هفته‌نامه سیاسی، علمی و فرهنگی حوزه‌های علمیه

نسخه Pdf

حديث الغدير والإشكالات المعاصرة

□ مقالة / الجزء الثاني والأخیر

حديث الغدير والإشكالات المعاصرة

□  الشيخ عباس علي الصائغ

المناقشة الرّابعة: وهي الّتي ترتبط بقولهم بأنّ حديث الغدير ليس صريحاً في التّنصيب الإلهيّ، وأنّ كلمة ‏‏(المولى) لها أكثر من معنى في اللغة، ولذا لا ينبغي حمل حديث الغدير على ما يخالف الحقوق الفطريّة ‏للإنسان، بل ينبغي حمله على ما يتوافق معها، وهو الّذي بيّناه من أنّ الإمام عليّ(ع) مولاكم في أمور ‏الدّين فقط.‏


فنقول: أوّلاً: لا ننكر وجود أكثر من معنى للفظ المولى، فهو تارة يستعمل بمعنى الأولى، كقوله تعالى: ‏‏{مأواكم النّار هي مولاكم}، وثانية يستعمل بمعنى النّاصر، كقوله تعالى: {ذلك أنّ الله مولى الّذين آمنوا ‏وأنّ الكافرين لا مولى لهم}، وثالثة بمعنى الوارث، كقوله تعالى: {ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان ‏والأقربون} أي ورثة، ورابعة بمعنى العصبة، كقوله تعالى: {وإني خفت الموالي من ورائي}، وخامسة ‏بمعنى الصّديق، كقوله تعالى: {يوم لا يغني مولاً عن مولاً شيئاً}، وسادسة بمعنى المحبوب والنّاصر، ‏وسابعة بمعنى الأولى بالتّصرّف، كما تقول: (فلان ولي القاصر)، ولكن نقول: من أيّ معنى من هذه المعاني ‏يمكن استفادة الولاية في أمور الدّين فقط؟! لا يوجد أي معنى يدلّ على ذلك.‏
ثانياً: إنّ المستشكل يدّعي بأنّه لا ينبغي فصل حديث الغدير عن القرائن وعن الأمور الفطريّة الّتي ذكرها، ‏فنقول له: إنّه أيضاً لكي نعيّن المعنى المراد من كلمة (المولى) ينبغي عدم إغفال القرائن المحتفّة بحديث ‏الغدير، فإنّنا إذا دقّقنا في هذه القرائن بإنصاف ومن دون تعصّب سنجد بكلّ وضوح أنّ المراد من كلمة ‏‏(المولى) هو معنى الأولى بالتّصرّف، وهو المعنى الّذي تقول به الشّيعة.‏
فمن ضمن تلك القرائن ما يلي:‏
القرينة الأولى: خشية النّبيّ(ص) من إبلاغ هذا الأمر، حتّى نزلت الآية {يا أيّها الرّسول بلّغ ما أنزل ‏إليك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته والله يعصمك من النّاس إنّ الله لا يهدي القوم الكافرين}، فلو كان ‏النّبيّf‏ سيبلّغ النّاس بأنّ الإمام عليّ(ع) هو محبّكم، أو ناصركم، فلماذا كلّ هذه الخشية؟! فهل كان هذا ‏أمراً خافياً على النّاس أصلاً؟! وهل يكون عدم إبلاغ هذا الأمر بمثابة عدم إبلاغ الرّسالة؟! فهذه القرينة ‏تعيّن أنّ المراد من المولى هو الأولى بالتّصرّف، أي الخليفة.‏
القرينة الثّانية: يأس الكفّار وإكمال الدّين، فقد قال تعالى في هذا الشّأن: {اليوم يأس الذين كفروا من ‏دينكم فلا تخشوهم واخشوني اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ‏دينا}، فلو كان معنى (المولى) هو حبّ الإمام علي(ع) فكيف نفسّر يأس الكفار من القضاء على الدّين؟ ‏ثمّ إنّه أين الملازمة بين حبّ الإمام(ع) وبين إكمال الدّين وإتمام النّعمة؟! فلا يصحّ تفسير هذه الآية إلّا ‏إذا قلنا بأنّ ما حدث كان في غاية الخطورة وهو تنصيب الإمام عليّ(ع) خليفة على المسلمين.‏
القرينة الثّالثة: فهم الحضور من أنّ كلمة (المولى) قد استعملت بمعنى الأولى بالتّصرّف، أي أنّ أمير ‏المؤمنين(ع) هو الإمام والخليفة بعد النّبيّf، ومنهم الشّاعر حسّان بن ثابت في شعره الّذي رواه اثنا عشر ‏راوياً من العامّة في كتبهم كما ذكر العلّامة الأمينيّ، حيث وصف أمير المؤمنين(ع) بالإمام والهادي، يقول:‏
إلهك مولانا وأنت نبيّنا
ولم تلقَ منّا في الولاية عاصيا
فقال له: قم يا علي فإنّني
رضيتك من بعدي إماماً وهاديا
وقد علّق عليه العلّامة الأمينيّp‏ بقوله: "هذا أوّل ما عرف من الشّعر القصصيّ في رواية هذا النّبأ العظيم، ‏وقد ألقاه في ذاك المحتشد الرّهيب، الحافل بمائة أو يزيدون، وفيهم البلغاء، ومداره الخطابة، وصاغة ‏القريض، ومشيخة قريش العارفون بلحن القول ومعارض الكلام، بمسمع من أفصح من نطق بالضّاد (النّبي ‏الأعظم) وقد أقرّه النبي| على ما فهمه من مغزى كلامه، وقرّظه بقوله: «لا تزال يا حسّان مؤيّداً بروح ‏القدس ما نصرتنا بلسانك».‏
القرينة الرابعة: إنّ قراءة الأحداث التي حصلت في يوم الغدير والأفعال التي صدرت من النّبيّ(ص) تعيّن ‏بما لا شكّ فيه أنّ معنى (المولى) هو الأولى بالتّصرّف، أي: الخليفة والإمام.‏
ولا بأس هنا من نقل بعضٍ من كلام العلّامة السّيّد شرف الدّين في المقام لتتّضح القرائن الّتي كانت محتفّة ‏بحادثة الغدير، حيث قال: "وأنّكم تقدّرون رسول‌الله(ص) في حكمته البالغة، وعصمته الواجبة، ونبوّته ‏الخاتمة، .. فلو سألكم فلاسفة الأغيار عمّا كان منه يوم غدير خمّ، فقال: لماذا منع تلك الألوف المؤلّفة ‏يومئذ عن المسير؟ وعلى مَ حبسهم في تلك الرّمضاء بهجير؟ وفيم اهتمّ بإرجاع من تقدّم منهم وإلحاق ‏من تأخّر؟ .. ثمّ خطبهم عن الله عزّ وجلّ في ذلك المكان الّذي منه يتفرّقون، ليبلغ الشّاهد منهم الغائب، ‏وما المقتضي لنعي نفسه إليهم في مستهلّ خطابه؟ إذ قال: «يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وإني ‏مسؤول، وإنّكم مسؤولون»، وأيّ أمر يسأل النّبيّ(ص) عن تبليغه؟ وتسأل الأمّة عن طاعتها فيه، ولماذا ‏سألهم فقال:«ألستم تشهدون ألّا إله إلّا الله وأنّ محمداً عبده ورسوله، وأنّ جنّته حقّ، وأنّ ناره حقّ، وأنّ ‏الموت حقّ وأنّ البعث حقّ بعد الموت؛ وأنّ السّاعة آتية لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث من في القبور»، ‏قالوا: بلى نشهد بذلك، ولماذا أخذ حينئذ على الفور بيد علي فرفعها إليه حتّى بان بياض إبطيه؟ فقال: ‏‏«يا أيّها النّاس إنّ الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين»، ولماذا فسّر كلمته  وأنا مولى المؤمنين  بقوله: وأنا ‏أولى بهم من أنفسهم؟ .. ولماذا أشهدهم من قبل، فقال: ألست أولى بكم من أنفسكم؟ فقالوا: بلى. فقال: ‏من كنت مولاه، فعليّ مولاه، أو من كنت وليّه، فعليّ وليّه، .. وفيمَ هذا الاهتمام العظيم من هذا النّبيّ ‏الحكيم؟ .. وما الشّيء الّذي أمره الله تعالى بتبليغه إذ قال عزّ من قائل {يا أيّها الرّسول بلِّغ ما أنزل إليك ‏من ربِّك وإن لم تفعل فما بلَّغت رسالته والله يعصمك من النّاس}، وأيّ مهمّة استوجبت من الله هذا ‏التّأكيد؟ واقتضت الحضّ على تبليغها بما يشبه التّهديد؟ وأيّ أمر يخشى النبي الفتنة بتبليغه؟ ويحتاج إلى ‏عصمة الله من أذى المنافقين ببيانه؟
أكنتم -بجدك لو سألكم عن هذا كلّه- تجيبونه بأنّ الله عزّ وجلّ ورسوله|، إنّما أراد بيان نصرة عليّ ‏للمسلمين، وصداقته لهم ليس إلّا؟! ما أراكم ترتضون هذا الجواب، ولا أتوهّم أنّكم ترون مضمونه جائزاً ‏على ربّ الأرباب، ولا على سيّد الحكماء وخاتم الرّسل والأنبياء..".‏
القرينة الخامسة ولعلّها الأقوى: وهي فهم الإمام عليّ(ع) نفسه، حيث فهم من حديث الغدير تنصيبه ‏للخلافة، ولم ينكر عليه أحد هذا الفهم، وسيأتي ذكر بعض كلماته في هذا الشّأن عند مناقشتنا للشّاهد ‏الثّالث.‏
المناقشة الخامسة: وهي ترتبط بمجموعة الشّواهد الّتي تمّ ذكرها على مدّعاهم:‏
أمّا الشّاهد الأوّل: وهو أنّ الصّحابة فهموا من حديث الغدير أنّ تنصيب الإمام عليّ(ع) كان للأمور الدّينيّة، ‏وأمّا أمر الخلافة السّياسيّة فهو متروك للنّاس، ومن البعيد جدّاً -بحسب طبيعة سلوك النّاس- أن يكونوا ‏بأجمعهم قد خالفوا أمر النّبيّ(ص)  في هذا الشّأن.‏
فيمكن مناقشته بالتّالي:‏
أوّلاً: إنّ هذا الشّاهد يرتبط ببحث عدالة الصّحابة، وقد أشبع علماؤنا هذا البحث في كتبهم، فنحن لا نقول ‏بعدالة الصّحابة حتّى يكون فعلهم حجّة علينا بحيث نضطرّ إلى تأويل النّصّ الصّريح في خلافة أمير ‏المؤمنين(ع).‏
ثانياً: إذا كان الأصحاب قد فهموا من حديث الغدير الولاية والإمامة الدّينيّة فقط، فلماذا لم يجعلوا الإمام ‏عليّ(ع) إماماً لهم في أمر الدّين؟ ولماذا لم يرجعوا إليه في أمر السّقيفة ليعرفوا موقف الدّين في مسألة ‏تنصيب الحاكم؟!‏
ثالثاً: من قال بأنّ جميع الأصحاب فهموا من حديث الغدير الإمامة الدّينيّة؟ ألا ترون المعارضين لموقف ‏السّقيفة من أمثال أبي ذر الغفاريّ، وسلمان الفارسيّ، وعبد الله بن عباس، وأبي أيوب الأنصاريّ، وعمّار ‏بن ياسر، وخزيمة بن ثابت، وأبيّ بن كعب، وعثمان بن حنيف، وغيرهم؟! فمعارضتهم لم تكن إلّا لأنّهم قد ‏فهموا من حديث الغدير وغيره من الأحاديث أنّ الإمام عليّ(ع) هو الخليفة بعد النّبيّ(ص) دون غيره.‏
ثمّ إنّه كيف تفسّر نظريّة عدالة الصّحابة هذا الموقف منهم؟! ألم يكن هؤلاء من الصّحابة أيضاً؟!‏
وأمّا الشّاهد الثّاني: وهو أنّ النّبيّ(ص) لم يأخذ البيعة من المهاجرين والأنصار للإمام عليّ(ع)، وإنّما ‏بادرت مجموعة منهم لتهنئته(ع).‏
فيمكن مناقشته بالتّالي:‏
أوّلاً: لا نسلّم بأنّ النّبيّ(ص) لم يأخذ البيعة للإمام عليّ(ع)، بل الوارد أنّه بعد خطبته(ص)‏ يوم الغدير "نَزَل -‏وكان وقت الظّهيرة- فصلّى ركعتين، ثمّ زالت الشّمس، فأذَّن مُؤَذّنُه لصلاة الفَرْض، فصَلّى بهم الظّهر، ‏وجلس(ص) في خَيمته، وأمَر علياً أن يجلس في خيمةٍ له بإزائه، ثُمّ أمَرَ المسلمين أن يَدْخُلوا عليه ‏فَوْجاً فَوْجاً فَيُهَنّؤوه بالمقام، ويُسلِّموا عليه بإمْرَة المؤمنين، ففعل النّاسُ ذلك كلُّهم، ثمّ أمَرَ أزواجَه وجميعَ ‏نِساء المؤمنين معه أن يَدْخُلن عليه ويُسَلِّمن عليه بإمْرَة المؤمنين ففَعلنَ.‏
وكان ممّن أطْنَبَ في تهنئته بالمقام عُمَر بن الخطّاب، فأظْهَر له المسَرّة به وقال فيما قال: بَخٍ بَخٍ يا عليّ، ‏أصبحتَ مَولاي ومَولى كلِّ مُؤمنٍ ومُؤمنةٍ"، فهل هناك من داعٍ لكلّ هذه المبالغة في التّهنئة من وجوه ‏القوم لو كان المراد من أمر النّبيّ(ص) لهم مجرّد الأمر بالمحبّة؟!‏
ثّانياً: هل أنّ البيعة تمنع من تخلّف القوم بعد النّبيّ(ص) عن أمير المؤمنين(ع)؟! ماذا فعلت البيعة لأمير ‏المؤمنين(ع) بعد مقتل عثمان؟ ألم ينكث طلحة والزّبير البيعة بعد أيّام من وقوعها؟!‏
وأمّا الشّاهد الثّالث: وهو أنّ الإمام عليّ(ع) عندما طُولب بالبيعة لأبي بكر لم يستشهد بحديث الغدير في ‏مقام احتجاجه، وكذلك لم يفهم المسلمون من حديث الغدير أنّه يتنافى مع بيعة أبي بكر.‏
فيمكن مناقشته بالتّالي:‏
أوّلاً: لو سلّمنا بأنّ الإمام عليّ(ع) لم يحتجّ بحديث الغدير حينما طولب بالبيعة لأبي بكر، إلّا أنّه لا ينفي ‏أنّه احتجّ بحديث الغدير في مواطن أخرى، ولا ينفي أنّه احتجّ بأحاديث أخرى تدلّ على تنصيبه للخلافة.‏
ثانياً: إنّ الإمام علي(ع) قد احتجّ بحديث الغدير في مواطن متعدّدة، منها أثناء مطالبته للبيعة من أبي بكر، ‏ولكنّه(ع) رفض البيعة وقال: «يا معاشر المهاجرين والأنصار، الله الله لا تنسوا عهد نبيّكم إليكم في أمري، ‏ولا تخرجوا سلطان محمّد من داره وقعر بيته إلى دوركم وقعر بيوتكم، وتدفعوا أهله عن حقّه ومقامه في ‏النّاس، يا معاشر الجمع إنّ الله قضى وحكم، ونبيّه أعلم، وأنتم تعلمون أنّا أهل البيت أحقّ بهذا الأمر ‏منكم، أما كان منّا القارئ لكتاب الله الفقيه في دين الله، المضطلع بأمر الرّعية، والله إنّه لفينا لا فيكم، فلا ‏تتّبعوا الهوى فتزدادوا من الحقّ بُعدا، وتفسدوا قديمكم بشرّ من حديثكم».‏
فقال بشير بن سعد الأنصاريّ الّذي وطّأ الأمر لأبي بكر، وقالت جماعة الأنصار: يا أبا الحسن لو كان هذا ‏الكلام سمعتْه الأنصار منك قبل الانضمام لأبي بكر ما اختلف فيك اثنان. فقال عليّ(ع): «يا هؤلاء، ‏أكنت أدع رسول‌الله(ص) مسجّى لا أواريه، وأخرج أنازع في سلطانه؟ والله ما خفت أحداً يسمو له ‏وينازعنا أهل البيت فيه، ويستحلّ ما استحللتموه، ولا علمت أنّ رسول‌الله(ص) ترك يوم غدير خمّ ‏لأحد حجّة، ولا لقائل مقالاً، فأنشد الله رجلاً سمع النّبيّ(ص) يوم غدير خمّ يقول: (من كنت مولاه فهذا ‏عليّ مولاه، اللهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله)، أن يشهد بما سمع»، ‏قال زيد بن أرقم: فشهد اثنا عشر رجلاً بدريّاً بذلك، وكنت ممّن سمع القول من رسول‌الله(ص) فكتمت ‏الشّهادة يومئذٍ فذهب بصري، قال: وكثر الكلام في هذا المعنى، وارتفع الصّوت، وخشي عمر أن يُصغى إلى ‏قول عليّ(ع) ففسخ المجلس، وقال: إنّ الله تعالى يقلّب القلوب والأبصار، ولا يزال يا أبا الحسن ترغب ‏عن قول الجماعة، فانصرفوا يومهم ذلك".‏
ومنها: ما ورد أثناء الشّورى المقترحة -وهي شورى السّتة- من عمر بن الخطاب، حيث احتجّ(ع) عليهم ‏في حديث طويل بقوله: «نشدتكم بالله، هل فيكم أحد نصبه رسول‌الله(ص) يوم غدير خم بأمر الله تعالى ‏فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه غيري؟ قالوا: لا». وغيرها كثير من ‏الرّوايات.‏
ثالثاً: لا نسلّم بأنّ المسلمين فهموا عدم المنافاة بين حديث الغدير وبين البيعة لأبي بكر، بل الكثير منهم ‏فهموا بأنّ الإمام عليّ(ع) هو الخليفة بعد النّبيّ(ص) دون غيره، وقد ذكرنا بعضهم في مناقشة الشّاهد ‏الأوّل.‏
رابعاً: إنّ دواعي إخفاء مثل هذه الاحتجاجات الصّادرة من أمير المؤمنين(ع) موجودة بشكل قويّ؛ حيث ‏إنّ هذه الاحتجاجات مخالفة لرأي الحكّام آنذاك، فعدم وصول شيء منها -لو سلّمنا بعدم وصولها- لا ‏يعني عدم صدورها منه(ع)، ولا يعني عدم دلالة حديث الغدير على الخلافة.‏
وأما الشّاهد الرّابع: وهو أنّ تنصيب الإمام عليّ(ع) سوف يسبّب الخلاف والشّقاق بين المسلمين، وأنّه ‏بسبب ذلك سوف يدخل جملة من المسلمين النّار لعصيانهم أوامر النّبيّ(ص)، وهذا يتنافى مع هدف ‏النّبيّ(ص) وهو هداية النّاس والذّهاب بهم إلى الجنّة، وبالتّالي لا يصحّ أن يصدر من النّبيّ(ص) هذا ‏التّنصيب السّياسيّ.‏
فيمكن مناقشته بالتّالي:‏
أوّلاً: يمكن النّقض عليهم بجميع التّكاليف الإلهيّة الّتي جاء بها النّبيّ(ص)، فينبغي ألّا يأتي النّبيّ(ص) ‏بالتّكاليف كالصّلاة والصّوم والحجّ وغير ذلك؛ لأنّ هناك من سيعصي هذه التّكاليف ويذهب إلى النّار، ‏وهذا يتنافى مع هدف النّبيّ(ص) وهو هداية النّاس والذّهاب بهم إلى الجنّة! وهذا ممّا لا يمكن الالتزام ‏به.‏
ثانياً: إنّ المسلم الحقيقيّ لا بدّ أن يُسَلّم بكلّ ما أتى به النّبيّ(ص) من تكاليف، وينقاد للحكم الشّرعيّ، لا ‏أن يُرجّح مصالحه الشّخصيّة على حساب الحكم الشّرعيّ، فالّذي يدّعي أنّ تنصيب الإمام عليّ(ع) خليفة ‏على المسلمين يسبّب الخلاف والشّقاق فهو في الحقيقة لا يلتزم بالتّكليف الشّرعيّ.‏
ثالثاً: إذا لاحظنا مقام النّبيّ(ص) وعظمته، وعلمه وإحاطته بجميع الأمور والخفايا، فهل يأتي مسلم بعد ‏ذلك ويقول بأنّ في تنصيب النّبيّ(ص) للإمام عليّ(ع) خطأ وأنّه يؤدّي للخلاف والشّقاق؟! هل علمُ ‏هؤلاء ومعرفتهم أعلى من علم النّبيّ(ص) ومعرفته؟! وهل أنّ اختيارهم للحاكم سوف يكون أفضل من ‏اختيار النّبيّ(ص)؟! ما لكم كيف تحكمون!‏
رابعاً: هل سلم المسلمون من الخلاف والشّقاق حتّى على القول بأنّ النّبيّ| لم يُنصّب أمير المؤمنين(ع) ‏خليفة وحاكماً على المسلمين، وإنّما جعله إماماً على أمور الدّين؟! بل الخلاف قد حصل ووقع سواء قلنا ‏بهذا التّفسير أم ذاك.‏
خامساً: إنّ الدّنيا دار ابتلاء وامتحان، فليس المطلوب من النّبيّ(ص) أن يذهب بالنّاس إلى الجنّة ‏بالإكراه، بل الإنسان مختار في أمره، فإمّا أن يطيع الله ورسوله ويمتثل التّكاليف الشّرعيّة فيذهب إلى ‏الجنّة، وإمّا أن يعصي الله ورسوله فيذهب إلى النّار، فإنّ القول بأنّ بعض النّاس سوف يعصون ويذهبون ‏إلى النّار لا يعدّ مبرّراً لردّ دلالة حديث الغدير.‏
وأمّا الشّاهد الخامس: وهو تهاون الإمام عليّ(ع) باستلام مقاليد الخلافة، وانشغاله بتجهيز النّبيّ(ص)، ‏وعدم مبادرته لجمع أصحابه واسترداد حقّه -لو كان له حقّ-، بل ورفضه للخلافة بعد مقتل عثمان، ‏واستهانته وتحقيره لهذا المنصب، وأنّ كلّ ذلك عبارة عن شواهد على أنّ النّبيّ(ص) لم ينصّب أمير ‏المؤمنين(ع) خليفة على المسلمين، بل جعله إماماً في أمور الدّين فقط.‏
فيمكن مناقشته بالتّالي:‏
أوّلاً: لا نسلّم بأنّ الإمام(ع) تهاون ولم يتحرّك نحو المطالبة بحقّه؛ فالشّواهد التّاريخيّة كثيرة في ذلك، ‏نذكر منها:‏
‏1) اعتصام الإمام(ع) في بيته مع بعض أصحابه الّذين رفضوا البيعة لأبي بكر، وهذه الحادثة معروفة نقلتها ‏كتب التّاريخ.‏
‏2) ما رواه ابن أبي الحديد عن الإمام الباقر(ع): «أنّ عليّاً حمل فاطمة على حمار وسار بها ليلاً إلى ‏بيوت الأنصار يسألهم النّصرة، وتسألهم فاطمة الانتصار له، فكانوا يقولون: يا بنت رسول‌الله قد مضت ‏بيعتنا لهذا الرّجل، لو كان ابن عمك سبق إلينا أبا بكر ما عدلنا به، فقال عليّ: أكنت أترك رسول‌الله ميتاً ‏في بيته لا أجهزه وأخرج إلى النّاس أنازعهم في سلطانه! وقالت فاطمة: ما صنع أبو حسن إلّا ما كان ‏ينبغي له، وصنعوا هم ما الله حسبهم عليه».‏
حتّى أنّ معاوية أخذ بتعيير الإمام(ع) في رسالته المشهورة، حيث قال: "وأعهدك أمس تحمّل قعيدة ‏بيتك ليلاً على حمار، ويداك في يدي ابنيك الحسن والحسين يوم بويع أبو بكر الصدّيق، فلم تدع أحداً ‏من أهل بدر والسّوابق إلّا دعوتهم إلى نفسك، ومشيت إليهم بامرأتك، وأدليت إليهم بابنيك، واستنصرتهم ‏على صاحب رسول‌الله فلم يجبّك منهم إلّا أربعة أو خمسة، ولعمري لو كنت محقّاً لأجابوك، ولكنّك ‏ادّعيت باطلاً، وقلت ما لا تعرف، ورُمت ما لا يدرك، ومهما نسيت فلا أنسى قولك لأبي سفيان لمّا ‏حرّكك و هيّجك: لو وجدت أربعين ذوي عزم منهم لناهضت القوم، فما يوم المسلمين منك بواحد، ولا ‏بغيك على الخلفاء بطريف ولا مستبدع‏".‏
‏3) عدم مبايعة الإمام عليّ(ع) لأبي بكر إلى أن مضت ستّة أشهر، وقيل إنّه لم يبايع مدّة حياة فاطمة (س).‏
ثانياً: وأمّا بالنّسبة لرفضه(ع) للخلافة بعد مقتل عثمان فهو من باب التّوطئة والتّمهيد لإتمام الحجّة على ‏النّاس، فهو يريد أن يهيّئهم على أنّه لن يسير على سيرة الخلفاء السّابقين، بل سيسير على نهج ‏الرّسول(ص)، وأنّ في ذلك فتناً ومصاعب، فعليكم أن تتحمّلوها.‏
ثالثاً: وأمّا بالنّسبة لاستهانته بمنصب الخلافة، فنحن لو أتممنا الخبر المنقول عنه(ع) لاتّضح لنا أنّ ‏مقصود الإمام(ع) هو الاستهانة بمنصب الخلافة إذا كانت من مناصب الدّنيا والّتي لا تقيم عدلاً بين ‏النّاس، حيث قال في تتمّة الخبر المتقدّم: «..واللّه لهي أحبّ إليّ من إمرتكم إلّا أن أقيم حقّاً أو أدفع ‏باطلاً».‏
وأمّا الشّاهد السّادس: وهو أنّ أصحاب الإمام(ع) قد تولّوا المناصب الإداريّة فترة خلافة الخلفاء الثّلاثة، ‏وكانوا يشاركون في حروبهم، بل أنّ الإمام(ع) بنفسه كان يتعاون مع الخلفاء ويقدّم لهم النّصيحة ‏والمشورة، وهذا شاهد على أنّ أصحاب الإمام(ع) لم يفهموا من التّنصيب في يوم الغدير أنّه التّنصيب ‏للخلافة.‏
فيمكن مناقشته بالتّالي:‏
أوّلاً: إنّ تولّي أصحاب الإمام عليّ(ع) بعض المناصب الحكوميّة لا يعني أنّ النّبيّ(ص) لم ينصّب ‏الإمام(ع) يوم الغدير خليفة على المسلمين، كيف وهؤلاء الأصحاب نفسهم كانوا قد اعترضوا على تولّي ‏أبي بكر لهذا المنصب.‏
ثانياً: أمّا بالنّسبة لتعاون الإمام عليّ(ع) مع الخلفاء فهذا أيضاً لا يعدّ دليلاً على أنّ النبي(ص) لم ينصّبه ‏خليفة على المسلمين، بل إنّ مقتضى حكمة الإمام عليّ(ع) وحرصه على تثبيت دعائم الإسلام هو أن ‏يتعاون مع الخلفاء بالمقدار الّذي يحفظ الإسلام، خصوصاً وأنّ الإسلام كان ما زال طريّاً، والأعداء ‏يتربّصون به من كلّ جانب. وإذا كان الإمام(ع) بنفسه يتعاون مع الخلفاء لحفظ الإسلام فبالتّبع فإنّ ‏أصحابه سيقومون بنفس الدّور، ولا يُستبعد أن يكون ذلك بإذن منه(ع).‏
وأمّا الشّاهد السّابع: وهو أنّ السّيرة العمليّة للأئمّةi‏ كانت على الرّفض من تولّي الخلافة، ممّا يشهد على أنّ ‏الخلافة لم تكن حقّاً لهم، فلا يكون تنصيب النّبيّ| للإمام عليّ(ع) يوم الغدير إلّا تنصيباً للأمور الدّينيّة.‏
فيمكن مناقشته بالتّالي:‏
أوّلاً: إنّ هذا يتعارض مع النصوص الصريحة الصادرة منهمi‏ في أنّ الخلافة هي حقّ من حقوقهم، منها ما ‏عن الإمام الصّادق(ع): «إنّ الإمامة عهدٌ من الله عزّ وجلّ معهودٌ لرجالٍ مُسمّين، ليس للإمام أن يزويها ‏عن الّذي يكون من بعده»، وقوله(ع): «نحن سادة العباد، وساسة البلاد».‏
ثانياً: إنّ ما ورد من رفض الأئمّةi‏ الخروج والثّورة -كما في قضيّة سدير الصّيرفيّ والإمام الصّادق(ع) ‏وغيرها- إنّما كان لأجل عدم تحقّق شرائط الثّورة، وإلّا فلو تحقّقت الشّرائط لما وسعهم القعود كما في ‏الرّواية.‏
ثالثاً: إنّ الأئمّة(ع) تعرّضوا إلى أنواع القتل، والسّجن، والنّفي، والتّشريد، والتّعذيب المعنويّ والجسديّ ‏من قِبَل الحكّام وسلاطين الجور، وما ذلك إلّا لأنّهمi‏ لم يقبلوا بالظّلم ولم يساوموا عليه، فكانوا يشكّلون ‏خطراً كبيراً على تلك الحكومات؛ حيث كانت تراهم يخطّطون لإقامة الخلافة الإسلاميّة الصّحيحة، فكيف ‏يقال بأنّ الأئمّةi‏ كانوا يرفضون تولّي الخلافة، وكانوا يحصرون وظيفتهم بالأمور الدّينيّة؟!‏
رابعاً: أنّ النّبيّ(ص) قد عيَّن جميع الأئمّةi‏ من بعده، وهذا يدلّ على أنّ المسألة محسومة وليست هي ‏شورى، كما في حديث النّبيّ(ص) المتواتر: «لا يزال أمر أمّتي ظاهراً حتّى يمضي اثنا عشر خليفة كلّهم ‏من قريش»، فالإمامة حقّ من حقوقهم، وعدم النّهوض للمطالبة بها إنّما هو لموانع أخرى.‏
▪ خاتمة
اتّضح بما لا مزيد عليه بأنّه لا يمكن استفادة الفصل بين الإمامة الدّينيّة والإمامة السّياسيّة من حديث ‏الغدير، بل ولا من غيره، فكلّ المسلمين لم يكن لديهم هذا الفهم أساساً، فكيف يُحمل هذا الفهم على ‏النّصوص الدّينيّة المرتبطة بالإمامة؟! فهذا الفكر الحداثويّ يراد منه تجريد الإمامة من أهمّ أركانها وهو ‏الخلافة السّياسيّة، وبالتّالي تعود إمامة الإمام محصورة في المساجد، ومن ثمّ يتمكّن الظّالمون والعابثون ‏من فعل كلّ ما يريدونه وكلّ ما يحقّق شهواتهم و ميولاتهم من دون رادع.‏
كما أنّه يمكن -من خلال المناقشات السّالفة الذّكر- الجواب عن الإشكالات الأخرى الموجّهة لبقيّة ‏الرّوايات؛ فنحن قد ذكرنا أهمّ إشكالاتهم وأجبنا عليها، فما يأتي من إشكالات على بقية الرّوايات ليس ‏بأهمّ ممّا ذكرناه، فيمكن الإجابة عليه بما تقدّم.‏
والحمد لله ربّ العالمين.‏
المصدر: مجلة رسالة القلم، العدد 64‏

برچسب ها :
ارسال دیدگاه