▪حوار / الجزء الثاني - حوارٌ مع العلّامة السيّد منير الخبّاز
▪حول اثبات وجود الإله ومسألة الإلحاد وأسبابها وطرق معالجتها
▪ سماحة السيّد هل الأدلّة العقليّة على إثبات وجود الإله والخالق كلّها على مستوًى واحدٍ من حيث القيمة المعرفيّة، أو هناك تفاضلٌ بينها؟ بمعنًى آخر هل هناك دليلٌ عقليٌّ على إثبات واجب الوجود أقوى من دليلٍ عقليٍّ آخر بحيث يحصل للإنسان من خلاله اليقين الثابت غير المتزلزل؟
أهمّ الأدلّة على وجود الخالق:
الأوّل: برهان الاختراع، وهو يعتمد على مقدّمةٍ حسّيّةٍ، إذ إنّ المشهود بالوجدان أنّ كلّ شيءٍ في عالم المادّة يخرج من القوّة إلى الفعل، ومقدّمةٍ عقليّةٍ وهي أنّه لمّا كان الشيء لا يعقل أن يخرج نفسه فلا بدّ من سببٍ خارجيٍّ نقله من القوّة إلى الفعل، وهذا السبب إمّا موجودٌ بالقوّة فيحتاج إلى سببٍ آخر، أو ينتهي إلى سببٍ بالفعل من كلّ الجهات، ولمّا كان الفرض الأوّل يستلزم التسلسل، فيتعيّن الفرض الثاني وهو انتهاء الأسباب إلى سببٍ بالفعل من كلّ الجهات.
الثاني: برهان الإمكان وهو ما يعتمد على التسليم بأصل الواقعيّة، وأنّ هناك موجودًا ما، ونفس ذواتنا تدرك ذلك الواقع، ويتألّف هذا البرهان من مقدّمتين عقليّتين:
الأولى: أنّ هذا الموجود المفترض مردّدٌ عقلًا بين كونه واجب الوجود، أي أنّ الوجود عين ذاته، أو ممكن الوجود، أي أنّ الوجود عارضٌ على ذاته، فهو مؤلّفٌ من ذاتٍ ووجودٍ، ممّا يعني أنّ عروض الوجود على هذه الذات يستبطن أنّها في نفسها خاليةٌ عنه، ومتساوية النسبة إلى طرفي الوجود والعدم.
المقدّمة الثانية: أنّ هذا الموجود إن كان واجبًا فقد ثبت المطلوب، وإن كان ممكن الوجود لزم أنّه محتاجٌ في اتّصافه بالوجود إلى الغير؛ لأنّ الوصف العارض على الشيء يحتاج الشيء لاتّصافه به إلى غيره، فإن كان ذلك الغير واجب الوجود -أي أنّ وجوده ذاتيٌّ له- فهو المطلوب، وإن كان ممكن الوجود احتاج إلى غيره، وما لم ينته إلى واجب الوجود لزم التسلسل المحال.
الثالث: برهان النظم الّذي يعتمد على عنصرين:
عنصر السببيّة: فلكلّ حادثٍ وعنصرٍ فعلٌ محكمٌ، والمراد به أنّ هناك عناصر وقوانين ومادّةً وهيئةً، فتطويع القوانين لتطوير المادّة إلى هيئاتٍ متعدّدةٍ يترتّب عليه الأثر، وهو الفعل المحكم، وهو بذاته يدلّ على قوّةٍ قادرةٍ عالمةٍ.
مقارنةٌ: اذا قمنا بالمقارنة بين البراهين الثلاثة وجدنا أنّ أقواها من الناحية العقليّة هو برهان الإمكان، ولكنّ أقربها للذهنيّة الرياضيّة الفيزيائيّة الحديثة هو برهان النظم؛ ولذلك ركّز جمعٌ من الأعلام على برهان النظم كالسيّد الشهيد الصدر في مقدّمة الفتاوى الواضحة، ويمكن لنا صياغة هذا البرهان بأسلوبٍ ينسجم مع الذهنيّة الرياضيّة، ونقول: إنّ كون برهان النظم برهانًا منتجًا يعتمد بشكلٍ رئيسٍ على دليل حساب الاحتمالات، وهو يتألّف من خطواتٍ، الأولى جمع الظواهر، والثانية المقارنة بين الفرضيّات، والثالثة التناسب العكسيّ، بمعنى أنّه كلّما تضاءلت درجة احتمال الفرضيّة الثانية تصاعدت درجة احتمال الفرضيّة الأولى، فإذا افترضنا أنّ الفرضيّة الثانية ضئيلةٌ بحيث تكون نسبة تحقّقها واحدًا بالمئة، فإنّ احتمال الفرضيّة الأولى يصل إلى تسعةً وتسعين بالمئة، فهل يمكن تطبيق دليل حساب الاحتمالات؟ وكيف نطبّق دليل حساب الاحتمالات على الظواهر الكونيّة لإثبات الوجود الإلهيّ؟ وهنا زاويتان، الزاوية الأولى مميّزات الكون، إنّ كوننا الّذي نعيش فيه يتميّز بثلاث صفاتٍ، الأولى أنّه قابلٌ للفهم، وهذا ما تحدّث عنه أينشتاين عندما قال: إنّ أكثر الأمور استعصاءً على الفهم أنّ الكون قابلٌ للفهم، إنّ كونًا فوضويًّا لا يمكن إدراك أحداثه ولا التنبّؤ بمساره هو النتيجة البدهيّة للانفجار الكونيّ الأعظم، فالنظام والقابليّة للفهم والتوقّع الّذي تظهره جاذبيّة نيوتن مبهرٌ ومعجزةٌ لا يمكن توقّعه من سيناريو بداية الكون، والصفة الثانية أنّ الكون قابلٌ للفهم الرياضيّ بالذات، وهذا ما تحدّث عنه بول ديوز حيث قال: ليس الكون قابلًا للفهم فحسب، بل هو قابلٌ للفهم الرياضيّ أيضًا، بمعنى أنّ بإمكاننا أن نتوصّل إلى قوانين بحساباتٍ رياضيّةٍ قائمةٍ في أذهاننا، ومع ذلك نرى أنّ هذه الحسابات والمعادلات الرياضيّة تتطابق مع واقع الكون؛ ولذلك توصل أينشتاين إلى نظريّة النسبيّة العامّة عبر معادلاتٍ رياضيّةٍ رأى أنّها تتناسب مع حقيقة الكون، ممّا يؤكّد فهم الكون فهمًا رياضيًّا. الصفة الثالثة: التوافق بين العقل البشريّ والكون كما ذكر (بنروز) (Roger Penrose) حيث يقول: أنا لا أستطيع أن أقتنع أنّ هذه النظريّات الرائعة نشأت بشكلٍ تلقائيٍّ، فالأنسب جدًّا أنّه لا يمكن نسبتها إلى التلقائيّة، إذن لا بدّ أن يكون هناك عقلٌ شديد الذكاء ربط بين الفيزياء والرياضيّات وهو الّذي مكّننا من فهم العالم فهمًا رياضيًّا حتّى صار انضباط الكون رياضيًّا من بدهيّات العلم الأوّليّة.
والحاصل أنّ الكون يتميّز بأنّه قابلٌ لفهمٍ رياضيٍّ دقيقٍ يكشف عن توافقٍ بين عقولنا وواقع الكون، وهذا التوافق يؤدّي إلى أن نكتشف أنّ وراء تصميم الكون وخلقه وجودًا عاقلًا. الزاوية الثانية تطبيق دليل حساب الاحتمالات على الكون، وهنا نرجع إلى كتاب (ستّة أرقامٍ فقط) لمارتين ريتس حيث ذكر أنّ هناك ستّة ثوابت رياضيّةٍ مضبوطةٍ بدقّةٍ عاليةٍ، ترتبط بصفاتٍ كونيّةٍ فيزيائيّةٍ هي المسؤولة عن نشأة هذا الكون واستمرار الحياة فيه. الثابت الأوّل ما يتعلّق بالتمدّد، والثابت الثاني ما يتعلّق بنشأة المجرّات، والثالث ما يتعلّق بقوّة الجاذبيّة، والرابع ما يتعلّق بالطاقة الصادرة من النجوم، والخامس ما يتعلّق بنسبة الروابط الكهربائيّة إلى قوّة الجاذبيّة، والسادس ما يتعلّق بنسبة بنية الكون الفراغيّة.
وبما أنّ للكون ستّة ثوابت رياضيّةٍ لها حدودٌ دقيقةٌ لا تزيد ولا تنقص فهل حصلت جميع هذه الثوابت بهذه الأرقام الرياضيّة الدقيقة صدفةً؟ عندما نعرض ذلك على دليل حساب الاحتمالات نقول يوجد عندنا احتمالاتٌ، إمّا أن تكون هذه الظواهر قد نشأت عن وجودٍ عاقلٍ، وإمّا أن تكون قد نشأت صدفةً، بمعنى أنّ وجود كلّ ظاهرةٍ صدفةٌ، وكونها بهذه النسب الرياضيّة الدقيقة صدفةٌ، واجتماعها في كونٍ واحدٍ صدفةٌ، والتناسق فيما بينها في العمل صدفةٌ، ومن الواضح أنّ هذا الاحتمال لا قيمة له، فعندما نقارن احتمال أن يكون وجود هذه الثوابت صدفةً بالنحو الّذي ذكرناه، مع احتمال أن يكون ذلك من خلق قوّةٍ عاقلةٍ، نجد أنّ الاحتمال الأوّل ضئيلٌ جدًّا، وقوّة الاحتمال الثاني له تناسب منطقي مع هذه الثوابت، فلا مقايسة أصلًا بين احتمال الصدفة واحتمال الخالق القدير: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ» وقال تعالى: «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌم.
▪حاول ريتشارد دوكينز صاحب كتاب (وهم الإله) وغيره من الملحدين التشكيك في الأدلّة العقليّة على وجود الخالق، وعدّوها فاقدةً للقيمة المعرفيّة من وجهة نظرهم، نرجو من سماحتكم بيان كيفيّة نقد تلك التشكيكات؟
من أهمّ الأمور الّتي ركّز عليها دوكنز في كتابه (وهم الإله) هو استغلال نظريّة الانتخاب الطبيعيّ (نظريّة التطوّر) الّتي ذهب إليها دارون، وهي عبارة عن وجود سلفٍ مشتركٍ لكلّ الكائنات الحيّة الحيوانيّة، وبسبب تغيّر الظروف تولّدت طفراتٌ جينيّةٌ متمايزةٌ بشكلٍ تدريجيٍّ، بعضها يثمر في تكيّف الكائن الحيّ مع المحيط وبعضها متلفٌ ضارٌّ، وتتكفّل الطبيعة باقتضائها إبقاء التمايزات النافعة ونبذ الضارّة، ثمّ تتوارث الكائنات الحيّة هذه الجينات الجديدة الّتي تصبح بدورها مصدرًا لأنواعٍ متعدّدةٍ من الكائنات الحيّة. فقد ذكر دوكنز في كتابه (وهم الإله) كيفيّة استغلاله لهذه النظريّة بقوله إنّ حجّة الاحتماليّة تنصّ على أنّ الأشياء المعقّدة لا تأتي بالصدفة، بمعنى أنّها لا تأتي بدون غايةٍ لتصميمها؛ ولذلك فليس من المفاجئ أن يتصوّر بأنّ الاحتماليّة هي دليلٌ على التصميم. إنّ الانتخاب الطبيعيّ الداروينيّ يظهر لنا خطأ حجّة الاحتماليّة عند اعتبار عدم الاحتماليّات فيما يتعلّق بالبيولوجيا.
وعلى الرغم من أنّ الداروينيّة لا تتعلّق بشكلٍ مباشرٍ بالأشياء الجامدة كعلم الكون مثلًا، فإنّها ترفع مستوى الوعي خارج نطاق مجالاتها المحصورة بالبيولوجيا. وقال: ومرّةً أخرى التصميم الذكيّ ليس البديل الصحيح للصدفة، إنّ الانتخاب الطبيعيّ ليس حلًّا معقولًا فقط، بل إنّه الحلّ الفعّال الوحيد الّذي تمّ طرحه حتّى الآن بديلًا للصدفة المقترحة منذ الأزل.
فهو يريد استغلال هذه النظريّة لإثبات أنّ الكون أيضًا لا يدور مدار خطّين فقط وهما إمّا الصدفة أو التصميم، بل كما أنّ الكائن الحيّ انطلق في مسيرته عبر الانتخاب الطبيعيّ من دون أن يلجأ لسيناريو الصدفة ولا لمنهج التصميم، كذلك يمكن أن تكون ولادة الكون بهذا النحو ناشئةً عن الانتخاب الكونيّ لا عن الصدفة ولا عن التصميم؛ لذلك كلامه محلّ مناقشةٍ في تطبيق نظريّة الانتخاب على الكائنات الحيّة، فضلًا عن تطبيقها على الكون بأسره، وذلك من خلال عدّة ▪ملاحظاتٍ:
الملاحظة الأولى: أنّه تصوّر احتمالًا ثالثاً بين الصدفة والتصميم، وهو الانتخاب الطبيعيّ، بينما هذا التصوّر غير منطقيٍّ، والسرّ في ذلك أنّ المحال لا يتغيّر من كونه قد حدث دفعةً أو حدث تدريجًا، وعلى نحو التدريج السريع أو على نحو التدريج البطيء، فلا يمكن أن يقال: إذا تحوّلت الخليّة الأولى إلى بعوضةٍ عبر ملايين السنين فهو أمرٌ ممكنٌ، وأمّا إذا تحوّلت دفعةً إلى إنسانٍ أو طيرٍ فهذا محال، فإنّ المحال يبقى محالًا سواءٌ حصل دفعةً واحدةً أو حصل بالتدرج البطيء. إنّ الخليّة الأولى إمّا واجدةٌ لجينات هذه الكائنات المتعدّدة أو غير واجدةٍ، فإن كانت واجدةً لها فتولّدها منها أمرٌ ممكنٌ دفعةً أو تدريجًا، سريعًا أو بطيئًا، وإن لم تكن واجدةً لجيناتها فلا يمكن تولّدها منها ولو عبر التدرّج البطيء لآلاف السنين، إذن ليس هناك احتمالٌ ثالثٌ وراء الصدفة والتصميم يعبّر عنه بالانتخاب، هذه هي الملاحظة الأولى.
الملاحظة الثانية: أنّ الانتخاب إمّا هادفٌ ناشئٌ عن تصميمٍ أو لا، فإن كان الأوّل كان تصميمًا لا انتخابًا، وإن كان الثاني كان صدفةً، إذ إنّ وجود الشيء بنفسه من دون سببٍ خارجٍ عن ذاته محالٌ، سواءٌ كان ذلك دفعةً أم تدريجًا.
الملاحظة الثالثة: أنّه كيف استطاعت المادّة العمياء أن تميّز بين أن تفرز التمايزات النافعة أو المميّزات النافعة من المميّزات الضارّة، بحيث تتوارث جيناتها هذه المميزات النافعة دون المميزات أو الصفات أو السمات الضارّة.
ورابعًا: أنّ المادّة إمّا واجدةٌ لطاقة التطوّر للأفضل أو لا، فإن كانت واجدةً لطاقة التطوّر للأفضل صحّ التطوّر بلا حاجةٍ للتراكم البطيء كما في تطوّر الجنين في بطن أمّه من نطفةٍ إلى إنسانٍ متكاملٍ، «ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ» وإن لم تكن واجدةً لطاقة التطوّر فتحوّلها لإنسانٍ متكاملٍ محالٌ، ولا يجدي في ذلك التراكم ملايين السنين.
والملاحظة الخامسة: أنّ وجود سلفٍ مشتركٍ للكائنات الحيّة وتطوّرها عن طريق الصراع بين ما يقتضيه طبع الكائن الحيّ وما تقتضيه عوامل الظروف المحيطة، لا يلغي البحث عن الحاجة للمبدإ الأوّل الّذي هو منبع شرارة الحياة، فهو ليس مادّةً ولا طاقةً، وإنّما هو قوّةٌ وعقلٌ وعلمٌ؛ ولذلك قال فرانسس كولينز رئيس مشروع الجينوم البشريّ في الولايات المتّحدة: من الّذي يمنع الله عن استعمال آليّة التطوّر في الخلق؟! فالتطوّر آليّةٌ يستعملها الإله تمامًا كما يستعمل آليّة الخلق الخاصّ.
والمناقشة الأخيرة: أنّ الحياة ليست أمرًا مادّيًّا يقع نتيجةً للصراع بين المادّة العمياء وبين العوامل المحيطة بهذه المادّة، بل الحياة عقلٌ وشعورٌ وإدراكٌ، ولتعميق هذه الجهة نقول إنّ الحياة ظاهرةٌ معلوماتيّةٌ وليست ظاهرةً كيميائيّةً. يقول أستاذ البايولوجيا الأمريكيّ كوفمان المولود عام 1939: إذا أخبرك أيّ إنسانٍ أنّه يعرف كيف نشأت الحياة على كوكب الأرض منذ حوالي ثلاثة مليارات وسبعمائة مليون سنةٍ، فإنّه إمّا جاهلٌ غبيٌّ أو محتالٌ، فلا أحد يعلم من أين جاءت المعلومات اللازمة لنشأة الحياة، ولا أحد يعلم كيف جاءت هذه المعلومات الّتي أحدثت هذا التنوّع الهائل أثناء الانفجار الأحيائيّ الكامبريّ.
لذلك يرد السؤال: كيف استطاعت الطبيعة دون تصميمٍ وتوجيهٍ أن توفّر المعلومات الهائلة المطلوبة لنشأة الحياة والّتي تبلغ ملايين بيتز في أبسط الكائنات الحيّة، فضلًا عن الكائنات المعقّدة كالإنسان.
وممّا يدلّل على ذلك أنّه في العشرين من أيّار عام 2010 أعلن عالم البايولوجيا الجزيئيّة الأمريكي الكبير وينتر أنّ فريقه البحثيّ قد حقّق بعد خمسة عشر عامًا من الجهد إنجازًا علميًّا كبيرًا يتلخّص في أنّهم تمكّنوا من تجميع الشفرة الوراثيّة DNA لإحدى الخلايا البكتيريّة من مكوّناتها الأوّليّة، ووضعوا هذه الشفرة في جسم خليّةٍ بكتيريّةٍ حيّةٍ من نوعٍ آخر بعد نزع شفرتها الوراثيّة، فإذا بالخليّة تمارس وظائفها الحيويّة كبناء البروتينات تبعًا للشفرة الجديدة، واعتقد أنّهم بذلك أصبحوا قادرين على صنع الحياة وقادرين على تخليق الخليّة الحيّة، مع أنّ ما قاموا به مجرّد استبدالٍ لمركّبٍ كيميائيٍّ معيّنٍ وهو c- DNA بمركّبٍ كيميائيٍّ آخر مصنّعٍ هو m- DNA.
فالـ DNA الّذي استبدلوه ليس هو منبع الحياة، إنّه فقط المعلومات المطلوبة لبناء بروتينات الخليّة وانقسامها، أما الخليّة نفسها فقد جاءوا بها بكلّ مكوّناتها؛ لذلك بما أنّ الحياة ظاهرةٌ معلوماتيّةٌ فإنّه لا يمكن أن تفرزها المادّة العمياء، وهذا ما يؤكّده القرآن الكريم عندما يقول: «إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ»، والتمثيل بالذباب ليس لأنّه المخلوق المعقّد فقط، بل لأنّه يحمل شرارة الحياة. فالإنسان لا يمكنه أن يخلق أو أن يصنع حبّة قمحٍ تدبّ فيها الحياة، فضلًا عن أن يصنع ذبابًا يحمل أسرار الحياة؛ ولذلك نرى القرآن الكريم يركّز على مسألة صنع الحياة. ومن أجل ترسيخ هذه النقطة نذكر أنّه منذ أن تمّ اكتشاف بنية الـ DNA وطريقة أدائه لوظائفه عام 1953 وما تبعه من تأسيس علم البايولوجيا الجزيئيّة، أدرك العلماء أنّهم يتعاملون مع علمٍ يقوم على أربعة حروفٍ، لا أنّهم يقومون مع مختبرٍ كيميائيٍّ مجرّدٍ. والسؤال المطروح كيف تمّ ترتيب هذه الحروف الأربعة؟ بحيث أصبحت مصدرًا لحياة الكائن الحيّ؟ ولذلك يضع جورج جونسون في كتابه (هل كان دارون مصيبًا) الداروينيّين أمام مفارقةٍ فيقول: إذا هبطت علينا من الفضاء الخارجيّ أسطوانةٌ مدمجةٌ تحمل المعلومات المسجّلة في شفرة أحد الكائنات الوراثيّة، فإنّ كلّ من يتلقّى ذلك يقطع فورًا بنسبة ألفٍ في ألفٍ على وجود ذكاءٍ في الكون خارج كوكب الأرض، فكيف إذا قرأنا هذه المعلومات مسجّلةً في الشفرة الوراثيّة للإنسان؟ فهل نقول إنّها وجدت صدفةً أو نتيجة التراكم التدريجيّ البطيء؟ ولذلك فإنّ كولنز مدير مشروع الجينوم البشريّ عندما تمّ الانتهاء من قراءة الخريطة الجينيّة، وما تمّ التوصّل إليه من المعلومات ممّا يساوي خمسةً وسبعين فاصلة أربعمئةٍ وخمسين صفحةً من صفحات جرائدنا اليوميّة قال: الآن علّمنا الله اللغة الّتي خلق بها الحياة.
المصدر: مجلة الدلیل