□ مقالة / الجزء الثاني والأخیر
حديث الغدير والإشكالات المعاصرة
المناقشة الرّابعة: وهي الّتي ترتبط بقولهم بأنّ حديث الغدير ليس صريحاً في التّنصيب الإلهيّ، وأنّ كلمة (المولى) لها أكثر من معنى في اللغة، ولذا لا ينبغي حمل حديث الغدير على ما يخالف الحقوق الفطريّة للإنسان، بل ينبغي حمله على ما يتوافق معها، وهو الّذي بيّناه من أنّ الإمام عليّ(ع) مولاكم في أمور الدّين فقط.
فنقول: أوّلاً: لا ننكر وجود أكثر من معنى للفظ المولى، فهو تارة يستعمل بمعنى الأولى، كقوله تعالى: {مأواكم النّار هي مولاكم}، وثانية يستعمل بمعنى النّاصر، كقوله تعالى: {ذلك أنّ الله مولى الّذين آمنوا وأنّ الكافرين لا مولى لهم}، وثالثة بمعنى الوارث، كقوله تعالى: {ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون} أي ورثة، ورابعة بمعنى العصبة، كقوله تعالى: {وإني خفت الموالي من ورائي}، وخامسة بمعنى الصّديق، كقوله تعالى: {يوم لا يغني مولاً عن مولاً شيئاً}، وسادسة بمعنى المحبوب والنّاصر، وسابعة بمعنى الأولى بالتّصرّف، كما تقول: (فلان ولي القاصر)، ولكن نقول: من أيّ معنى من هذه المعاني يمكن استفادة الولاية في أمور الدّين فقط؟! لا يوجد أي معنى يدلّ على ذلك.
ثانياً: إنّ المستشكل يدّعي بأنّه لا ينبغي فصل حديث الغدير عن القرائن وعن الأمور الفطريّة الّتي ذكرها، فنقول له: إنّه أيضاً لكي نعيّن المعنى المراد من كلمة (المولى) ينبغي عدم إغفال القرائن المحتفّة بحديث الغدير، فإنّنا إذا دقّقنا في هذه القرائن بإنصاف ومن دون تعصّب سنجد بكلّ وضوح أنّ المراد من كلمة (المولى) هو معنى الأولى بالتّصرّف، وهو المعنى الّذي تقول به الشّيعة.
فمن ضمن تلك القرائن ما يلي:
القرينة الأولى: خشية النّبيّ(ص) من إبلاغ هذا الأمر، حتّى نزلت الآية {يا أيّها الرّسول بلّغ ما أنزل إليك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته والله يعصمك من النّاس إنّ الله لا يهدي القوم الكافرين}، فلو كان النّبيّf سيبلّغ النّاس بأنّ الإمام عليّ(ع) هو محبّكم، أو ناصركم، فلماذا كلّ هذه الخشية؟! فهل كان هذا أمراً خافياً على النّاس أصلاً؟! وهل يكون عدم إبلاغ هذا الأمر بمثابة عدم إبلاغ الرّسالة؟! فهذه القرينة تعيّن أنّ المراد من المولى هو الأولى بالتّصرّف، أي الخليفة.
القرينة الثّانية: يأس الكفّار وإكمال الدّين، فقد قال تعالى في هذا الشّأن: {اليوم يأس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشوني اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}، فلو كان معنى (المولى) هو حبّ الإمام علي(ع) فكيف نفسّر يأس الكفار من القضاء على الدّين؟ ثمّ إنّه أين الملازمة بين حبّ الإمام(ع) وبين إكمال الدّين وإتمام النّعمة؟! فلا يصحّ تفسير هذه الآية إلّا إذا قلنا بأنّ ما حدث كان في غاية الخطورة وهو تنصيب الإمام عليّ(ع) خليفة على المسلمين.
القرينة الثّالثة: فهم الحضور من أنّ كلمة (المولى) قد استعملت بمعنى الأولى بالتّصرّف، أي أنّ أمير المؤمنين(ع) هو الإمام والخليفة بعد النّبيّf، ومنهم الشّاعر حسّان بن ثابت في شعره الّذي رواه اثنا عشر راوياً من العامّة في كتبهم كما ذكر العلّامة الأمينيّ، حيث وصف أمير المؤمنين(ع) بالإمام والهادي، يقول:
إلهك مولانا وأنت نبيّنا
ولم تلقَ منّا في الولاية عاصيا
فقال له: قم يا علي فإنّني
رضيتك من بعدي إماماً وهاديا
وقد علّق عليه العلّامة الأمينيّp بقوله: "هذا أوّل ما عرف من الشّعر القصصيّ في رواية هذا النّبأ العظيم، وقد ألقاه في ذاك المحتشد الرّهيب، الحافل بمائة أو يزيدون، وفيهم البلغاء، ومداره الخطابة، وصاغة القريض، ومشيخة قريش العارفون بلحن القول ومعارض الكلام، بمسمع من أفصح من نطق بالضّاد (النّبي الأعظم) وقد أقرّه النبي| على ما فهمه من مغزى كلامه، وقرّظه بقوله: «لا تزال يا حسّان مؤيّداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك».
القرينة الرابعة: إنّ قراءة الأحداث التي حصلت في يوم الغدير والأفعال التي صدرت من النّبيّ(ص) تعيّن بما لا شكّ فيه أنّ معنى (المولى) هو الأولى بالتّصرّف، أي: الخليفة والإمام.
ولا بأس هنا من نقل بعضٍ من كلام العلّامة السّيّد شرف الدّين في المقام لتتّضح القرائن الّتي كانت محتفّة بحادثة الغدير، حيث قال: "وأنّكم تقدّرون رسولالله(ص) في حكمته البالغة، وعصمته الواجبة، ونبوّته الخاتمة، .. فلو سألكم فلاسفة الأغيار عمّا كان منه يوم غدير خمّ، فقال: لماذا منع تلك الألوف المؤلّفة يومئذ عن المسير؟ وعلى مَ حبسهم في تلك الرّمضاء بهجير؟ وفيم اهتمّ بإرجاع من تقدّم منهم وإلحاق من تأخّر؟ .. ثمّ خطبهم عن الله عزّ وجلّ في ذلك المكان الّذي منه يتفرّقون، ليبلغ الشّاهد منهم الغائب، وما المقتضي لنعي نفسه إليهم في مستهلّ خطابه؟ إذ قال: «يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وإني مسؤول، وإنّكم مسؤولون»، وأيّ أمر يسأل النّبيّ(ص) عن تبليغه؟ وتسأل الأمّة عن طاعتها فيه، ولماذا سألهم فقال:«ألستم تشهدون ألّا إله إلّا الله وأنّ محمداً عبده ورسوله، وأنّ جنّته حقّ، وأنّ ناره حقّ، وأنّ الموت حقّ وأنّ البعث حقّ بعد الموت؛ وأنّ السّاعة آتية لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث من في القبور»، قالوا: بلى نشهد بذلك، ولماذا أخذ حينئذ على الفور بيد علي فرفعها إليه حتّى بان بياض إبطيه؟ فقال: «يا أيّها النّاس إنّ الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين»، ولماذا فسّر كلمته وأنا مولى المؤمنين بقوله: وأنا أولى بهم من أنفسهم؟ .. ولماذا أشهدهم من قبل، فقال: ألست أولى بكم من أنفسكم؟ فقالوا: بلى. فقال: من كنت مولاه، فعليّ مولاه، أو من كنت وليّه، فعليّ وليّه، .. وفيمَ هذا الاهتمام العظيم من هذا النّبيّ الحكيم؟ .. وما الشّيء الّذي أمره الله تعالى بتبليغه إذ قال عزّ من قائل {يا أيّها الرّسول بلِّغ ما أنزل إليك من ربِّك وإن لم تفعل فما بلَّغت رسالته والله يعصمك من النّاس}، وأيّ مهمّة استوجبت من الله هذا التّأكيد؟ واقتضت الحضّ على تبليغها بما يشبه التّهديد؟ وأيّ أمر يخشى النبي الفتنة بتبليغه؟ ويحتاج إلى عصمة الله من أذى المنافقين ببيانه؟
أكنتم -بجدك لو سألكم عن هذا كلّه- تجيبونه بأنّ الله عزّ وجلّ ورسوله|، إنّما أراد بيان نصرة عليّ للمسلمين، وصداقته لهم ليس إلّا؟! ما أراكم ترتضون هذا الجواب، ولا أتوهّم أنّكم ترون مضمونه جائزاً على ربّ الأرباب، ولا على سيّد الحكماء وخاتم الرّسل والأنبياء..".
القرينة الخامسة ولعلّها الأقوى: وهي فهم الإمام عليّ(ع) نفسه، حيث فهم من حديث الغدير تنصيبه للخلافة، ولم ينكر عليه أحد هذا الفهم، وسيأتي ذكر بعض كلماته في هذا الشّأن عند مناقشتنا للشّاهد الثّالث.
المناقشة الخامسة: وهي ترتبط بمجموعة الشّواهد الّتي تمّ ذكرها على مدّعاهم:
أمّا الشّاهد الأوّل: وهو أنّ الصّحابة فهموا من حديث الغدير أنّ تنصيب الإمام عليّ(ع) كان للأمور الدّينيّة، وأمّا أمر الخلافة السّياسيّة فهو متروك للنّاس، ومن البعيد جدّاً -بحسب طبيعة سلوك النّاس- أن يكونوا بأجمعهم قد خالفوا أمر النّبيّ(ص) في هذا الشّأن.
فيمكن مناقشته بالتّالي:
أوّلاً: إنّ هذا الشّاهد يرتبط ببحث عدالة الصّحابة، وقد أشبع علماؤنا هذا البحث في كتبهم، فنحن لا نقول بعدالة الصّحابة حتّى يكون فعلهم حجّة علينا بحيث نضطرّ إلى تأويل النّصّ الصّريح في خلافة أمير المؤمنين(ع).
ثانياً: إذا كان الأصحاب قد فهموا من حديث الغدير الولاية والإمامة الدّينيّة فقط، فلماذا لم يجعلوا الإمام عليّ(ع) إماماً لهم في أمر الدّين؟ ولماذا لم يرجعوا إليه في أمر السّقيفة ليعرفوا موقف الدّين في مسألة تنصيب الحاكم؟!
ثالثاً: من قال بأنّ جميع الأصحاب فهموا من حديث الغدير الإمامة الدّينيّة؟ ألا ترون المعارضين لموقف السّقيفة من أمثال أبي ذر الغفاريّ، وسلمان الفارسيّ، وعبد الله بن عباس، وأبي أيوب الأنصاريّ، وعمّار بن ياسر، وخزيمة بن ثابت، وأبيّ بن كعب، وعثمان بن حنيف، وغيرهم؟! فمعارضتهم لم تكن إلّا لأنّهم قد فهموا من حديث الغدير وغيره من الأحاديث أنّ الإمام عليّ(ع) هو الخليفة بعد النّبيّ(ص) دون غيره.
ثمّ إنّه كيف تفسّر نظريّة عدالة الصّحابة هذا الموقف منهم؟! ألم يكن هؤلاء من الصّحابة أيضاً؟!
وأمّا الشّاهد الثّاني: وهو أنّ النّبيّ(ص) لم يأخذ البيعة من المهاجرين والأنصار للإمام عليّ(ع)، وإنّما بادرت مجموعة منهم لتهنئته(ع).
فيمكن مناقشته بالتّالي:
أوّلاً: لا نسلّم بأنّ النّبيّ(ص) لم يأخذ البيعة للإمام عليّ(ع)، بل الوارد أنّه بعد خطبته(ص) يوم الغدير "نَزَل -وكان وقت الظّهيرة- فصلّى ركعتين، ثمّ زالت الشّمس، فأذَّن مُؤَذّنُه لصلاة الفَرْض، فصَلّى بهم الظّهر، وجلس(ص) في خَيمته، وأمَر علياً أن يجلس في خيمةٍ له بإزائه، ثُمّ أمَرَ المسلمين أن يَدْخُلوا عليه فَوْجاً فَوْجاً فَيُهَنّؤوه بالمقام، ويُسلِّموا عليه بإمْرَة المؤمنين، ففعل النّاسُ ذلك كلُّهم، ثمّ أمَرَ أزواجَه وجميعَ نِساء المؤمنين معه أن يَدْخُلن عليه ويُسَلِّمن عليه بإمْرَة المؤمنين ففَعلنَ.
وكان ممّن أطْنَبَ في تهنئته بالمقام عُمَر بن الخطّاب، فأظْهَر له المسَرّة به وقال فيما قال: بَخٍ بَخٍ يا عليّ، أصبحتَ مَولاي ومَولى كلِّ مُؤمنٍ ومُؤمنةٍ"، فهل هناك من داعٍ لكلّ هذه المبالغة في التّهنئة من وجوه القوم لو كان المراد من أمر النّبيّ(ص) لهم مجرّد الأمر بالمحبّة؟!
ثّانياً: هل أنّ البيعة تمنع من تخلّف القوم بعد النّبيّ(ص) عن أمير المؤمنين(ع)؟! ماذا فعلت البيعة لأمير المؤمنين(ع) بعد مقتل عثمان؟ ألم ينكث طلحة والزّبير البيعة بعد أيّام من وقوعها؟!
وأمّا الشّاهد الثّالث: وهو أنّ الإمام عليّ(ع) عندما طُولب بالبيعة لأبي بكر لم يستشهد بحديث الغدير في مقام احتجاجه، وكذلك لم يفهم المسلمون من حديث الغدير أنّه يتنافى مع بيعة أبي بكر.
فيمكن مناقشته بالتّالي:
أوّلاً: لو سلّمنا بأنّ الإمام عليّ(ع) لم يحتجّ بحديث الغدير حينما طولب بالبيعة لأبي بكر، إلّا أنّه لا ينفي أنّه احتجّ بحديث الغدير في مواطن أخرى، ولا ينفي أنّه احتجّ بأحاديث أخرى تدلّ على تنصيبه للخلافة.
ثانياً: إنّ الإمام علي(ع) قد احتجّ بحديث الغدير في مواطن متعدّدة، منها أثناء مطالبته للبيعة من أبي بكر، ولكنّه(ع) رفض البيعة وقال: «يا معاشر المهاجرين والأنصار، الله الله لا تنسوا عهد نبيّكم إليكم في أمري، ولا تخرجوا سلطان محمّد من داره وقعر بيته إلى دوركم وقعر بيوتكم، وتدفعوا أهله عن حقّه ومقامه في النّاس، يا معاشر الجمع إنّ الله قضى وحكم، ونبيّه أعلم، وأنتم تعلمون أنّا أهل البيت أحقّ بهذا الأمر منكم، أما كان منّا القارئ لكتاب الله الفقيه في دين الله، المضطلع بأمر الرّعية، والله إنّه لفينا لا فيكم، فلا تتّبعوا الهوى فتزدادوا من الحقّ بُعدا، وتفسدوا قديمكم بشرّ من حديثكم».
فقال بشير بن سعد الأنصاريّ الّذي وطّأ الأمر لأبي بكر، وقالت جماعة الأنصار: يا أبا الحسن لو كان هذا الكلام سمعتْه الأنصار منك قبل الانضمام لأبي بكر ما اختلف فيك اثنان. فقال عليّ(ع): «يا هؤلاء، أكنت أدع رسولالله(ص) مسجّى لا أواريه، وأخرج أنازع في سلطانه؟ والله ما خفت أحداً يسمو له وينازعنا أهل البيت فيه، ويستحلّ ما استحللتموه، ولا علمت أنّ رسولالله(ص) ترك يوم غدير خمّ لأحد حجّة، ولا لقائل مقالاً، فأنشد الله رجلاً سمع النّبيّ(ص) يوم غدير خمّ يقول: (من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، اللهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله)، أن يشهد بما سمع»، قال زيد بن أرقم: فشهد اثنا عشر رجلاً بدريّاً بذلك، وكنت ممّن سمع القول من رسولالله(ص) فكتمت الشّهادة يومئذٍ فذهب بصري، قال: وكثر الكلام في هذا المعنى، وارتفع الصّوت، وخشي عمر أن يُصغى إلى قول عليّ(ع) ففسخ المجلس، وقال: إنّ الله تعالى يقلّب القلوب والأبصار، ولا يزال يا أبا الحسن ترغب عن قول الجماعة، فانصرفوا يومهم ذلك".
ومنها: ما ورد أثناء الشّورى المقترحة -وهي شورى السّتة- من عمر بن الخطاب، حيث احتجّ(ع) عليهم في حديث طويل بقوله: «نشدتكم بالله، هل فيكم أحد نصبه رسولالله(ص) يوم غدير خم بأمر الله تعالى فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه غيري؟ قالوا: لا». وغيرها كثير من الرّوايات.
ثالثاً: لا نسلّم بأنّ المسلمين فهموا عدم المنافاة بين حديث الغدير وبين البيعة لأبي بكر، بل الكثير منهم فهموا بأنّ الإمام عليّ(ع) هو الخليفة بعد النّبيّ(ص) دون غيره، وقد ذكرنا بعضهم في مناقشة الشّاهد الأوّل.
رابعاً: إنّ دواعي إخفاء مثل هذه الاحتجاجات الصّادرة من أمير المؤمنين(ع) موجودة بشكل قويّ؛ حيث إنّ هذه الاحتجاجات مخالفة لرأي الحكّام آنذاك، فعدم وصول شيء منها -لو سلّمنا بعدم وصولها- لا يعني عدم صدورها منه(ع)، ولا يعني عدم دلالة حديث الغدير على الخلافة.
وأما الشّاهد الرّابع: وهو أنّ تنصيب الإمام عليّ(ع) سوف يسبّب الخلاف والشّقاق بين المسلمين، وأنّه بسبب ذلك سوف يدخل جملة من المسلمين النّار لعصيانهم أوامر النّبيّ(ص)، وهذا يتنافى مع هدف النّبيّ(ص) وهو هداية النّاس والذّهاب بهم إلى الجنّة، وبالتّالي لا يصحّ أن يصدر من النّبيّ(ص) هذا التّنصيب السّياسيّ.
فيمكن مناقشته بالتّالي:
أوّلاً: يمكن النّقض عليهم بجميع التّكاليف الإلهيّة الّتي جاء بها النّبيّ(ص)، فينبغي ألّا يأتي النّبيّ(ص) بالتّكاليف كالصّلاة والصّوم والحجّ وغير ذلك؛ لأنّ هناك من سيعصي هذه التّكاليف ويذهب إلى النّار، وهذا يتنافى مع هدف النّبيّ(ص) وهو هداية النّاس والذّهاب بهم إلى الجنّة! وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به.
ثانياً: إنّ المسلم الحقيقيّ لا بدّ أن يُسَلّم بكلّ ما أتى به النّبيّ(ص) من تكاليف، وينقاد للحكم الشّرعيّ، لا أن يُرجّح مصالحه الشّخصيّة على حساب الحكم الشّرعيّ، فالّذي يدّعي أنّ تنصيب الإمام عليّ(ع) خليفة على المسلمين يسبّب الخلاف والشّقاق فهو في الحقيقة لا يلتزم بالتّكليف الشّرعيّ.
ثالثاً: إذا لاحظنا مقام النّبيّ(ص) وعظمته، وعلمه وإحاطته بجميع الأمور والخفايا، فهل يأتي مسلم بعد ذلك ويقول بأنّ في تنصيب النّبيّ(ص) للإمام عليّ(ع) خطأ وأنّه يؤدّي للخلاف والشّقاق؟! هل علمُ هؤلاء ومعرفتهم أعلى من علم النّبيّ(ص) ومعرفته؟! وهل أنّ اختيارهم للحاكم سوف يكون أفضل من اختيار النّبيّ(ص)؟! ما لكم كيف تحكمون!
رابعاً: هل سلم المسلمون من الخلاف والشّقاق حتّى على القول بأنّ النّبيّ| لم يُنصّب أمير المؤمنين(ع) خليفة وحاكماً على المسلمين، وإنّما جعله إماماً على أمور الدّين؟! بل الخلاف قد حصل ووقع سواء قلنا بهذا التّفسير أم ذاك.
خامساً: إنّ الدّنيا دار ابتلاء وامتحان، فليس المطلوب من النّبيّ(ص) أن يذهب بالنّاس إلى الجنّة بالإكراه، بل الإنسان مختار في أمره، فإمّا أن يطيع الله ورسوله ويمتثل التّكاليف الشّرعيّة فيذهب إلى الجنّة، وإمّا أن يعصي الله ورسوله فيذهب إلى النّار، فإنّ القول بأنّ بعض النّاس سوف يعصون ويذهبون إلى النّار لا يعدّ مبرّراً لردّ دلالة حديث الغدير.
وأمّا الشّاهد الخامس: وهو تهاون الإمام عليّ(ع) باستلام مقاليد الخلافة، وانشغاله بتجهيز النّبيّ(ص)، وعدم مبادرته لجمع أصحابه واسترداد حقّه -لو كان له حقّ-، بل ورفضه للخلافة بعد مقتل عثمان، واستهانته وتحقيره لهذا المنصب، وأنّ كلّ ذلك عبارة عن شواهد على أنّ النّبيّ(ص) لم ينصّب أمير المؤمنين(ع) خليفة على المسلمين، بل جعله إماماً في أمور الدّين فقط.
فيمكن مناقشته بالتّالي:
أوّلاً: لا نسلّم بأنّ الإمام(ع) تهاون ولم يتحرّك نحو المطالبة بحقّه؛ فالشّواهد التّاريخيّة كثيرة في ذلك، نذكر منها:
1) اعتصام الإمام(ع) في بيته مع بعض أصحابه الّذين رفضوا البيعة لأبي بكر، وهذه الحادثة معروفة نقلتها كتب التّاريخ.
2) ما رواه ابن أبي الحديد عن الإمام الباقر(ع): «أنّ عليّاً حمل فاطمة على حمار وسار بها ليلاً إلى بيوت الأنصار يسألهم النّصرة، وتسألهم فاطمة الانتصار له، فكانوا يقولون: يا بنت رسولالله قد مضت بيعتنا لهذا الرّجل، لو كان ابن عمك سبق إلينا أبا بكر ما عدلنا به، فقال عليّ: أكنت أترك رسولالله ميتاً في بيته لا أجهزه وأخرج إلى النّاس أنازعهم في سلطانه! وقالت فاطمة: ما صنع أبو حسن إلّا ما كان ينبغي له، وصنعوا هم ما الله حسبهم عليه».
حتّى أنّ معاوية أخذ بتعيير الإمام(ع) في رسالته المشهورة، حيث قال: "وأعهدك أمس تحمّل قعيدة بيتك ليلاً على حمار، ويداك في يدي ابنيك الحسن والحسين يوم بويع أبو بكر الصدّيق، فلم تدع أحداً من أهل بدر والسّوابق إلّا دعوتهم إلى نفسك، ومشيت إليهم بامرأتك، وأدليت إليهم بابنيك، واستنصرتهم على صاحب رسولالله فلم يجبّك منهم إلّا أربعة أو خمسة، ولعمري لو كنت محقّاً لأجابوك، ولكنّك ادّعيت باطلاً، وقلت ما لا تعرف، ورُمت ما لا يدرك، ومهما نسيت فلا أنسى قولك لأبي سفيان لمّا حرّكك و هيّجك: لو وجدت أربعين ذوي عزم منهم لناهضت القوم، فما يوم المسلمين منك بواحد، ولا بغيك على الخلفاء بطريف ولا مستبدع".
3) عدم مبايعة الإمام عليّ(ع) لأبي بكر إلى أن مضت ستّة أشهر، وقيل إنّه لم يبايع مدّة حياة فاطمة (س).
ثانياً: وأمّا بالنّسبة لرفضه(ع) للخلافة بعد مقتل عثمان فهو من باب التّوطئة والتّمهيد لإتمام الحجّة على النّاس، فهو يريد أن يهيّئهم على أنّه لن يسير على سيرة الخلفاء السّابقين، بل سيسير على نهج الرّسول(ص)، وأنّ في ذلك فتناً ومصاعب، فعليكم أن تتحمّلوها.
ثالثاً: وأمّا بالنّسبة لاستهانته بمنصب الخلافة، فنحن لو أتممنا الخبر المنقول عنه(ع) لاتّضح لنا أنّ مقصود الإمام(ع) هو الاستهانة بمنصب الخلافة إذا كانت من مناصب الدّنيا والّتي لا تقيم عدلاً بين النّاس، حيث قال في تتمّة الخبر المتقدّم: «..واللّه لهي أحبّ إليّ من إمرتكم إلّا أن أقيم حقّاً أو أدفع باطلاً».
وأمّا الشّاهد السّادس: وهو أنّ أصحاب الإمام(ع) قد تولّوا المناصب الإداريّة فترة خلافة الخلفاء الثّلاثة، وكانوا يشاركون في حروبهم، بل أنّ الإمام(ع) بنفسه كان يتعاون مع الخلفاء ويقدّم لهم النّصيحة والمشورة، وهذا شاهد على أنّ أصحاب الإمام(ع) لم يفهموا من التّنصيب في يوم الغدير أنّه التّنصيب للخلافة.
فيمكن مناقشته بالتّالي:
أوّلاً: إنّ تولّي أصحاب الإمام عليّ(ع) بعض المناصب الحكوميّة لا يعني أنّ النّبيّ(ص) لم ينصّب الإمام(ع) يوم الغدير خليفة على المسلمين، كيف وهؤلاء الأصحاب نفسهم كانوا قد اعترضوا على تولّي أبي بكر لهذا المنصب.
ثانياً: أمّا بالنّسبة لتعاون الإمام عليّ(ع) مع الخلفاء فهذا أيضاً لا يعدّ دليلاً على أنّ النبي(ص) لم ينصّبه خليفة على المسلمين، بل إنّ مقتضى حكمة الإمام عليّ(ع) وحرصه على تثبيت دعائم الإسلام هو أن يتعاون مع الخلفاء بالمقدار الّذي يحفظ الإسلام، خصوصاً وأنّ الإسلام كان ما زال طريّاً، والأعداء يتربّصون به من كلّ جانب. وإذا كان الإمام(ع) بنفسه يتعاون مع الخلفاء لحفظ الإسلام فبالتّبع فإنّ أصحابه سيقومون بنفس الدّور، ولا يُستبعد أن يكون ذلك بإذن منه(ع).
وأمّا الشّاهد السّابع: وهو أنّ السّيرة العمليّة للأئمّةi كانت على الرّفض من تولّي الخلافة، ممّا يشهد على أنّ الخلافة لم تكن حقّاً لهم، فلا يكون تنصيب النّبيّ| للإمام عليّ(ع) يوم الغدير إلّا تنصيباً للأمور الدّينيّة.
فيمكن مناقشته بالتّالي:
أوّلاً: إنّ هذا يتعارض مع النصوص الصريحة الصادرة منهمi في أنّ الخلافة هي حقّ من حقوقهم، منها ما عن الإمام الصّادق(ع): «إنّ الإمامة عهدٌ من الله عزّ وجلّ معهودٌ لرجالٍ مُسمّين، ليس للإمام أن يزويها عن الّذي يكون من بعده»، وقوله(ع): «نحن سادة العباد، وساسة البلاد».
ثانياً: إنّ ما ورد من رفض الأئمّةi الخروج والثّورة -كما في قضيّة سدير الصّيرفيّ والإمام الصّادق(ع) وغيرها- إنّما كان لأجل عدم تحقّق شرائط الثّورة، وإلّا فلو تحقّقت الشّرائط لما وسعهم القعود كما في الرّواية.
ثالثاً: إنّ الأئمّة(ع) تعرّضوا إلى أنواع القتل، والسّجن، والنّفي، والتّشريد، والتّعذيب المعنويّ والجسديّ من قِبَل الحكّام وسلاطين الجور، وما ذلك إلّا لأنّهمi لم يقبلوا بالظّلم ولم يساوموا عليه، فكانوا يشكّلون خطراً كبيراً على تلك الحكومات؛ حيث كانت تراهم يخطّطون لإقامة الخلافة الإسلاميّة الصّحيحة، فكيف يقال بأنّ الأئمّةi كانوا يرفضون تولّي الخلافة، وكانوا يحصرون وظيفتهم بالأمور الدّينيّة؟!
رابعاً: أنّ النّبيّ(ص) قد عيَّن جميع الأئمّةi من بعده، وهذا يدلّ على أنّ المسألة محسومة وليست هي شورى، كما في حديث النّبيّ(ص) المتواتر: «لا يزال أمر أمّتي ظاهراً حتّى يمضي اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش»، فالإمامة حقّ من حقوقهم، وعدم النّهوض للمطالبة بها إنّما هو لموانع أخرى.
▪ خاتمة
اتّضح بما لا مزيد عليه بأنّه لا يمكن استفادة الفصل بين الإمامة الدّينيّة والإمامة السّياسيّة من حديث الغدير، بل ولا من غيره، فكلّ المسلمين لم يكن لديهم هذا الفهم أساساً، فكيف يُحمل هذا الفهم على النّصوص الدّينيّة المرتبطة بالإمامة؟! فهذا الفكر الحداثويّ يراد منه تجريد الإمامة من أهمّ أركانها وهو الخلافة السّياسيّة، وبالتّالي تعود إمامة الإمام محصورة في المساجد، ومن ثمّ يتمكّن الظّالمون والعابثون من فعل كلّ ما يريدونه وكلّ ما يحقّق شهواتهم و ميولاتهم من دون رادع.
كما أنّه يمكن -من خلال المناقشات السّالفة الذّكر- الجواب عن الإشكالات الأخرى الموجّهة لبقيّة الرّوايات؛ فنحن قد ذكرنا أهمّ إشكالاتهم وأجبنا عليها، فما يأتي من إشكالات على بقية الرّوايات ليس بأهمّ ممّا ذكرناه، فيمكن الإجابة عليه بما تقدّم.
والحمد لله ربّ العالمين.
المصدر: مجلة رسالة القلم، العدد 64