مقالة
عاشوراء حياة الأمة الدكتورة ليلى صالح
مقدمة
نقارب ظاهرة اجتماعية تتسم بشخوصها في الماضي بكل تاريخه، وتتجلّى في الحاضر بكل مواقفه ومستقبله، تمظهرت في ظاهرتي التاريخ التضحوي والحاضر الحسيني، بحضورها في الوجدان والذاكرة الجمعية الشيعية فما بعد واقعة الطف ليس كما قبله.
والإنسان بطبيعته الفطرية يتجنّب الحزن والأسى، ويبتعد عن تذكر المآسي فضلًا عن إحيائها، بينما نجده كل عام تقبل مجتمعات الشيعة بكل فئاتها الاجتماعية بانتظار الأربعينية بشوق، لتجدد إحياء المراسم الحسينية متحديةً كل العقبات الصحية والاقتصادية والسياسية، ما يحضر في ذهننا سؤالًا: هل أننا نحن من نحيي عاشوراء أم أن عاشوراء هي تحيينا؟
لا يسعنا أن نرصد كل تجليات الظاهرة العاشورائية، إلا أنه يمكننا تتبع ظواهر متراكمة تدافعت تباعًا لتشكل ظاهرة لحاضرنا بكل توجهاته، ارتبطت بإرادتنا أو دونها بالقضية الحسينية، وشكّلت ظاهرة جهادية استنهضت فينا الروح بعد الموت الاعتباري الذي مثل ركود الأمة وغفلتها.
فقد أسست الشعائرية الحسينية الاجتماعية لحالة حضورية لقضية تضحوية بشكلها المتصاعد برمزية تفاعل القضية الحسينية في نفوس “التضحويين الشعائريين”، وقد أثبتت هذه الظاهرة مسايرتها لكل زمن، وتفاعلت معها على أنها قضية دخلت غوامض النفس الإنسانية وحققت طموحاتها التي لم تحققها أية حركة إصلاحية، مستجيبة لكل متطلبات النفس الإنسانية ومتحركة في ضوء حاجتها الجزئية.
الشهادة ثقافة حياة
كان هدف الحياة الاجتماعية قبل الدعوة المحمدية أفقية تقتصر على الماديات من غزو وسيطرة على المراعي والمياه وغيره، ومع بداية الدعوة المحمدية التي استكملت رسالة التوحيد للأنبياء (ع)، والتحول المجتمعي بتفعيل العلاقات الاجتماعية الإنسانية الهادفة، اتجهت باتجاه عمودي وأخذت منحًى إلهيًّا لخلافة الله على وجه الأرض قائمة على أساس الحق، “فكانت الولادة المباركة للنبي الأكرم (ص) مصدر البركات التي حلّت على جميع أبناء البشر عبر القرون، وأوصلت الأمم والإنسان والإنسانية إلى مصاف العوالم الإنسانية والفكرية والروحية حيث الحضارة السامية والآفاق المنيرة للحياة”، وبقي الصراع القائم عبر التاريخ صراع الجهل والعصبية مقابل الحضارة الإنسانية، مجسّدًا صراع الحق ضد الباطل، وقد اتخذ عبر التاريخ الاجتماعي والعمران البشري مسميات متعددة: إصلاح، ثورة، تقية… بحسب الظروف الموضوعية لكل مرحلة. وكما أن كل ثورة تحتاج إلى مقدمات، من رؤية عقيدية فكرية، وظروف تشمل مقومات القوة ومعطيات ميدانية. شهادة الإمام الحسين (ع) من بدايتها حملت ثقافة الحياة لا الموت، فالإمام الحسين (ع)، قام بثورته لتحيا الأمة بحياة الإسلام المحمدي الأصيل، ولم يكن هدفه فقط الشهادة، إنما الشهادة كانت من نتاج هذه الثورة التي ينظر إليها أهل البيت (ع) على أنها الجميل الذي كرم الله بها أولياءه.
مفهوم الشهادة
الشهادة هي من الكلمات التي يعجز لسان اللغة العربية وغيرها عن تبيانها مفهوميًّا وحتى لغويًّا. فمعناها لم يحُصر بالقتل والموت في سبيل الأفكار والقضايا بحسب ما يتداول به الناس عن مفهوم الشهادة بالعموم، إنما بمعنى أدق تعني الحضور الواعي والإقرار والاعتراف ﴿قَالوُا شَهِدْنَا عَلىَٰ أنْفسِنَا﴾، ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمَّةً وَسَطًا لِتكُونُوا شُهَدَاءَ عَلىَ النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾. لذا، حين نقف عند جواب الفيلسوف البريطاني “برتراند راسل” حين سُئل: هل عندك استعداد أن تموت من أجل أفكارك؟ أجابهم: لا.. لأنني قد أكون مخطئًا؟ ندرك تمامًا الفهم الأدق لمفهوم الشهادة في الإسلام، وفي قول الإمام الخامنئي(دام ظله): "الشهادة هي من إحدى المفاهيم التي لا يوجد لها معنى إلا في الأديان الإلهية". ويربطها بالجوهر الأصلي لكل إنسان، التي هي الروح، ويعتبر إن كان يقال في كل الأمم والأوطان للذي يقتل في سبيل الأهداف الوطنية شهيدًا، ويكرم الوطن ذكراهم ويفتخر بهم شهداء، صنعوا مجد الأمة وتراثها العريق، إلا أن تلك الأهداف الدنيوية تدفن معه وتزول، بذلك كل هدف يقوم على شخص يرتبط به، مع موته يزول الهدف وإن بقي ذكر الشخص، أما الأهداف الإلهية المعنوية التي تقوم على الغيب وإرادة الله عندما يضحي الإنسان في سبيلها، لن يموت الهدف بموت الشخص، بل ستحيا ويحيا الشخص معها، فالهدف لا يقوم بالشخص بل الشخص قائم بالهدف “إن الدماء التي تسقط بيد الله فإنها تنمو”.
المنهج الثوري
المنهج هو الطريق الذي يخطو به الإمام المعصوم في سبيل تأدية تكليفه الإلهي في الدعوة الإلهية، يرتبط المنهج بالظروف المرحلية التي يعيشها كل إمام المرتبطة بأهداف بقاء الدين واستمراره.
فالظروف المرحلية هي التي تحكم كل إمام باستخدام المنهج المناسب لبقاء الرسالة المحمدية وحمايتها، ولا يرتبط استخدام نوع المنهج بشخصية الإمام المعصوم، ما يجعلنا نؤكد بأن المنهج الثوري الذي انتهجه الإمام الحسين (ع) هو يوازي تمامًا منهج الصلح الذي اتخذه الإمام الحسن (ع)، ومنهج التقية الذي اتخذوه باقي أئمتنا (ع)، وهو ذات المنهج الأخلاقي في القيادة، ولا شك بأن الصبر والبصيرة في منهج الصلح والتقية، أصعب من المنهج الثوري الاجتماعي الذي كان تكليف الإمام الحسين (ع).
إن كل البدائل الممكنة والمتصورة للإمام الحسين(ع) لم تكن تحقق الهدف في علاج الحـالة المـرضية التي وصلت إليها الأمة، أبرزها، أزمة أخلاقية القيادة على المستويين الخاص والعام.
وقد وضح الإمام الحسين(ع) من خلال وقوفه مع أخيه وولي أمره الإمام الحسن(ع) لكل المسلمين، الذي لم يكن موقفًا إمضائيًّا، وإنما كـان أسلوبًا تمهيديًّا لثورة كربلاء. حيث إن الإمام الحسين (ع) لم يتحرك للثورة قبل انقضاء مدة الصلح التي نقضها معاوية في عهده للإمام الحسن(ع)، ليؤكد بأن “مشروعية القيادة إنما هي بالاستقامة على المستوى الفردي والاجتماعي، فثار من موقع المسؤولية بعد تشخيصه الموقف الأخلاقي “مثلي لا يبايع مثله”، ويأتي التوقيت الأخلاقي “انقضاء مدة الصلح”، وقد حصر أهداف الثورة بالإصلاح على هدي التعاليم الإسلامية، “وأسير بسيرة جدي وأبي”، في استعادة الإسلام المحمدي الأصيل التي برزت على مستويين:
1. على المستوى العام
الانهيار النفسي: في قراءة سوسيولوجية للواقع الاجتماعي قبيل واقعة الطف، نجد في النصائح التي تلقاها الإمام الحسين(ع) من عقلاء الأمة، سادة المسلمين، بصورة أدق من الأشخاص الذين كان بيدهم الحل والعقد في المجتمع الإسلامي، تعبير عن نـوع مـن الانهيار النفسي الكامل الذي شمل زعماء وسادة المسلمين، فضلًا عن الجماهير التي كانت تـعيش هـذا الانـهيار مضاعفًا في أخلاقها وسلوكها وأطماعها ورغباتها، فهذه السلبية والبرود المطلق بالرغم من قوة المثيرات والتحديات، تعبر عن ذلك الانهيار النفسي الاجتماعي على مختلف المستويات، كما تعبّر عن عمق المرض الانهزامي أو الركود في جسم الأمة، ما استوجب أن تـكون التضحية عظيمة “تقديم المعصوم نفسه وأهل بيته وأصحابه قرابين”، لتكافىء درجة عمق هذا المرض في معالجة الأمة لتستفيق من غفلتها، إنقاذًا للدعوة الإسلامية من العودة للعصبية الجاهلية التي لم يغفلها الحكم الأموي في شعاراته، من هنا كان الإسلام محمدي الوجود حسيني البقاء.
أخلاقية الهزيمة: نستخلص من كلمة “هانيء بن عروة” لشريح القاضي وهو سجين ابن زياد “لو أن عشرة يهجمون على القصر الآن لأنقذوني”، بأنه لو أن عشرة فقط كانوا مستعدين لأن يموتوا فـي سبيل اللّه لتغيّر وجه الكوفة يومئذٍ، ما يدلل بأن الأمة تفتقد إلى الشـجاعة والإرادة، كنوع من أنواع أخلاقية الهزيمة التي تصطنعها الأمة لتبرر هزيمتها حينما تهُزم، حيث تنسج مفاهيمًا وقيمًا وأهدافًا تجد تبريرًا أخلاقيًّا ومنطقيًّا وحتى فكريًّا، وما يلبث أن تصبح أخلاقية هذه الهزيمة قوة كبيرة جدًّا بيد صانعي هذه الهزيمة لإبـقائها وتعميقها وتوسيعها، ويـصبح العـمل الشجاع والاهتمام بما يقع على الإسلام والمسلمين من مصائب وكوارث تهورًا، ولاتعقّل. وما أشبه الأمس باليوم في دعوة الإمام الخميني (قد) لاستنهاض الأمة الإسلامية “لو اجتمع المسلمون وألقى كل واحد منهم دلوًا من الماء على “إسرائيل” لجرفها السيل، ولكن مع ذلك نرى أنهم عاجزون أمامه” واليوم بالرغم من اعتراف الصهاينة بهزيمتهم في “الحرب الثانية” حرب تموز على لبنان 2006، وتداعيات فشل المشروع الأمريكي الصهيوني في منطقتنا بعد الحرب على سوريا والعراق واليمن، وتقدم محور المقاومة نجد تهافت سلطات دول عربية للتطبيع مع العدو الصهيوني، وهذا له دلالة واحدة هو هزيمة الإرادة في داخلهم. وأعجب مظهر من مظاهر انهيار الأمة هـي ظاهرة التناقض بين قلب وعواطف الأمّة وعملها، الذي عبّر عنه الفرزدق بقوله للإمام الحسين(ع): “إن قلوبهم معك وسيوفهم عليك”، ومرد هذا التناقض إلى فقدان الإرادة؛ فالشخص الذي لا يملك إرادته، تتحرك يده على خلاف قلبه وعاطفته، لهذا كنا نـراهم يـبكون ويقتلون الإمام الحسين(ع)، لأنهم يشعرون بأنهم بقتلهم للإمام الحسين(ع) يقتلون مجدهم، وآمالهم، والبقية الباقية التي كـان يـعقد عليها كل الواعين من المـسلمين الأمـل في التخلص من الظلم القائم، وإعادة الحياة إلى الإسلام.
التحولات المجتمعية: برزت تحولات مجتمعية على إثر معاملة الأرقاء والعبيد والتميزات العرقية بين العرب والأعاجم في شتى الميادين، ومعاملة أهل البلاد المفتوحة وغير ذلك، وبعد عودة الصراعات العبثية كالصراع القيسي المضري، مظاهر للملك العضوض وهو الحكم الجبري والجبروتي الذي أصاب الرعية فيه العسف والظلم منذ تولي معاوية الحكم، وبعد نكسه الصلح لأكثر من مرة مع الإمام الحسن (ع)، كل هذه المظاهر المجتمعية كانت تهدد المجتمع الإسلامي في عمقه بتحولات نمطية سلوكية بالعودة إلى الأنمطة القبلية الاجتماعية، فضلًا عن التحول السياسي في نمط الحكم من الحكم القيادي الإلهي للرسول (ص) والأئمة (ع)، إلى الحكم الملكي بالتوريث الجبري، فوصل الخطر على الإسلام باتجاهين: اتجاه سياسي عصبي جاهلي، واتجاه اجتماعي بتفشي البدع.
2. على المستوى الخاص
استبطن سلوك الإمام الحسين(ع) في الطف مسؤولية القيادة الأخلاقية اتجاه نفسه والآخرين، فهو لم ينتظر حشد وتأييد النخب ليخرج للحرب، ولم يخرج ليحمل عن الناس أوزارهم فيضحي بنفسه تكفيرًا عن إتيانهم المنكر، بل خرج ليستنهض في الأمة مسؤولية مواجهة الظلم، وبرز ذلك من تكثيف الخطابات الاستنهاضية التي وجهها لجيش يزيد المعتدي، المخاطبة للعقل والشعور لتبقى حاضرة في وجدان الأمة تستنهض في هذا الوجدان القيم الأخلاقية والمسؤوليات الاجتماعية مهما كلف الأمر من التضحيات في أي زمان ومكان يسود الظلم والطاغوت في المجتمع.
في تحريضه للعقل على المواجهة من خلال رؤية الحق: “إن هذه الدنيا قد تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها”، “ألا ترون بأن الحق لا يعمل به وأن الباطل لا يتناهى عنه”، إلى استنهاض قيمهم الإنسانية “إن لم يكن لكم دين، فكونوا أحرارًا في دنياكم”.
دعوة للاقتداء: وضوح الهدف مع اختيار منهج إصلاح ثوري بعد منهج الإصلاح السلمي، إذا صح التعبير، “لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ولا ظالمًا ولا مفسدًا إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي”، هذا التحريض يشكّل قوة ضاغطة توجه العقل الجمعي لتقرير هذه القضية لينتج قضية مشابهة بمحاكاة لقضيتها إذا تطابقت ظروفها، مما يجعل هذا النهج الثوري “قدوة” في المراحل اللاحقة، نستلهمه من كلمة الإمام الخميني (قد) "كل ما لدينا من كربلاء".
هذا البعد القيادي الأخلاقي تفتقده القيادات العالمية المعاصرة بانتهاجهم منهج النفعية الأداتية في كل الميادين حتى الإنسانية منها، وتداعيات هذا المجتمع تطال كل مجتمعات العالم لتأثيرهم وسطوتهم على دول العالم والتحكّم بمقدراتها من جهة، ولأن كل ما يظهر في القمة لا يبقى في مكانه، بل ينتشر ليملأ ما حوله، وإن فسد من يقع على رأس السلطة انتشر الفساد وشمل كل الأرض. فعلى مستوى الأمة نجد مجتمعاتنا أمام أزمة أخلاقية حقيقية مع تفشي الفساد المجتمعي بما يهدّد مستقبل الإنسانية جمعاء، وهنا يبرز تكليفنا بالحد الأدنى لاستعادة القيادة الأخلاقية على المؤسسات المحلية كقيادة العائلة والمؤسسات العامة والخاصة التربوية والإعلامية وغيرها كأضعف الإيمان، من منظار عاشوراء الإمام الحسين (ع)، وذلك بتفعيل آليات العقل والوعي الأخلاقي المكمّل لدور العقل لاستعادة الثقة بقيمنا الأصيلة في محاكمة واقعنا، وتقييم أمور الفساد والغش والرشوة وقضايا الحق والباطل ومبدأ العدل والظلم، الذي أصبح نمط عالمي مجتمعي مقبول ومطلوب.
المصدر: معارف الحکمیة
برچسب ها :
ارسال دیدگاه