□ مقالة
صلح الإمام الحسن(ع) أم هدنة؟!
□ بقلم سماحة الشیخ محمد السند
إن الإمام الحسن(ع) لم يصالح معاوية إطلاقاً، وإنما جعل بينه وبين الطرف الآخر المتمثل بمعاوية وجلاوزته هدنة، والهدنة بمعنى إيقاف الحرب فترة مؤقتة، وإن عبر عن هذا بالصلح وذلك بمعنى التوافق على إيقاف الحرب بشروط ومعلق على الوفاء بها ولكن ليس بمعنى أنه ترك زمام الأمور للطرف الآخر، بل كيان كل طرف يبقى على حاله فالهدنة ليس انعداماً لأحد الكيانين وبقاء الآخر ولا ذوبانه بالآخر. بقلم سماحة الشیخ محمد السند ( بتصرف)
بعبارة أخرى أن الإمام(ع) بدل القضية ونظام الدولة من خلافة موحدة تحت إمرة أمير المؤمنين(ع) ثم الإمام الحَسن(ع) إلى نوع من التعايش بين قوى المعارضة. وأن لم يكن على أساس فدرالية أو كونفدرالية، كما يعبرون الساسة اليوم.
ومن باب المثال، الحزب الفائز بالانتخابات له وجود في الوزارات ولكن الطرف الآخر أيضاً له ذلك الوجود، فكل يأخذ موقعه، وهذا نوع من حكومة الظل، وهذه عملية من الموازنة التعايشية، حيث لها صياغات مختلفة، والشاهد على ذلك وعلى بقاء كيان أهل البيت(ع) بكل ممتلكاته الحضارية، والعقائدية، والعسكرية، والمالية.
ونذكر خمسة عشر شاهد على هذا، ومن الطبيعي أن هذا ليس كل شيء مما يمكن أن يجده المتتبع المحقق في معطيات وقصاصات المروية بل جمع ذلك على عجالة، والشواهد هي:
▪ الشاهد الأول: سيطرة الإمام الحسن(ع) على زمام الأمور
إن معاوية الطليق كان حازماً أن الحسن بن علي(ع) لن يهادنه لجملة من المعطيات، ومعاوية بذلك يستطيع أن يفتن بينهم، والكوفة آنذاك لم تكن كلها من أتباع أهل البيت(ع)، بل ثلة قليلة أو الثلث منها كانوا من الشيعة، لأن ثلثي الكوفة كانوا من المناوئين لأهل البيت(ع) في ذلك الوقت.
وكان فيها من أهل الشام أيضاً، ومن المعروف أن أهل الشام آنذاك كانوا يبغضون أهل البيت(ع) ومن النواصب. ومعاوية كان يراهن على أن هذا التشتت في الكلمة والتمزق والتنازع الداخلي في جيش الإمام الحسن(ع) سوف يبيد رؤوس كل الموالين للإمام الحسن المجتبى(ع). ولم يكن بحسبان معاوية أن الإمام الحسن(ع) يستطيع أن يسيطر على الموقف وتقع بعد ذلك هدنة مقتضاها عدم تعدي أحد الطرفين على الآخر وحفظ كل طرف كيان الآخر إلا إذا لم يف أحدهما للآخر بالشرط الذي عيناه من الشروط.
▪ الشاهد الثاني:
قتل عمرو ابن العاص بید معاوية
لما صالح معاوية أراد أن يقتل عمرو بن العاص وذلك لأنه كان أحد المستشارين لمعاوية، وكان يؤكد لمعاوية أن الصلح سوف لن يتم أبداً وإنما عرض الصلح وسيلة لهزيمة جيش الحسن(ع) وتغلب معاوية.
رأى معاوية الطليق أن مشروعهُ الدموي قد أفشله عليه عمرو ابن العاص، وبقي الإمام الحسن(ع) على ما هو عليه من كيان وأتباع وقوة وقدرة وكأن الصلح نظير صلح الحديبية و معاوية أدرك أنه هذا فتح للحسن(ع) فمن ثم عزم على قتل عمرو بن العاص الذي أشار عليه بذلك.
▪ الشاهد الثالث: الأمان لقیس بن سعد
عندما وصل معاوية إلى الكوفة أبى وامتنع قيس بن سعد بن عبادة من أخلص قيادات الإمام الحسن(ع) عن مبايعة معاوية، وقد كان معاوية يهابه وبسبب هذا أبى معاوية أن يأمن قيس بن سعد، وان قيس وكان آخر لواء عسكري يقاتل بين يدي الإمام الحسن(ع) هو لواء قيس بن سعد، فلما تم الصلح بين الإمام الحسن(ع) رفض معاوية أن يأمن قيس وأصر أن يقتله، ولكن الإمام الحسن هدد بنقض المعاهدة إن لم يكن قيس آمن.
فنزل معاوية على ما طلبه الإمام الحسن(ع). فلو لم يكن للإمام الحسن(ع) القدرة والسيطرة لما كان في قدرته أن يضغط على معاوية وكان معاوية يقبل بكل شرط يشرطه الإمام الحسن(ع)، وهذه مناورة سياسية وعسكرية وأمنية كان القائد الأول فيها هو الإمام الحسن(ع).
▪ الشاهد الرابع:
عدم بيعة الإمام الحسين(ع) لمعاوية
عدم بيعة الإمام الحسين(ع) مع أصرار معاوية على ذلك فتراجع عن إصراره هذا بعد ما قال له الإمام الحسن(ع): يا معاوية لا تكرهه، فإنه لا يبايع أبداً أو يقتل أهل بيته، ولن يقتل أهل بيته حتى يقتل أهل الشام. وهذه خطوة عسكرية أمنية. فقد كان هناك إنتشار متداخل بين أهل الشام وشيعة أمير المؤمنين(ع) في الكوفة، وكان معاوية لا يستطيع أن يضغط عسكريا وأمنياً على الإمام الحسن(ع).
من جانب آخر لو أراد معاوية أن يغتال الإمام الحسن(ع) فإن معسكر الكوفة وأهل البيت(ع) سوف يقوده الإمام الحسين(ع)، وهذا النائب لا يبايع ولا يهادن ولا يعقد مع معاوية عقد السلم، وهذا يعني إبقاء ورقة بديلة وساعة صفر وضاغطة على الطرف الأخر.
▪ الشاهد الخامس:
خطب الإمام الحسن(ع) القارعة
خطب الإمام الحسن(ع) سواء التي كانت في الكوفة أو المدينة کانت قارعة و مزلزلة على الخطاب السياسي لمعاوية، حيث كانت تؤكد أن خلافة معاوية غير شرعية، وحق مغتصب. وهذا يدل على أنه ليس هناك أي بيعة أو صلح وليس إعتراف بالكيان الآخر.
▪ الشاهد السادس: إمکانیة ردّ الفعل من معسکر الکوفة إزاء نقض المعاهدة
لما نقض معاوية المعاهدة وقال قولته فإنه لم يذكر ذلك علناً أو بعد الهدنة مباشرة، بل قال ذلك عندما خرج من النخيلة التي هي معسكر الكوفة، لأنه كان يخشى من ردة فعل جيش الإمام الحسن(ع). وقيل إنه نقض الهدنة وهو في مسجد الكوفة، حيث روى أبو الفرج الأموي، وبعضهم يقول كما في المصادر أخذ أهل الكوفة يشتمون معاوية، بل البعض همَّ بقتله.
فلو لم تكن هناك أرتال عسكرية متشابكة مع أرتال أهل الشام كيف يستطيع أهل الكوفة أن يهموا بقتل معاوية؟ وهذا يدل على أن معسكر الإمام الحسن(ع) وشبكته الأمنية والقواعد الجماهيرية الموجودة لديه لا زال الإمام(ع) يحتفظ بها.
▪ الشاهد السابع:
تقریر من رئیس فزارة بنقض العهد
هدد الإمام الحسن(ع) بنقض الهدنة، بعد أن نقض الهدنة معاوية. جاء المسبب بن نجية وهو رئيس قبيلة فزارة إلى الإمام(ع) وقال له «ها هو معاوية قد نقض العهد»، فإذن هي ليست بيعة من مبايع لمبايع أخر، أو لأمير أو رئيس أو خليفة، بل هو تعاقد متوازي ومتقابل بين طرفين.
▪ الشاهد الثامن:
عدم مواراة الإمام الحسن(ع)
إن خطبه(ع) كانت صريحة وليس فيها أي مواراة أو مداهنة، بل كشفت الحقائق الغائبة على المسلمين، وهذا ما کتبان عنه تحت عنوان «حجاج الإمام الحسن(ع)».
▪ الشاهد التاسع: إعتراف معاوية نفسه من قوى الإمام الحسن(ع)
حيث قال معاوية: «والله ما نزل الحسن حتى أظلمت علي الأرض وهممت أن أبطش به، ثم علمت أن الأغضاء أقرب إلى العافية.» ويقصد بالعافية هنا إستتباب الأمن، وإلا يخرج الأمر عن معاوية. وقد روي أنه لما قال معاوية لعبدالله بن الزبير: ألا تعذرني في حسن بن علي ما رأيته مذ قدمت المدينة إلامرة، قال: دع عنك الحسن … والله لو يشاء حسن أن يضربك بمائة ألف سيف لضربك، والله لأهل العراق أرأم له من أم الحوار لحوارها. فقال معاوية: أردت أن تغريني به، والله لأصلن رحمه ولأقبلن عليه. وهذا النص يعطينا صورة أن الهدنة أشبه ما يكون بالفيدرالية منه بالمعنى الخاطىء للبيعة للخليفة الواحد.
▪ الشاهد العاشر: مدح الإمام الحسن(ع) لأميرالمؤمنين(ع) بمسمع من معاوية
مدح الإمام الحسن(ع) لأبيه أمير المؤمنين(ع) وبمحضر ومسمع من معاوية الذي كان قدسنّ لعن وسب أمير المؤمنين(ع) على المنابر، فكيف به وهو يسمع مدح علي(ع) بحضور جلاوزته ومن على منبر الكوفة أو المدينة وبحضور الآف المسلمين. ألم تكن هذه ورقة ضغط إستخدمها الإمام الحسن(ع) إتجاه معاوية؟
▪ الشاهد الحادي عشر: استنجاد معاویة بالإمام الحسن(ع) لقتال الخوارج
خرج من الخوارج على معاوية بعد قتل علي(ع) حوثرة الاسدي، وحابس الطائي، خرجا في جمعهما، فصارا إلى مواضع أصحاب النخيلة، ومعاوية يؤمئذ بالكوفة قد دخلها في عام الجماعة. وفي كامل التأريخ (بعد أن بايعه الحسن)، وقد نزل الحسن بن علي، وخرج يريد المدينة، فوجه إليه معاوية وقد تجاوز في طريقه يسأله أن يكون المتولي لمحاربة الخوارج، فكان جواب الحسن: والله لقد كففت عنك لحقن دماء المسلمين، وما أحسب ذاك يسعني، أفأقاتل عنك قوماً أنت أولى بالقتال منهم. فمعاوية إستنجد معاوية بالإمام الحسن(ع) كي يقاتل معه، وهذا يعني أن القدرة العسكرية للإمام الحسن(ع) لا زالت موجودة.
▪ الشاهد الثاني عشر:
مفاخرة معاویة و الإمام الحسن(ع)
قال معاوية بعد خطبته في مسجد النبي(ص) للحسن بن علي(ع): أنا خير منك ياحسن، قال: وكيف ذلك ياابن هند؟ قال: لأن الناس قد أجمعوا عليّ ولم يجمعوا عليك. قال: هيهات هيهات لشر ماعلوت، ياابن آكلة الأكباد، المجتمعون عليك رجلان: بين مطيع ومكره، فالطائع لك عاص الله، والمكره معذور بكتاب الله وحاش الله أن أقول: أنا خير منك فلا خير فيك، ولكن الله برأني من الرذائل كما برأك من الفضائل. وهذه حدثت في المدينة المنورة، وهذا يعني أن القدرة العسكرية لسيد شباب أهل الجنة، لازالت موجودة إلى أواخر حياته.
▪ الشاهد الثالث عشر: عدم تعرض معاویة لقتل الشیعة في حیاة الإمام الحسن(ع)
وهو أن معاوية لم يجرأ على أي أحد من أصحاب أمير المؤمنين(ع) أن يفتك به في ظل حياة الإمام الحسن(ع)، فمثلًا قتله لحجر بن عدي سنة إحدى وخمسين ورشيد الهجري، وعمرو بن الحمق الخزاعي. فإن هؤلاء وغيرهم قد أغتالهم معاوية بعد استشهاد الإمام الحسن(ع).
▪ الشاهد الرابع عشر:
قال إبن أبي الحديد: نقلاً عن أبي الحسن المدائني أنه طلب زياد رجلًا من أصحاب الحسن ممن كان في كتاب الأمان، فكتب إليه الحسن و طلب أن لا یتعرض له إلا بخير والسلام. فلما أتاه الكتاب غضب زیاد و کتب إليه: … أيم الله لأطلبنه بين جلدك ولحمك وإن أحب الناس إلي لحماً أنا آكله للحم وأنت منه، والسلام.
فلما قرأ الحسن الكتاب بعث به إلى معاوية، فلما قرأه غضب وكتب: «من معاوية بن أبي سفيان إلى زياد أما بعد فإن لك رأيين: رأياً من أبي سفيان ورأياً من سمية فأما رأيك من أبي سفيان فحلم وحزم، وأمّا رأيك من سمية فما يكون من مثلها؟ إن الحسن بن علي كتب إلي أنك عرضت لصاحبه، فلا تعرض له فإني لم أجعل لك عليه سبيلًا ». وهذا يدل على أن قوة الضغط والموازنة لم تزل باقية.
▪ الشاهد الخامس عشر:
کلمات بعض رؤساء الشیعة
لما بايع الحسن(ع) معاوية أقبلت الشيعة تتلاقى بأظهار الأسف والحسرة على ترك القتال، فخرجوا إليه بعد سنتين من يوم بايع معاوية فقال له سليمان بن صرد الخزاعي: « فإذا شئت فأعد الحرب خدعة، وأئذن لي في تقدمك إلى الكوفة، فأخرج عنها عامله وأظهر خلعه، وتنبذ إليه على سواء، إن الله لا يحب الخائنين، وتكلم الباقون بمثل كلام سليمان».
فقال الحسن(ع): أنتم شيعتنا وأهل مودتنا … ما كان معاوية بأبأس مني بأساً، ولا أشد شكيمة ولا أمضى عزيمة ولكني أرى غير ما رأيتم، وما أردت بما فعلت إلا حقن الدماء فأرضوا بقضاء الله، وسلموا لأمره، وألزموا بيوتكم وأمسكوا.
ومن خلال هذه الرواية يتضح أن القاعدة الشعبية والعسكرية والأمنية للإمام الحسن(ع) كانت تستطيع أن تعيد العراق بين ليلة وضحاها، وهذا يعني أن العراق لم يخرج عن قبضة الإمام الحسن(ع).
٭ ٭ ٭
هذه شواهد كلها مفعمة على أن الإمام الحسن(ع) لم يفقد أي ورقة ضغط على معاوية، بل بقي هو القائد الشجاع لشيعة أبيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع). بل في الحقيقة كان فتحاً مبيناً لبقاء التشيع والشيعة ككيان رئيسي في جسم الأمة الإسلامية يتنامى بهوية إيمانية متميزة عن الإبهام في الخليط الإسلامي، وهذه خطوة بناء فاتحة للأمة المؤمنة في مسار الأمة نظير صلح الحديبية لجده المصطفى(ص) الذي سبب يأس الكفار إلى الأبد عن استئصال المسلمين وكذلك كان صلح هدنة الحسن(ع) سبب يأس أعداء أهل البيت(ع) من بني أمية ومن شاكلهم من النواصب إلى الأبد عن استئصال كيان المؤمنين والإيمان فكان بحق فتحاً مبيناً للإيمان بينما صلح الحديبية كان فتحاً مبيناً للإسلام.
فسلام على الحسن يوم ولد ويوم أستشهد ويوم يبعث حيا.
الحمد لله رب العالمين
مع تصرف و تلخیص
المصدر: الاجتهاد