجتمع الأربعين خاصة ما هي الا- انطباع حضاري - متقدم يمكن ان يُترجَم الى دروس وعبر شعبية عفوية ضمن نظريات السلوك الاجتماعي الى مختلف المجتمعات البشرية الأخرى التي يعوزها روح التكافل والتعاون الإنساني بفعل ما دمرته الاقتصادات الرأسمالية المقيتة من القيم الاقتصادية الإنسانية، والتي حولت الانسان وقوته الى لعبة اقتصادية كبيرة في سوق الطلب والعرض الذي يخلو من أي قيمة أخلاقية تذكر.
المصدر: مرکز کربلاء للدراسات والبحوث

برچسب ها :
ارسال دیدگاه