هفته‌نامه سیاسی، علمی و فرهنگی حوزه‌های علمیه

نسخه Pdf

 الخطابُ الديني والوظيفة الاجتماعية

□ مقالة/ الجزء الثاني

 الخطابُ الديني والوظيفة الاجتماعية

□  الشيخ حسن الصفار

الانتباه: الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي «الآفاق» بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
مدى مسؤولية الخطاب الديني
وهنا نتساءل عن مدى مسؤولية الخطاب الديني عن هذا الواقع؟
يبدو جلياً أنّ هناك من يحمّل الخطاب الديني فوق طاقته وقدرته، فالتخلف في المجتمعات الإسلامية نتاج عدة عوامل وأسباب، سياسية واقتصادية وتعليمية واجتماعية، ولا يصح أبداً ترك كل هذه العوامل جانباً، وتحميل الخطاب الديني والمؤسسة الدينية مسؤولية الواقع الذي تعيشه هذه المجتمعات، لأن هذا الواقع انما يُعالج ضمن مسار سياسي واقتصادي واجتماعي شامل، وهذه المشاكل تحتاج إلى مؤسسات ذات قدرة وسلطة للتصدي لمعالجتها.
نعم إن الخطاب الديني يتحمل مسؤولية بحجم إمكاناته ضمن حدودٍ معينة، ولا يُمكن تحميله كل مآسي الأمة والمجتمع، لذا نجد أن الله تعالى لم يكلّف الأنبياء بتغيير مجتمعاتهم، لأن عملية التغيير تحتاج إلى استجابة الناس في مختلف مجالات الحياة، وآيات القرآن الحكيم في مواضع عديدة تؤكد أنّ الأنبياء ليسوا مسؤولين عن واقع مجتمعاتهم، إلا ضمن حدود التبليغ وتوجيه الناس الى طريق الهداية والصواب، أما التغيير الفعلي فهو رهن بمدى استجابة المجتمع وانقياده، يقول تعالى: [وَأَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ] [سورة المائدة، الآية: 92]، [مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّـهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ]. [سورة المائدة، الآية: 99]
فانطلاقاً من الآيات الكريمة تتجلى لنا مسؤولية الخطاب الديني وهي البلاغ المبين، بإيصال التعاليم والرسالة الإلهية بوضوح للمجتمع، ودعوة الناس إلى مواجهة الانحراف والفساد في حياتهم، وإرشادهم إلى طريق الخير والصلاح، وبذلك يكون تقويم الخطاب الديني على أساس مدى تحمله لهذه المسؤولية وأدائها، أما تحميل الخطاب الديني واقع المجتمع ومآسيه ومشاكله فهذا ليس نقدًا موضوعياً.
ترشيد وتطوير الخطاب الديني
الخطاب الديني مؤثر في المجتمع، بل ليس هناك خطابٌ أكثر منه تأثيراً في نفوس المتدينين، ويمكن للخطاب الديني أن يؤدي دوراً كبيراً في نهوض مجتمعاتنا، وإنجاز التنمية في أوطاننا، لأنه يحرك الدوافع الذاتية للإنسان، ويجعله أكثر التزاما بالقيم والمبادئ، وأكثر حرصاً على العمل والعطاء، ويتوقف ذلك على مستوى هذا الخطاب وتوجهاته واهتماماته، بأن يكون في مستوى الاستجابة للتحديات والهموم التي تعيشها هذه المجتمعات، وأن يكون رشيداً، وبلغة معاصرة يفهمها ويتفاعل معها إنسان اليوم، وبذلك يستحق هذا الخطاب صفة (البلاغ المبين) حسب تعبير القرآن الكريم.
ويكون للخطاب الديني دور سلبي خطير حين يصدر من جهات متطرفة متزمتة، وقد عانت الأُمّة منذ بداية تاريخها من دور هذه الجهات المغالية في الدين، وهو ما حذر منه القرآن الكريم يقول تعالى: [يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّـهِ إِلَّا الْحَقَّ] [سورة النساء، الآية: 171]، ومن هؤلاء الغلاة: الخوارج في الماضي، والجماعات المتطرفة المنتسبة للدين في الحاضر، فقد كان خطابهم مدمّراً للمجتمعات والأوطان.
وتكمن المشكلة أن بعض مَن يُنتجون الخطاب الديني يركزون على بعض النصوص الدينية، بعيداً عن المنظومة المتكاملة للدين، فتتضخم لديهم بعض الجوانب في الفكر الديني، ويفهمونها بخلاف حقيقتها وخارج سياقها، ويركزون عليها، متغافلين عن الجوانب الأخرى في الدين، لذلك ورد عن النبي : «لَيْسَ يَقُومُ بِدِينِ اَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلاَّ مَنْ حَاطَهُ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ»، وعنه : «إنَّ دينَ اللّهِ تَعالى لَن يَنصُرَهُ إلّا مَن حاطَهُ مِن جَميعِ جَوانِبِهِ».
فتجد مثلًا من يهتم بموضوع الآخرة مركزاً عليه اهتمامه، وفي كلِّ مجلسٍ يتحدث عن الموت والقبر والحساب والصراط، دون التطرُّق لأمور الدنيا التي يوليها الدين اهتماماً موازيًا، يقول تعالى: [وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّـهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا] [سورة القصص، الآية:77]
وورد عن الإمام موسى الكاظم: «اعْمَلْ لِدُنْيَاكَ كَأَنَّكَ تَعِيشُ أَبَداً، وَاِعْمَلْ لآِخِرَتِكَ كَأَنَّكَ تَمُوتُ غَداً».
وحين نتحدث عن حقوق الله على العباد، ينبغي ألا نغفل حقوق الناس لأنها من الدين أيضاً، فهذا أمير المؤمنين علي  يقول: «جَعَلَ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ حُقُوقَ عِبَادِهِ مُقَدِّمَةً لِحُقُوقِهِ، فَمَنْ قَامَ بِحُقُوقِ عَبَّادِ اَللَّهِ كَانَ ذَلِكَ مُؤَدِّياً إِلَى اَلْقِيَامِ بِحُقُوقِ اَللَّهِ».
إن ديننا الحنيف شاملٌ لكلِّ مناحي الحياة بتوازن واعتدال، كما أكد على التوحيد لله تعالى أكدّ على حرية الإنسان، وحين فرض الجهاد وضع أساس السلم والسلام، وحين حثَّ على التبري من أعداءِ الله وأعداء رسوله، وأعداء أهل البيت، حثَّ على حفظ وحدة الأمة، وعلى التقيّة والمداراة، والتعامل بعدل وإحسان مع الآخرين، وكما أكدَّ على الاهتمام بالآخرة فقد أكد على إصلاح شؤون الدنيا.
لذا ينبغي على الخطاب الديني التركيز على المواضيع التي ترتقي بحياة الناس، ومن ذلك التركيز على طلب العلم والمعرفة، فأول ما نزل من القرآن ليس الأمر بالصلاة أو الصوم أو الحج، بل الأمر بالمعرفة، في قوله تعالى: [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ] [سورة العلق، الآية:1]، فالمعرفة هي الأساس ويجب التركيز عليها قبل التركيز على العبادة.
ونسوق هنا مثالًا: ما نقله الشيخ عباس القمي في كتابه (مفاتيح الجنان) عن أفضلية التفكير وطلب العلم في ليلة القدر على سائر الأعمال العبادية المستحبة، وينقل ذلك عن الشيخ الصَدُوق ففي آخر حديثه عن الصلوات والأدعية الواردة في أعمال ليلة الحادي والعشرين من شهر رمضان وهي الليلة الثانية من ليالي القدر، يقول: "وقد قال شيخنا الصَدُوق إن إحياء هاتين الليلتين - واحد وعشرين وثلاثة وعشرين- بمذاكرة العلم أفضل من كل ذلك".
ومثالٌ آخر: ما جاء في الحديث عن صلاة ليلة الدفن في العروة الوثقى حيث نقل الحديث المروي عن رسول الله: «لا يأتي على الميت أشدّ من أول ليلة فارحموا موتاكم بالصدقة، فإن لم تجدوا فليصل أحدكم يقرأ في الأولى الحمد وآية الكرسي، وفي الثانية الحمد والقدر عشرًا»، ثم عقّب السيد اليزدي بقوله: (ومقتضى هذه الرواية أن الصلاة بعد عدم وجدان ما يتصدق به)، والشاهد هنا أولوية العطاء والصدقة، والاهتمام بحاجات الناس.
ومهم جدًّا التركيز على هذه التوجهات، وعلى النخب في المجتمع أن تساعد في ترشيد وتطوير الخطاب الديني، وعلى الجمهور التفاعل مع الخطاب التوعوي التنويري.
وفي بعض الأحيان لا يميل مزاج الجمهور إلى الخطاب الإصلاحي التغييري، ويراه ثقيلًا عليه، لتذكيره بالمسؤوليات الاجتماعية، فيبحث هذا الجمهور عن خطاب يدغدغ عواطفه، ويسلّيه بقصص التاريخ الماضي، لكن في المقابل تفيدنا التجارب المعاصرة أن مِن العلماء مَن استطاعوا بخطابهم الديني الواعي أن يغيروا حياة مجتمعاتهم، وأن يوجهوهم للاهتمام بطلب العلم والمعرفة، ومضاعفة الفاعلية والانجاز، والسير في طريق التنمية والتقدم.
اتجاه طقوسي
يتعاطى البعض مع الخطاب الديني كطقس و(بروتوكول) في المناسبات الدينية.
والطقس الديني: مصطلح يطلق عند غير المسلمين على أفعال العبادة التي يؤديها أعضاء جماعة دينية.
ولمعظم الأديان طقوسها الدينية الخاصة بها.
(والطقوس هي مجموعة من الإجراءات التي يؤديها بعض الأشخاص، والتي تُقام أساسًا لقيمتها الرمزية، وقد يحدد تلك الطقوس أو المراسم تراث الجماعة المشتركة، وتعتبر المراسم والطقوس بأنواعها المختلفة أحد سمات المجتمعات الإنسانية، سواء في الماضي أو الحاضر، وتشمل إلى جانب طقوس العبادة مختلف العادات والتقاليد الاجتماعية، كقسم الولاء ومراسم التتويج، ومراسم الزواج والجنازات، وتقاليد الدراسة والتخرج، والاجتماعات، والأحداث الرياضية).
وهناك رأي فقهي يظهر منه تبني ما يقارب هذا الاتجاه الطقوسي بعنوان (التعبدية في توجيه الخطاب الديني)، حتى وإن لم يكن له فائدة للمستمعين، كما إذا كان بغير لغتهم، حيث ناقش الفقهاء من السنة والشيعة شرط العربية في خطبتي صلاة الجمعة، (فذهب جمهور فقهاء السنة إلى اشتراط كون خطبة الجمعة بالعربية تعبدًا للاتباع، ولأنها ذكر مفروض، فاشترط فيه ذلك، كتكبيرة الإحرام ولو كان الجماعة عجماً لا يعرفون العربية).
كما ذهب مشهور فقهاء الشيعة أيضاً إلى اعتبار العربية في خطبتي الجمعة.
ومنع أكثرهم إجراء الخطبة بغير العربية للتأسي.
وفرّق صاحب الجواهر بين الحمد والصلاة وبين الوعظ، ففيه يجوز بغيرها اختيارًا، بخلاف الحمد والصلاة فلا يجوز بغيرها؛ لظهور الأدلة في إرادة اللفظ فيها، والمعنى في الوعظ، وإن كان الواقع منه عليه السلام العربية في الوعظ أيضاً، لكن لعله لأنه عليه السلام عربي يتكلم بلسانه لا لوجوبه.
ويرى الشيخ يوسف البحراني لزوم العربية في خطبة الجمعة، وإن لم يفهمها المستمعون، لأنها عبادة توقيفية، قال في (الحدائق الناضرة): يمكن أن يقال إن يقين البراءة موقوف على ذلك وأنها عبادة والعبادات توقيفية يتبع فيها ما رسمه صاحب الشريعة، وهذا هو الذي جاء عنهم(ع).
والتعليل بأن المقصود من الخطبة فهم العدد لمعانيها مع تسليم وروده، لا يقتضي كونه كليًا، فإن علل الشرع ليست عللًا حقيقة يدور المعلول مدارها وجودًا وعدمًا، وإنما هي معرفات وتقريبات إلى الأذهان. على أن البلدان التي فتحت من العجم والروم ونحوهما وعينت فيها الأئمة للجمعات والجماعات لم ينقل أنهم كانوا يترجمون لهم الخطب، ولو وقع لنقل، ومنه زمان خلافة أمير المؤمنين(ع)، وكيف كان فالأحوط الخطبة بالعربية وترجمة بعض الموارد التي يتوقف عليها المقصود من الخطبة.
الطقوسية والمضمون
وهناك حديث عن مضمون الخطبة فإن البعض يقرأ خطبته من كتب خطب الجمعة القديمة.
ذكر أحد الكتاب السوريين في مقال له ما يلي: وفي بلدتي التي عشت فيها طفولتي، كان الإمام يخطب من كتاب (ابن أبي نباتة) من أيام السلطان قلاوون (المنصور سيف الدين قلاوون الألفي الصالحي ـ توفي سنة 689هـ). وهناك 52 خطبة على مدار السنة، وحسب المواسم، وكنا صياماً فتحدث عن الحج، ثم انتبه إلى أنه بدل المواسم، فبدأ يقلب على عجل عن الخطبة المناسبة، بعد أن ضل طريقه إليها.
ونجد مثل هذه الطريقة عند البعض في إحياء المناسبات المرتبطة بأهل البيت، فالمطلوب أن يكون الخطاب بنفس الصيغة والأسلوب والطريقة المتوارثة، وأي تطوير أو تغيير فهو تحريف للغرض وتمييع لهوية المناسبة.
فالمطلوب في موسم عاشوراء مثلاً هو السيرة فقط، وضمن رواية معينة، وقد قرأنا بعض الكتابات التي تعترض على طرح مواضيع ثقافية واجتماعية في موسم عاشوراء، وترى أن ذلك مشروع واضح المعالم في الحرب على الشعائر، لا مبرر للمشاركة فيه ولا دعمه ولا إضفاء الشرعية عليه، وأن محرم موسم عزاء لا موسم ثقافة.
وكأن هؤلاء أحرص على المناسبة والولاء لأهل البيت من الأئمة أنفسهم، الذين يؤكدون أن إحياء (أمرهم) هو ببث علومهم، كما ورد عن عبد السّلام بن صالح الهرويّ قال: سَمِعتُ أبَا الحَسَنِ الرِّضا عليه السلام يَقولُ: «رَحِمَ اللّهُ عَبدا أحيا أمرَنا!» فَقُلتُ لَهُ: فَكَيفَ يُحيي أمرَكُم؟
قالَ: «يَتَعَلَّمُ عُلومَنا ويُعَلِّمُهَا النّاسَ؛ فَإِنَّ النّاسَ لَو عَلِموا مَحاسِنَ كَلامِنا لَاتَّبَعونا».
أما الاستشهاد بالروايات التي تتحدث عن بعض مشاهد العزاء عند الأئمة  كخبر أبي هارون المكفوف قال: قال لي أبو عبد اللّه‌: «أنشدني في الحسين عليه السلام» فأنشدته.
قال: «أنشدني كما تنشدون»، يعني بالرقّة، فأنشدته:
             أُمْرُرْ عَلَىْ جَدَثِ الحُسَيْنِ                 وُقُلْ لِأَعْظُمِهِ الزَّكِيَّةْ
فهو يفيد أمرًا جوهريًا هو مواجهة التعتيم على مظلومية أهل البيت بذكرها وتداولها، ولكن ذلك لا يقيدها بأسلوب معين، ولا يحصرها في هذ الدائرة فقط.
حين تكون الخطابة مهنة:
لأن خطيب المناسبات الدينية في مجتمعاتنا الشيعية لا يعتمد على جهة في تامين نفقات حياته وحاجات أسرته، فقد جرى العرف أن تقدم له مكافأة في مقابل خطاباته وقراءاته. وذلك أمر طبيعي ومشروع، لا إشكال فيه من الناحية الشرعية.
روى حمزة بن حمران: سَمِعتُ أبا عبد اللّه (جعفر الصادق)(ع) يقولُ: «مَنِ استَأكَلَ بِعِلمِهِ افتَقَرَ»، قُلتُ: إنَّ في شيعَتِكَ ومَواليكَ قَومًا يَتَحَمَّلونَ عُلومَكُم، ويَبُثّونَها في شيعَتِكُم، فلا يُعدَمونَ مِنهُمُ البِرَّ والصِّلَةَ والإكرامَ، فقالَ عليه السلام: لَيسَ اُولئكَ بِمُستَأكِلينَ، إنَّما ذاك الّذي يُفتي بِغَيرِ عِلمٍ ولا هُدىً مِنَ اللّه ِ؛ لِيُبطِلَ بِهِ الحُقوقَ طَمَعًا في حُطامِ الدّنيا.
فالمستأكل بعلمه هو الذي يجير علمه لمصلحة من يطلب منه الخطاب، فيخالف الحق طلبًا للمال، وهو امر مذموم منهي عنه شرعًا.
أما أن يكون الانسان مرشداً وموجّهاً، يحمل علوم أهل البيت إلى الناس، فيحصل على مكافأة مالية مقابل ذلك، فلا ضير ولا إشكال فيه.
وقد ورد أن بعض الأئمة كافؤوا الشعراء على مديحهم، فقد مدح الفرزدق الامام علي بن الحسين زين العابدين  بقصيدته المعروفة:
هَذَا الذي‌ تَعْـرِفُ البَطْـحَاءُ وَطْـأَتَـهُ         وَالبَـيْـتُ يَعْـرِفُـهُ وَالحِـلُّ وَالحَـرَمُ
فلما سمع هشام هذه القصيدة غضب وحبس الفرزدق ـ بعسفان بين مكة والمدينة ـ وأنفذ له الإمام اثني عشر ألف درهمًا فردها وقال: أنا مدحته لله تعالى لا للعطاء، فقال : «إنّا أهل بيت إذا وهبنا شيئاً لا نستعيده»، فقبلها.
لكن المشكلة ان تصبح المكافأة محورًا في دور الخطيب، وعاملاً مؤثرًا في توجيه خطابته، فيقول ما ليس مقتنعا به كسبًا للمال، حينئذٍ ينطبق عليه ما ورد سابقًا عن الإمام الصادق: «يُفتي بِغَيرِ عِلمٍ ولا هُدىً مِنَ اللّه ِ عَزَّ وجلَّ؛ لِيُبطِلَ بِهِ الحُقوقَ طَمَعا في حُطامِ الدّنيا».
الرسالة الاجتماعية
الرسالة التي يحملها الخطاب الديني للمجتمع هي رسالة الدين، ولها بعدان أساسان:
الأول: تذكير الناس بالله خالقهم وربهم، والذي إليه مصيرهم، وأن عليهم طاعته وعبادته، والتطلع إلى رضاه، وما يرتبط بهذا البعد من قضايا عقدية وعبادية ووعظية، وكذلك تعزيز الولاء والمحبة للنبي وآله الكرام بذكر سيرتهم العطرة، وما قدموا من تضحيات، وتحملوا من آلام في حماية الدين وخدمة مصالح الأمة.
الثاني: إرشاد الناس لحسن الإدارة والتدبير في حياتهم المعيشية والاجتماعية.
فالدين ليس مشروعاً للخلاص في الآخرة فقط، بل هو ـ إلى جانب ذلك ـ مشروع للحياة الأفضل في الدنيا، يقول تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ] [سورة الأنفال، الآية: 24].
ويقول تعالى: [رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً] [سورة البقرة، الآية: 201].
ولعل من أهم أولويات رسالة الدين في الحياة الاجتماعية التي يجب أن يؤكد عليها الخطاب الديني هو تعزيز القيم الأخلاقية في التعامل الاجتماعي. حيث يؤكد القرآن الكريم أن هدف بعثة الأنبياء وإنزال الشرائع الإلهية، هو إقامة العدل بين البشر، وتبادل الإحسان فيما بينهم، يقول تعالى: [لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ] [سورة الحديد، الآية: 25].
ويقول تعالى: [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ] [سورة النحل، الآية 90].
كما يحدد النبي  مهمة رسالته الأساس بالارتقاء بمستوى الالتزام الأخلاقي في المجتمع الإنساني، حيث ورد عنه : «إنَّما بُعِثتُ لِأُتَمِّمَ مَكارِمَ الأخلاقِ»، من هذا المنطلق فإن الخطاب الديني يجب أن يركّز على موضوع التعامل بين الناس، والتزام القيم الأخلاقية في الحياة الأسرية والعلاقات الاجتماعية.
وهذا ما يمكن استنتاجه من قوله تعالى: [لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً] [سورة النساء، الآية: 114].
ويؤكد الإمام علي  ما سمعه من رسول الله  من أن الاهتمام بإصلاح العلاقات بين الناس هو خير من سائر العبادات، قال  في وصيته للحسن والحسين: (أُوصِيكُمَا وجَمِيعَ وَلَدِي وأَهْلِي ومَنْ بَلَغَه كِتَابِي - بِتَقْوَى اللَّه ونَظْمِ أَمْرِكُمْ وصَلَاحِ ذَاتِ بَيْنِكُمْ - فَإِنِّي سَمِعْتُ جَدَّكُمَا يَقُولُ - صَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الصَّلَاةِ والصِّيَامِ).
إن إغفال الخطاب الديني موضوع حقوق الناس، يؤدي إلى وجود أشخاص متدينين يهتمون بأمور الصلاة والوضوء إلى حد الهوس، لكنهم يتهاونون بحقوق الآخرين ضمن حياتهم العائلية والاجتماعية، وذلك خلاف رسالة الدين.
وكما ورد أنه قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ : امْرَأَةٌ تَصُومُ النَّهَارَ، وَتَقُومُ اللَّيْلَ، وَتُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: «لاَ خَيْرَ فِيهَا، هِيَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ».
والأمر الآخر الذي يجب التركيز عليه في الخطاب الديني هو الاهتمام بجودة الحياة وتحسين مستوى المعيشة.
 حيث يبدو من النصوص والتعاليم الدينية، أن الدين لا يريد للإنسان أن يعيش في أدنى مستوى للحياة، بل يريد له العيش في المستوى الأفضل والأرقى، بخلاف النظرة التي يتداولها البعض، بتفسير بعض المفاهيم الأخلاقية كالزهد، والقناعة، والرضا، بأنها تعني تجنب الاستمتاع بالحياة، وإهمال الاستفادة من خيراتها!
وبسبب هذه النظرة ترى أن بعض المتدينين يعيشون حياة الفقر والتخلف والفوضى!!
فإذا ذهبت إلى بلد فيه مسلمون وغير مسلمين، قد تجد أن حياة غيرهم أكثر ترتيباً وتقدمًا من حياتهم.
إن الله تعالى يقول: [مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] [سورة النحل، الآية:97]، فأين الحياة الطيبة في واقع كثير من مجتمعاتنا؟
لقد أصبح مفهوم جودة الحياة مفهوماً واسعاً، له مؤشرات شاملة معتمدة عالمياً، كمراجع أساسية: منها (التصنيف العالمي لقابلية العيش)، وهو مؤشر سنوي، يصنف المدن في 140 دولة، حسب جودة الحياة فيها، بناءً على تقييم الاستقرار والرعاية الصحية والثقافة والبيئة والتعليم والرياضة والبنية التحتية.
ومنها (مؤشر السعادة العالمي) الذي وضع سنة 2017م، والذي يصنف 155 دولة، وفقًا لمستويات السعادة، وذلك بناءً على الجوانب الآتية: الفساد وحرية الاختيار، ومتوسط العمر المتوقع، وإجمالي الناتج المحلي للفرد، والدعم الاجتماعي، والعطاء.
إن جودة الحياة مقصد ديني تدعو له النصوص الدينية، يقول تعالى: [يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ] [سورة الأعراف، الآيتان: 31-32].
يريد الله تعالى للإنسان المؤمن أن يستمتع بحياته، ويعيش الرفاهية، ويبدو من الآيات القرآنية أن الأصل في المؤمن أن يكون ثرياً، فحين تتحدث عن الصلاة غالبًا ما تردفها بالزكاة.
مثل: [وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ] [سورة البقرة، الآية: 277]، [فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ] [سورة الحج، الآية: 78]، [الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ] [سورة المائدة، الآية 55].
وذلك يعني أن الأصل في المؤمن أن يكون غنيًا؛ لأن الزكاة ليست واجبة على الفقراء.
وفي نص ورد عن الإمام علي  في نهج البلاغة، يؤكد أن حياة المتدينين المتقين في سكنهم وأكلهم واستمتاعهم بالحياة هي في درجة أرقى من حياة المترفين والمتجبّرين، حيث يقول : «واعْلَمُوا عِبَادَ اللَّه - أَنَّ الْمُتَّقِينَ ذَهَبُوا بِعَاجِلِ الدُّنْيَا وآجِلِ الآخِرَةِ - فَشَارَكُوا أَهْلَ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ - ولَمْ يُشَارِكُوا أَهْلَ الدُّنْيَا فِي آخِرَتِهِمْ - سَكَنُوا الدُّنْيَا بِأَفْضَلِ مَا سُكِنَتْ وأَكَلُوهَا بِأَفْضَلِ مَا أُكِلَتْ - فَحَظُوا مِنَ الدُّنْيَا بِمَا حَظِيَ بِه الْمُتْرَفُونَ، وأَخَذُوا مِنْهَا مَا أَخَذَه الْجَبَابِرَةُ الْمُتَكَبِّرُونَ - ثُمَّ انْقَلَبُوا عَنْهَا بِالزَّادِ الْمُبَلِّغِ والْمَتْجَرِ الرَّابِحِ - أَصَابُوا لَذَّةَ زُهْدِ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ - وتَيَقَّنُوا أَنَّهُمْ جِيرَانُ اللَّه غَداً فِي آخِرَتِهِمْ - لَا تُرَدُّ لَهُمْ دَعْوَةٌ ولَا يَنْقُصُ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ لَذَّةٍ».
فرسالة الدين الارتقاء بالحياة وإصلاح المجتمع، والإمام الحسين(ع) جعل الإصلاح عنوانًا لحركته ونهضته، ففي أول بيان صدر عنه في وصيته لأخيه محمد بن الحنفية يقول : «إنّي لم أَخرجْ أَشِراً ولا بَطِراً، ولا مُفسِداً ولا ظَالِماً، وإنّما خَرجْتُ لِطَلَبِ الإصلاحِ في أُمّةِ جدّي وأبي، أريدُ أن آمرَ بالمعروفِ، وأنهى عن المُنكَرِ».
تتابع
المصدر: مجلة الاجتهاد والتجدید،
العددان التاسع والخمسون والستون
السنة الخامسة عشر، صيف 2021م، 1442هـ، وخريف 2021م، 1443هـ.

برچسب ها :
ارسال دیدگاه