مكانة القرآن عند المسلمين
□ الشيخ محمد علي خاتم
□ الانتباه: الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي «الآفاق» بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
من المسلّم به عند الفريقين سنة وشيعة عدم التحريف في القرآن الكريم فهذا القرآن [لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ]، وهذا القرآن قد ضمن حفظه الباري فقال: [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ]، وهذا شيح الطائفة الطوسي يقول: بأن "الزيادة فيه مجمع على بطلانها، والنقصان منه فالظاهر أيضا -من مذهب المسلمين خلافه، وهو الأليَق بالصحيح من مذهبنا".
وهذا العلامة الحلي يقطع بأن "الحق لا تبديل ولا تأخير ولا تقديم فيه، وأنه لم يزد ولم ينقص، ونعوذ بالله تعالى أن يعتقد مثل ذلك فإنه يوجب التطرق إلى معجزة الرسول(ص) المنقولة بالتواتر"، ولأن مسألة القول بالتحريف صارت حرفة العاجز قال فيها السيد الخوئي: بأن "المعروف بين المسلمين عدم وقوع التحريف في القرآن وأن الموجود بأيدينا هو جميع القرآن المنزل على النبي الأعظم(ص) وقد صرح بذلك الكثير من الأعلام منهم رئيس المحدثين الشيخ الصدوق محمد بن بابويه، وقد عد القول بعدم التحريف من معتقدات الإمامية-إلى أن قال- إن حديث تحريف القرآن حديث خرافة وخيال لا يقول به إلا من ضعف عقله، أو من لم يتأمل في أطرافه حق التأمل، أو من ألجأه إليه من يحب القول به، والحب يعمي ويصم، وأما العاقل المنصف المتدبر فلا يشك في بطلانه وخرافته" فلا كلام لنا بعد هذا إلا أن نقول بأنه لا ينبغي اتهام طائفة بأنهم يقولون بتحريف القرآن إلا بعد النظر إلى أقوال كبار العلماء، والنظر إلى تراث الطائفة ككل حتى يتبين الحق للناقد، لا أن ترمى التهم جزافاً هنا وهناك بطرحٍ عارٍ عن الطرح العلمي وعارٍ عن الرغبة في البحث عن الحقيقة... لأن المستفيد الأول والأخير هم أعداء الإسلام؛ لأنه بهذا يقدم هؤلاء لهم مطلباً مهماً وعلى طبق من ذهب بأن هذا القرآن -الذي يجعله المسلمون مصدرهم في التشريع ويدعون الناس للتمسك به حتى يقربوا من الله ويتخلصوا من الشرور- قد لعبت فيه أيدٍ فزادت ونقصت، وهذا ما لا يمكن القبول به.
▪ عظمة القرآن
حتى نعرف عظمة شيء لا بد لنا من معرفة مواصفاته فما هي المواصفات التي كانت للقرآن الكريم التي جاءت في القرآن والسنة؟
يصف القرآن نفسه في مواضع عديدة بما يفيد عظمته وأنه كتاب حكيم عزيز مبين مجيد ونور وهدى للمتقين. وهذه جملة من الآيات التي تفيد عظمته فيقول: [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] و [وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ٭ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ] ولأنه نازل من الله تعالى وأنه آخر الكتب السماوية أراد الله حفظه من عبث العابثين لتبقى عظمته شامخة على مرِّ العصور ليذعن له كل ذي قلب سليم فقال تعالى: [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] و[قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا] وعظمة هذا القرآن تتجلى أكثر في أثره الذي أحدثه عند نزوله حيث كان السماع إليه كافٍ في التوقف عنده [قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إلى الْحَقِّ وَإلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ]، فإن كان هذا أثر السماع فما هو أثر الاستماع؟ القرآن يقول: [قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا] ولا عجب أن قالت الجن هذا فالله تعالى يعلم أثر كلامه على مخلوقاته لِما فيه من عظمة لذا يقول: [لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ]، ويكفي للقائل بعظمة القرآن الكريم هي شهادته تعالى على هذه العظمة حيث يقول: [وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ].
ولا ريب في ثبوت هذه الحقيقة في الخارج فدونك البلاغي والفيلسوف والمتكلم والأصولي والفقيه وغيرهم ممن اهتم بالقرآن الكريم فإنَّا نجدهم ينقِّبون ويبحثون فيه فيجدون ما يطلبون وأكثر لكنهم مهما بحثوا ونقَّبوا تبقى عقولهم قاصرة عن إحاطة ما فيه [وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ] ولنا أن نشير هنا إلى أنه جاءت إضافة لفظ الجلالة إلى القرآن بصورة (كتاب الله) في عشر موارد في القرآن الكريم وهذا ما يعطي قيمة أكبر للقرآن الكريم إذ أن المضاف يأخذ قيمة ما أضيف إليه.
وقد وصف الرسولُ(ص) القرآنَ الكريم حيث قال: «ستكون فتنة، قيل: فما المخرج منها يا رسول الله(ص)؟ قال: كتاب الله -مرتين- فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم، وفصل ما بينكم وهو العروة الوثقى وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا:{إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا} من قال به صدق، ومن مال به مُحق، ومن حكم به هدي إلى صراط مستقيم» أضف إلى هذا كله أن التاليَ الأول للكتاب هو أمّي ويشهد القرآن بنفسه على أميّته ومع ذلك نجده يتلو كتاباً لا يأتيه الباطل ويعجز أيُّ فرد أن يأتي بمثله والعجب فيه أن يكون على نسق واحد فلا يوجد فيه اختلاف من حيث الفصاحة أو البلاغة أو المضمون والمحتوى [وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا] وهذا -وما تقدم- يجعلنا نجزم بأن هذا القرآن هو كتاب عظيم حقاً وأنه كلام الله.
▪ الهدف من القرآن
بعد ما ذكر تبين أن القرآن ليس نتاجاً بشرياً بل هو وحي إلهي قد جاء للبشر كافة فينبغي لجميع البشر عموماً والمسلمين خصوصاً أن يتفاعلوا بشكل مستمر مع هذا الوحي الإلهي فالمسلمون -والحديث عنهم- لو عرفوا أن القرآن عظيم سيعطونه قداسة فقط لا غير كمن يحتفظ بتراث يذَّكره بأبيه، أما لو حصلت معرفة العظمة مضافاً إلى الهدف منه فإن التفاعل عندئذ سيكون في أعلى مستوياته وفي شتى مجالات التفاعل المتناسبة والقرآن من الحفظ في القلب والخارج واستنطاقه والعمل على هديه... فما هو الهدف منه؟
يقول السيد محمد باقر الحكيم: "إنه قد يكون من الأفضل الرجوع إلى القرآن الكريم نفسه لتشخيص الهدف من نزوله، ومن خلال استعراض الآيات القرآنية التي فسرت نزول القرآن"، -وهذا ما بنينا موضوعنا عليه- وبالبحث في القرآن الكريم سنتعرض لأكثر من ثلاث عشرة آية من مواضيع مختلفة من القرآن الكريم قد تعرضت لبيان هدف القرآن، وهذه بعض الأهداف:
1. القرآن كتاب هداية: وهذا عرْض لكل فرد أراد أن يسير على طريق الحق الذي لا باطل فيه أبداً -قال تعالى: [ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ] وهذه آيات تضيف على الهداية أنه كتاب شفاء ورحمة وأنه يبشر من آمن به بالخير الكثير حيث قال تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ]، [وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا]، [إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا]، [قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ٭ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ].
2. القرآن كتاب حياة وإخراج من الظلمات إلى النور: يقول الحق تعالى: [أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] [الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إلى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ]، ولأن القرآن أخذ على نفسه أن يهدي الناس ويخرجهم من الظلمات إلى النور نجده يضمن لمن اتبعه أنه لن تحصل له ضلالة أبداً ولا شقاء، وليس للمُعرِض عنه إلا الضلال في الدنيا والخسارة في الأخرى [فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى ٭وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى].
3. القرآن كتاب إنذار: يقول الحق تعالى: [وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ]، [قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ]، [تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا].
4. القرآن كتاب حجة وبرهان: لكل المفكرين على مرّ العصور [يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ] ولا يكتفي بذكر البرهان فقط بل يتحدَّى المخالفين ويدعوهم بأن يأتوا بالبرهان الذي عندهم إن كان عندهم برهان، ففي أربعة مواضع من القرآن يتحدّى ويقول: [هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ].
5. القرآن دستور للبشر: [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]، وحتى يدلل على شموليته لكل شيء في الحياة نجده يدعو البشر -بشكل غير مباشر- للتأمل في أنهم سيجدون فيه كل شيء يطلبون [مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ].
6. القرآن كتاب تأمل: يدعو القرآن بشكل دائم جميع الناس حتى يتفكروا ويتدبروا فيه حيث يقول: [لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ] و[لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] ولكن هناك آيات صريحة في كونه نازل للتدبر والتأمل والتفكر فيه فهو يقول: [كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ].
وغيرها من الأهداف التي إن صح التعبير عنها بأنها أهداف فرعية ككونه كتاب ذكر(38) وأنه كتاب دروس وعبر.
▪ الهدف الرئيس
لنا أن نقول بأن الهدف الرئيس من القرآن هو خلق المجتمع الإسلامي والدفع به نحو جنان الخلد وإبعاده عن نيران جهنم، هذا على الصعيد الجماعي، أما على الصعيد الفردي فهو خلق السعادة الحقيقية المتمثلة في عبادته تعالى واستشعار رضاه.
وبيان هذا الهدف في القرآن كان على مراحل ثلاث:
المرحلة الأولى (قاعدة الانطلاق):
وفيها تأسيس قاعدة مهمة في حياة البشر حاصلها أن التغير في الخارج يبدأ من الداخل أي من فكر الإنسان ومعتقده، فإن كان معتقداً جاهلياً لا بد من تغييره إلى معتقد صحيح قد استُقي من منبع لا يتطرق إليه الخطأ. حيث قال: [إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ] وقد نجح القرآن بجدارة في تغيير أفكار أهل الجاهلية الجهلاء -بعد أن قبلت قلوبهم التغيير- إلى أناس لا تأخذهم في الله لومة لائم أشداء على الكفار رحماء بينهم.
المرحلة الثانية (المعتقد الصحيح):
يأتي القرآن الكريم ليؤسس المعتقد الصحيح وبعض الأمور التي تتفرع عنه حيث جعل معرفة الله هي الأمر الأول الذي لا بد من أن ينطلق منه الإنسان نحو التغيير-ليصل لكماله الذي يستحق- فقال:[قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ]، فلا بد من اعتقاد هذا الإنسان بأن معبوده لا ينبغي له التعدد، ومن عرف الله وأنه مرجع العباد فلا بد أن يكون هذا الإله عادلاً لا يُظلمُ عندَه أحدٌ أبداً، فقال: [فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ٭ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ] و[إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ]، ومن عرف عدله تعالى حق له أن يتسائل عن يوم المحكمة الكبرى حيث يحشر الخلائق أجمعين ليحاسبهم [وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ]، وبعد هذا وقد عرف الإنسان أن الله واحد عادل يثيب ويعاقب يلتفت إلى أن المصدر الذي عرَّفه هذه المعارف هو النبي(ص) ومن بعده المعصوم(ع) بتنصيب من الله تعالى على لسان نبيه(ص)... وبعد هذا يحمل الإنسانُ همّ التغيير منطلقاً من اعتقاد صحيح.
المرحلة الثالثة (السلوك الموزون):
يُعدُّ القرآنُ لهذا الإنسان الذي سار في طريق التغيير طريقة عملية تفصيلية تدخل في جميع مقاطع حياته، وهذا الطريق هو لازمٌ لاعتقاده وبعبارة أخرى يعد طريقاً لهذا الإنسان ويقول له: بما أنك تعتقد بهذه الاعتقادات فلا بد وأن يكون عملك موافقاً لما تعتقد، فجاء بتبيان الأخلاق التي لا بد وأن يتحلّى بها... هذا من جهة ومن جهة أخرى بيَّن الأحكام الشرعية والقوانين على شكل مجمل وترك تفصيلها على النبي(ص)، والنبي(ص) بدوره جعل بيان أهل بيته(ع) بمنزلة بيانه.
وعلى هذا فمن يسير على هذه المراحل التي أشار لها القرآن من انطلاقة جادة وعقيدة صحيحة وفعلِ ما يتناسب وهذه العقيدة، فإنه بلا شك على الصعيد الفردي يصل للسعادة الحقيقية وهي مرضاة الله، وعلى الصعيد المجتمعي سيصل لتحقيق المجتمع الإسلامي مما يجعل أجواء التوجه إلى الله أكثر وأكثر فيتم الغرض.
▪ مكانة القرآن
اتضح مما سبق ما للقرآن من دور محوري ومهم في حياة الفرد حيث نجده يدخل في حياته آناً آنا، مثبتاً إحاطته بكل شيء، فالقرآن عظيم في نفوس المسلمين ليس لأنه معجز فحسب ولا لمجرد خلوده فحسب، ولا لاشتماله على حقيقة شرائع الأنبياء السابقين فحسب، ولا لأنه كتاب نبينا محمد(ص) فحسب... بل لأنه حديث الرب مع المربوب حديث الخالق مع المخلوق حديث الله مع العبد ولأنه يرسم طريق السير في هذه الدنيا ليصل الإنسان إلى الحياة الحقيقية "فهو يحتوي على الغاية الأسمى التي تهدف إليها الإنسانية" أضف إلى ذلك "أن القرآن هو المصدر الأول للتشريع والمقياس الوحيد لتمييز الموضوع من الصحيح في الأحاديث الإسلامية" التي تعد المصدر الثاني للتشريع وبها تفهم مضامين القرآن.
▪ واجبنا تجاه القرآن
لم يكن القرآن في صدر الإسلام كتاباً عادياً بل كانت له مكانته الخاصة عند المسلم فما "كان ليفارق الإنسان المسلم في صلاته، المسجد، البيت، ميدان الحرب عند مواجهة الأعداء، بل إن المسلمين كانوا يجعلون تعليم القرآن مهوراً للنساء" ولم يكن الفرد المسلم يقف عند هذا الحد بل كان يسعى لحفظه وتعلّم ما فيه من معارف حتى أصبح عدد الحفّاظ للقرآن ما يفوق التصور، فهم تعاملوا مع القرآن بأنه دستور حياتهم وبقاؤه بقاؤهم لذا كان حيويا متجدداً مع تجدد الليالي والنهار، وعلى مر العصور وهذا لم يكن لولا إصرار النبي(ص) والمعصومين(ع) من بعده على لزوم التمسك بالقرآن، فهذا نبي الرحمة(ص) يقوم من فراش المرض-المرض الذي قبض فيه- متوجهاً للمسجد لمَّا علم باجتماع عدد من الأنصار يبكون عليه... فخرج في ملحفة وعصابة حتى جلس على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أما بعد، أيها الناس! فما تنكرون من موت نبيكم؟... ألا إني لاحق بربي، وقد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلّوا: كتاب الله تعالى بين أظهركم، تقرؤونه صباحاً ومساءً، فلا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا، وكونوا إخوانا كما أمركم الله، وقد خلّفت فيكم عترتي أهل بيتي وأنا أوصيكم بهم..»، فقيام الرسول(ص)-من فراشه- بهذه الحال ودعوته لتعاهد القرآن صباحاً ومساءً لَدليل واضح على إصراره على لزوم التمسك بالقرآن الكريم، وليس هذا المورد الوحيد الذي يدعو فيه الرسول(ص) للتمسك بالقرآن-ويضم إليه عادة عِدْلَه وهم العترة- بل هناك الكثير من الأحاديث والأحداث الدالة على ذلك، وعلي(ع) والأئمة(ع) من بعده لهم ما لهم من الأحاديث والأحداث الحاثَّة على التمسك بالقرآن الكريم فيقول(ع): «ما جالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان؛ زيادة في هدى أو نقصان من عمى». إذن كيف نبرز هذا التمسك بالقرآن الكريم، وبعبارة أخرى ما هو الواجب علينا فعله اتجاهه؟
يتوجب علينا تجاه القرآن أمور أبرزها:
أ- حفظ القرآن: والحفظ هنا بكلا معنييه سواءً كان عن ظهر قلب أم معه مضافاً للمحافظة عليه بالعمل بما فيه من التأدب بآدابه والاعتبار بقصصه وأمثاله والتدبر في أسراره والحرص على تعاهده وتلاوته، ولا ينبغي التعذر عن الحفظ بأن الحفظ بالمعنى الثاني كافٍ أو أن الحفظ القلبي فيه مضيعة للوقت فما أكثر الأعذار وما أكثر الأوقات التي تضيع في القيل والقال وتصرف فيما هو أقل أهمية أو في أمور جزئية.
ب- تلاوته: ليلاً نهاراً، وفي الحديث الذي نقلناه عن النبي(ص) كافٍ حيث يأمر بصريح عبارته «تقرؤونه صباحاً ومساءً» يقول تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ٭ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ]، فالقرآن الكريم لم ينزل على قلب الرسول(ص) ليُقرأ مرة في العام أو في المحافل أو في مجالس العزاء ثم بعدها يعلق كالتحفة في المنزل.
ج- محاولة فهمه والتدبر فيه: وإليك هذه الآية مكتفياً بها لتتدبر فيها [كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ].
د- طرحه كشعار للمسلم: يردده في مناسباته الخاصة والعامة بل في كل يوم من أيامه حتى يعيش مع القرآن وينهل منه وعياً ويتعاهده بالالتزام بما فيه، وينصره بنشرِه ونشرِ تعاليمه والحثِّ عليه؛ لتخرج أجيالاً قرآنية تحمل هم القرآن ووعيه، لذا حق لنا أن نقول شعارنا نعلنه أمام الجميع بأنّا مع القرآن وعياً والتزاماً ونصرة.
اللهم ارحمني بالقرآن واجعله لي إماماً ونوراً بين يديّ وهدى ورحمة، اللهم ذكرني منه ما نسيت، وعلمني منه ما جهلت، وارزقني تلاوته آناء الليل وأطراف النهار، واجعله حجة يا رب العالمين.
المصدر: مجلة رسالة القلم، العدد 26