مقالة
المعالم الفكرية والعلمية لمدرسة السيد الشهيد محمد باقر الصدر
إطلالة على مدرسة الشهيد الصدر الفلسفية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على قائد البشرية الصالحة أبي القاسم محمد وعلى آله الهداة الميامين.
أمَّا بعد… فلقد شاءت الأقدار أنْ تخرج هذه الأسفار الجليلة من تقريرات سيدنا الشهيد آية الله العظمى السيد الصدر(قد) في مثل هذه الظروف العصيبة، التي ألمت بعالمنا الإسلامي، بعد قيام الثورة الإسلامية المباركة في إيران الإسلام بقيادة إمام الأمة آية الله العظمى السيد الخميني ـ مدّ ظله ـ.
هذه الظروف التي جاءت نتيجة تكالب قوى الكفر والاستكبار العالمي، وتحالفها في التصدّي، والمواجهة للمدّ الإسلامي الظافر، الذي كان لسيدنا الشهيد ـ (قد) ـ الدور الأساس في ترسيخ دعائمه، وإرساء قواعده على الصعيدين الفكري والعملي في العالم الإسلامي أجمع، وفي العراق على وجه الخصوص. حتى توَّج حركة الإسلام ببذل دمه الزاكي، الذي كان أغلى دماء هذا العصر. اُريق في سبيل اعلاء كلمة الحق ومواجهة الطغاة والظالمين. فكان بحق سيد شهداء عصره، اسوةً بجدّه سيد الشهداء(ع).
والحقيقة انَّ استيعاب أبعاد عظمة هذا العالم الرباني العامل لا يتيّسر لأحد في مثل هذه الدراسة العاجلة ولكن ذلك لا يعفينا من التعرّض لأبرز معالم مدرسته العلمية والفكرية، التي أنشأها، وخرَّج على أساسها جيلاً من العلماء الرساليين والمثقفين الواعين والعاملين في سبيل الله المخلصين. رغم قصر حياته الشريفة التي ابتلاه الله فيها بما يبتلي به العظماء من الصديقين والشهداء والصالحين.
وفيما يلي أهم مميزات هذه المدرسة، التي ستبقى رائدة وخالدة في تاريخ العلم والإيمان معاً.
*1ـ الشمول والموسوعيّة:
اشتملت مدرسة شهيدنا الراحل على معالجة كافة شعب المعرفة الإسلامية والإنسانية. فهي متعددة الأبعاد والجوانب، ولم تقتصر على الاختصاص بعلوم الشريعة الإسلامية من الفقه والأصول فحسب، رغم انَّ هذا المجال كان هو المجال الرئيس والأوسع من انجازاته وابتكاراته العلمية . فاشتملت مدرسته على دراسات في الفقه، وأصول الفقه، والمنطق، والفلسفة، والعقائد والعلوم والقرآنية، والاقتصاد، والتاريخ، والقانون، والسياسة المالية والمصرفية، ومناهج التعليم والتربية الحوزويّة، ومناهج العمل السياسي وأنظمة الحكم الإسلامي، وغير ذلك من حقول المعرفة الإنسانية والإسلامية المختلفة.
وقد جاءت هذه الشمولية نتيجة لما كان يتمتّع به إمامنا الشهيد من ذهنية موسوعية وعملاقة، يمكن اعتبارها فلتة يحظى بها تاريخ العلم والعلماء بين الحين والآخر، والتي تشكّل كلّ واحدة منها على رأس كلّ عصر منعطفاً تأريخيّاً جديداً في توجيه حركة العلم والمعرفة وترشيدها. فلقد كان(ره) آية في النبوغ العلمي، واتساع الأفق، والعبقرية الفذة. وقد سطعت منذ طفولته، وبداية حياته،
وتحصيله العلمي، كما شهد بذلك أساتذته، وزملاؤه، وتلاميذه، وكلّ من اتصل به بشكل مباشر، أو التقى به من خلال دراسة مصنفاته وبحوثه القيمة.
*2ـ الاستيعاب والاحاطة:
من النقاط ذات الأهمية الفائقة في اتصاف النظرية، أيّة نظرية، بالمتانة والصحة مدى ما تستوعبه من احتمالات متعددة، وما تعالجه من جهات شتّى مرتبطة بموضوع البحث. فإنّ هذه الخصيصة هي الأساس الأول في انتظام الفكر والمعرفة في أي باب من الأبواب، بحيث يؤدّي فقدانها إلى أنْ تصبح النظرية مبتورة، ذات ثغرات ينفذ من خلالها النقد والتفنيد للنظرية. وهذه الميزة أيضاً كان يتمتّع بها فكر السيد الشهيد(قد) بدرجة عالية، فإنّه لم يكن يتعرّض لمسألة من المسائل العلمية سيّما في الأصول والفقه، إلاّ ويذكر فيها من الصور والمحتملات ما يبهر العقول. وهذا هو جانب الاستيعاب والاحاطة المعمقة في فكره…
وقد ظهرت هذه السمة العلمية، وهذه الخصيصة، حتى في أحاديثه الاعتيادية. فكان عندما يتناول أي موضوع، ومهما كان بسيطاً واعتيادياً، يصوغه صياغة علمية، ويخلع عليه نسجاً فنياً، ويطبعه بطابع منطقي مستوعب لكل الاحتمالات والشقوق، حتى يخيل لمن يستمع إليه انَّه امام تحليل نظرية علمية تستمد الأصالة والقوة والمتانة من مبرراتها وأدلتها المنطقية.
*3ـ الابداع والتجديد:
انَّ حركة العلوم والمعارف البشرية وتطورها ترتكز على ظاهرة التجديد، والابداع، التي تمتاز بها أفكار العلماء، والمحققين في كل حقل من حقول المعرفة. وقد كان سيدنا الشهيد(قد) يتمتع في هذا المجال بقدرة فائقة على التجديد وتطوير ما كان يتناوله من العلوم والنظريات، سواءٌ على صعيد المعطيات، أو في الطريقة والاستنتاج. ولقد كان من ثمرات هذه الخصيصة انَّه استطاع أنْ يفتح آفاقاً للمعرفة الإسلامية لم تكن مطروقة قبله. فكان هو رائدها الأول، وفاتح أبوابها، ومؤسس مناهجها، وواضع معالمها، وخطوطها العريضة، وستبقى المدرسة الإسلامية مدينة لهذه الشخصية العملاقة في هذه الحقول. وخصوصاً في بحوث الاقتصاد الإسلامي، ومنطق الاستقراء، والتاريخ السياسي لأئمة أهل البيت(ع).
*4ـ المنهجية والتنسيق:
ومن معالم فكر سيدنا الشهيد منهجيته الفنية الفريدة، والمتماسكة لكلّ بحث كان يتناوله بالدرس والتنقيح. ومن هنا نجد انَّ طرحه للبحوث الاصولية والفقهية يمتاز عن كافة ما جاء في دراسات وبحوث المحققين السابقين عليه من حيث المنهجية والترتيب الفني للبحث. فتراه يفرز الجهات والجوانب المتداخلة والمتشابكة في كلمات الآخرين، خصوصاً في المسائل المعقّدة، التي تعسر على الفهم ويكثر فيها الإلتباس والخلط، ويوضح الفكرة، وينظمها، ويحللها بشكل موضوعي وعلمي لا يجد الباحث المختص نظيره في بحوث الآخرين. كما كان يميّز بدقة طريقة الاستدلال في كلّ موضوع، وهل انَّها لابدَّ وأنْ تعتمد على البرهان أو انّها مسألة استقرائية ووجدانية؟. ولم يكن يقتصر على
دعوى وجدانية المدعى المطلوب اثباته فحسب، بل كان يستعين في اثارة هذا الوجدان واحيائه في نفس الباحثين من خلال منهج خاص للبحث، وهو منهج اقامة المنبهات الوجدانية عليه…
وهذه نقطة سوف نواجهها بوضوح في دراستنا الأصولية القادمة.
*5ـ النزعة المنطقية والوجدانية:
ومن معالم فكر سيدنا الشهيد نزعته المنطقية والبرهانية في التفكير والطرح في الوقت الذي كانت تلك المعطيات البرهانية تنسجم وتتطابق مع الوجدان وتحتوي على درجة كبيرة من قوة الاقناع وتحصيل الاطمينان النفسي بالفكرة، فلم يكن يكتفي بسرد النظرية بلا دليل أو كمصادرة، بل كان يقيم البرهان مهما أمكن على كل فرضية يحتاج إليها البحث حتى ما يتعسّر صياغة برهان موضوعي عليه كالبحوث اللغوية والعقلائية والعرفية، وهذه السمة جعلت آراء ومعطيات هذه المدرسة الفكرية ذات صبغة علمية ومنطقية فائقة، يتعذّر توجيه نقد إليها بسهولة. كما جعلتها أبلغ في الاقناع والقدرة على افهام الآخرين وتفنيد النظريات والآراء الأخرى. وجعلتها أيضاً قادرة على تربية فكر روادها وبنائه بناءاً منطقياً وعلمياً، بعيداً عن مشاحة النزاعات اللفظية أو التشويش والخبط واختلاط الفهم، الخطر الذي تمنى به الدراسات والبحوث العلمية والعقلية العالية في أكثر الأحيان.
وفي الوقت نفسه لم يكن يتمادى هذا الفكر البرهاني المنطقي في اعتماد الصياغات والاصطلاحات الشكلية، التي قد تتعثر على أساسها طريقة تفكير الباحث فيبتعد عن الواقع ويتبنى نظريات يرفضها الوجدان السليم. خصوصاً في البحوث ذات الملاك الوجداني والذاتي، التي تحتاج إلى منهج خاص للاستدلال والاقناع. فكنت تجده دوماً ينتهي من البراهين إلى النتائج الوجدانية، فلا يتعارض لديه البرهان مع مدركات الوجدان الذاتي السليم في مثل هذه المسائل، بل كان على العكس يصوغ البرهان لتعزيز مدركات الوجدان، وكان يدرك المسألة أولاً بحسِّه الوجدان والذاتي ثمَّ كان يصوغ في سبيل دعمها علمياً ما يمكن من البرهان والاستدلال المنطقي. ومن هنا لا يشعر الباحث بثقل البراهين وتكلفها أو عدم تطابقها مع الذوق والحسّ الوجداني للمسألة، الأمر الذي وقع فيه الكثير من الأصوليين والفقهاء المتأثرين بمناهج العلوم العقلية الأخرى.
وقد استطاع هذا الفكر العملاق على أساس التوفيق بين خصيصته المنطقية والعلمية في الاستدلال وبين مراعاة المنهجية الصحيحة المنسجمة مع كلّ علم أنْ يتناول في كلّ حقل من حقول المعرفة المنهج العلمي المناسب مع طبيعة ذلك العلم من دون تأثر بالمناهج الغريبة عن ذلك العلم وطبيعته. وهذه خصيصة أساسية سوف نواجهها بجلاء أيضاً في الدراسات الأصولية القادمة.
*6ـ الذوق الفني والإحساس العقلائي:
الذوق حاسة ذاتية في الإنسان يدرك على أساسها جمال الأمور وتناسقها. والذهنية العقلائية هي الأخرى التي يدرك بها الإنسان الطباع والأوضاع والمرتكزات التي ينشأ عليها العرف والعقلاء، ويبني على أساس منها الكثير من النظريات والأفكار في مجال البحوث المختلفة كالدراسات التشريعية والقانونية الأدبية. وهي في الأعم الأغلب مجالات للبحث لا يمكن اخضاعها للبراهين
المنطقية أو الرياضية أو التجريبية، وإنمّا تحتاج إلى حاسة الذوق الفني والذهنية العقلائية والحسّ العرفي الأدبي. ونحن نجد في مدرسة السيد الشهيد الصدر(قد) التمييز الكامل بين هذه المجالات وغيرها في العلوم والمعارف ونجد انّه(قد) كان يتناول المسائل في المجال الأول بالاعتماد على الذوق الموضوعي والادراك العقلائي المستقيم حتى استطاع أنْ يضع المنهج المناسب في هذه المجالات وأنْ يؤسس طرائق الاستدلال الذوقي والعقلائي، ويؤصل قواعدها ومرتكزاتها، خصوصاً في البحوث الفقهية التي تعتمد الاستظهارات العرفية أو المرتكزات العقلائية، فابدع نهجاً فقهياً موضوعياً في مجال الاستظهار الفقهي خرجت على أساسه الاستظهارات من مجرد مدعيات ومصادرات ذاتية إلى مدعيات ونظريات يمكن تحصيل الإقناع والاقتناع فيها على أسس موضوعية.
وتحسن الاشارة إلى أنَّه قلّما تجتمع النزعة البرهانية المنطقية في الاستدلال، مع الذوق الفنّي والحسّ العقلائي والذهنية العرفية في شخصية علمية واحدة. فاننا نجد انَّ العلماء الذين مارسوا المناهج العقلية والبرهانية من المعرفة وتفاعلوا مع تلك المناهج وطرائق البحث قد لا يحسّون بدقائق النكات العرفية والذوقية والعقلائية، ولا يبنون معارفهم وأنظارهم إلاّ على أساس تلك المصطلحات البرهانية، التي اعتادوا عليها في ذلك البحث العقلي. وكذلك العكس فالباحثون في علوم الأدب والقانون وما شاكل نجدهم لا يجيدون صناعة البرهنة والاستدلال المنطقي، ولكن نجد انَّ مدرسة سيدنا الشهيد قد امتازت بالجمع بين هاتين الخصيصتين اللتين قلّما تجتمعان معاً وتمكنت من التوفيق الدقيق فيما بينهما، واستخدام كلّ منهما في مجاله المناسب والسليم، دون تخبط أو اقحام ما ليس منسجماً.
*7ـ القيمة الحضارية لمدرسة السيد الشهيد الصدر:
لقد كان سيدنا الشهيد الصدر تحدياً حضارياً معاصراً، وكانت من مميزات مدرسته أنَّها استطاعت التصدّي لنسف اُسس الحضارة المادية لانسان العصر الحديث، وان يُقدم الحضارة الاسلامية شامخة على أنقاض تلك الحضارة المنسوفة. وعلى أسس علمية قويمة وضمن بناء شامل ومتماسك ومتين استطاع سيدنا الشهيد من خلاله أن ينزل إلى معترك الصراع الفكري الحضاري كأقوى وأمكن من خاض غمار هذا المعترك ووفق لتنفيد كلّ مزاعم ومتبنيات الحضارة المادية المعاصرة، وآنْ يخرج من ذلك ظافراً مظفراً وبانياً لصرح المدرسة الإسلامية العتيدة والمستمدة من منابع الإسلام الأصيلة والمتصلة بوحي السماء ولطف الله بالإنسان.
هذه نبذة مختصرة عن معالم مدرسة هذا المرجع والفيلسوف والعارف الربّاني والمجاهد الشهيد التي أسسها وأشادها لبنة لبنة بفكره ونماها مرحلة مرحلة بجهوده العلمية المتواصلة وهي تعبر بمجموعها عن البعد العلمي، الذي هو أحد أبعاد هذه الشخصية العظيمة الفريدة في تاريخنا المعاصر.
أجل سيدي الأستاذ فإنَّ لساني لَيكل عن استيعاب كلّ أبعاد شخصيتك وانَّ قلمي ليعجز عن رسم مناقبك وفضائلك القدسية، التي تفوق آفاق ذهني الضيق وقدرتي المحدودة. فعذراً سيدي إنْ اقتصرت على جانب واحد من جوانب عظمتك، ذلك الجانب الذي عشت معه ردحاً طويلاً من الزمن وعرفته معرفة مباشرة وتغذيت من ينبوعه الثرّ ما وسعني التزود العلمي والفكري والروحي. ولعلَّ الله
يوفقني لعرض ما يمكنني استعراضه من الجوانب الأخرى من حياتك المباركة وجهادك المقدس وتقواك وخصالك الحميدة وزهدك في دنياك واستعدادك للتضحية في كل وقت من أجل رسالتك وأمتك ودورك القيادي في حمل أعباء الإسلام الذي ختمته ببذل دمك الزاكي في سبيل رسالتك، فكم كنت عظيماً سيدي! وكم كنت موفقاً من قبل الله سبحانه وتعالى لكل منقبة ولكل بطولة وعظمة! فسلام الله عليك أيّها الإمام الشهيد يومَ ولدت، ويوم نشرت الحق وأسست أصول العلم والايمان، ويوم جاهدت ودافعت عن كرامات هذه الأمة، ويوم اُستشهدت بيد أرذل خلق الله في هذا العصر ويوم تبعث حيّاً مع جدك الحسين وسائر الشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
السيد محمود الهاشمي
المصدر: مرکز الأبحاث والدراسات التخصصیة للشهید الصدر