□ مقالة/ الجزء الأول
الحوار القرآني عند الإمام الحسين(ع) دراسة تحليلية
□ الشيخ حيدر العريضي - باحث وكاتب إسلامي من العراق
المقدّمة
كيف لا يكون منطقُ الإمام الحسين(ع) وسلوكه مُستمَّداً من وحي القرآن الكريم وقد تربّى في حجر النبوّة ورضع من صدر الإسلام. إنّ ديدن سيرة أئمّة أهل البيت(ع) عامّة والإمام الحسين(ع) خاصّة هو التزام الحوار القرآني مع المخالفين ما استطاعوا إليه سبيلاً، ولا ملجأ للحرب والقتال في قاموس فكرهم إلّا إذا اضطرهم العدو إليها وبعد الإعذار بالنُذر؛ لأنّ الغاية من وجودهم وتحملّهم عبء الرسالة هو هداية الضالين ونجاة المسترشدين حتّى دخولهم في واسع رحمة الله تعالى، فالحرب تقتل تلك الغاية المرتجاة وتحجب المقابل عن تلك الرحمة الواسعة، ولا ربح لمنتصرٍ في القتال والحرب ضمن رسالة ومفهوم الأئمة(ع)، وربما حزن الإمام علي(ع) وتوجّع لقتلى العدو كما هو حاله(ع) في حرب الجَمَل، فقد قال(ع): «شفيتُ نفسي، وقتلتُ معشري، إلى الله أشكو عجري وبجري»، وناشد الإمام الحسين(ع) أعداءه أن لا يقبِلوا على استباحة دمه، والجناية بحقه وحق أهل بيته وصحبه(ع)؛ لأن ذلك سيكون سبباً لدخول أعدائه نار جهنم.
لقد تخلّد الخطاب الحسيني عبر الأجيال المتعاقبة، فلم يكن خطاباً مؤقتاً يتوجّه لفئةٍ من الناس أو مرحلةٍ زمنيةٍ معينة، بل كان خطاباً يحمل منهج ثورةٍ شاملةٍ ويؤسّس لمدرسةٍ فكريّةٍ، ينهل منها الأحرار في كلِّ زمانٍ ومكان، فخلود الخطاب الحسيني مقترنٌ بخلود الخطاب القرآني المعجز ومتفرّع عنه كغصنِ شجرةٍ مباركةٍ أصلها ثابت وفرعها في السماء.
إنّ أهم ما يُميّز الخطاب الحسيني هو التنوّع في التراكيب والأسلوب وبلاغة الدلالات المتكاثرة عند تعدد القراءات وتعمّق التحليلات غوراً في استجداء معانيه المتنامية؛ إذ يجد المتأمِّل لذلك الخطاب من الجمل الإنشائية والخبرية المتناسبة مع شأن صدور المقال، والمتسقة مع سبب توجيه الكلام من تهديدٍ أو ترغيب.
إنّ المستند الأول في حوار الإمام الحسين(ع) هو محكمُ القرآن الكريم ذو الحُجّةِ البالغة على جميع مَن اعتنق الإسلام واتّخذه منهجاً لسلوكه وسائر أحواله، ومن خلال استقراء المصادر وجدتُ أنّ استعمال الإمام الحسين(ع) لآي الذكر الحكيم قد تقسّمت أغراضه بين ما يُثبت حقيقة وجود الخالق ووحدانية أمره ونفاذ مشيئته (جلّ وعلا)، وبين ما يُثبت شروط الخلافة الشرعيّة لعباد الله تعالى في أرضه دون مَن سواهم من ملوك وجبابرة، وغرض ثالث استعمله(ع) في إثبات شرعيّة ثورته وسلامة موقفه من حكم الطاغية يزيد، وقد حاولتُ اتّخاذ منهج التحليل قدر جهدي بحثاً في كتب التفسير والكلام من مصادر الفريقين المعتبرة، والخروج بنتائج علميّة تكون حُجّةً لسائر أهل الإسلام ومَن رَغِبَ في معرفة الحقيقة والتمس طريقها، وأرجو أن أكون قد بلغتُ مُرادي بتوفيقٍ من الله تعالى وحسن رعايته.
▪ تمهيد: معنى الحوار وأهميته
المعنى اللغوي والاصطلاحي
الحوار في اللغة من الحور أي: «التردد إمّا بالذات وإمّا بالفكر... والقوم في حوار: في تردد إلى نقصان... والمحاورة والحوار المرادّة في الكلام، ومنه التحاور قال الله تعالى: (وَالله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا).
أمّا معنى الحوار اصطلاحاً، هو: تبادلٌ في الكلام بين اثنين وتناقل المعلومات فيما بينهما والتأثر في الأفكار، وهو ما يجري في المحادثات بين المختلفين محاولة للوصول إلى توافق نسبيّ أو مطلق. إنّ الحوار والجدال لهما معنى النقاش بين طرفين أو أكثر بقصد إظهار حُجّة مُعيّنة، وإثبات حقّ، ورَدّ للفساد.
وعرفّت المحاورة بكونها: «عرض لوجهتي نظر، أو هي نوع من توضيح خصائص مختلفة لأمرين».
▪ أهمية الحوار
الاختلاف بين عاقلة الناس سمةٌ رافقت البشريّة منذ وجودها، وخير سبيل لتفادي آثار الاختلاف السلبية هو الحوار بين الثقافات المتفاوتة والحضارات المتباينة.
إنّ السؤال والاستفسار حالة طبيعية لا بدّ أن يمرّ بها الإنسان الباحث حتّى يصلَ إلى الحقيقة، وخير وسيلة كاشفة عن المبهمات ورافعة للشبهات هي الإعلام الصادح بروح الحوار البنّاء والمتجسّد في ملتقى الخطاب، أو النقاش العلمي، المتوشح برداء الموضوعيّة والمتجرد عن التعصب الأعمى ونكران الذات، فالإعلام الإيجابي له دورٌ كبيرٌ في نقل الحوار الهادف؛ لترسيخ المبادئ في النفوس وإحداث قفزة معنويّة عند الإنسان، كما يستنهض الهمم نحو الصلاح، فالحوار يترك أثراً بليغاً في نفس الإنسان ويُبلور سلوكه واتجاهاته، ولا يخفى أثره في إثارة انتباهه إلى الحقيقة التي يدعو إليها، فيرسّخ الحقّ في ذهن الضال بكيفية جذّابة، وهذا الترسيخ يدعو الإنسان ويحفزّهُ لتجسيد ذلك الحقّ، فمن هنا يتبلور اهتمام الإنسان بضرورة الحوار في نقل الحقائق وهداية الطالب لها.
ولأهمية الحوار فقد حاور الله (سبحانه) الملائكة مع ثبوت حقّ طاعته؛ لكي يُعلِّمنا أساس الحوار، كما تعدّى الأمر تنزلاً بحواره مع الملائكة ليشمل ذلك إبليس أيضاً، فقد حاور المولى تعالى إبليسَ عندما أمره بالسجود لآدم فأبى واستكبر، وكانت الحكمة من ذلك أنْ يُعلِّمنا كيف نُحاور أعداءنا، كما يتجلّى الحوار في حياة الأنبياء والرسل في مُحاورتِهم لأقوامهم خلال الدعوة بأسلوبٍ سلسٍ وليّنٍ متحلِّين بالصبر على ذلك.
لقد اتّبع الإمام الحسين(ع) أُسلوب الحوار مع الآخرين طيلة مدّة إمامته التي استمرت عشر سنوات، فقد تناول الموضوعات العقديّة المتعلّقة بالتوحيد الإلهي وصفاته مستعملاً الآيات القرآنية ومستشهداً بمضمونها البليغ تمهيداً لإثبات الخلافة الإلهيّة ومنها إمامته(ع)، وبطلان حكم مَن سواه من بني أُميّة، ولم يعدم الحوار مع عدوه حتّى في ساحة الحرب رجاء هداية مَن كانت له أُذنٌ واعية، أو دفعه عن إثم التوّرط بدمه الطاهر.
بناءً على ما تقدّم؛ سينقسم البحث إلى ثلاثة مباحث أتناول في أوّلها حوار الإمام الحسين القرآني في إثبات التوحيد وصفات الذات الإلهيّة، والثاني حواره(ع) في إثبات الخلافة الشرعيّة، وفي الثالث حواره(ع) في إثبات أحقيّة موقفه من حكم بني أُميّة وشرعيّة نهضته المباركة.
▪ المبحث الأوّل: حواره(ع) القرآني في إثبات الصانع وصفاته
وجدتْ الحركات المنحرفة عن الدين الإسلامي في عهد بني أُميّة أرضاً خصبة لنمو الشبهات والترويج للضلال، فقد سمح بنو أُميّة للمرجئة والمُجبّرة بممارسة نشاطهم الفكريّ بكلِّ حريّةٍ، بل قدّموا لهم الدعم المادي أيضاً. وكانت فرقة المجبِّرة ـ القائلة بمبدأ خلق الله لأعمال العباد ـ من بدع بني أُميّة خاصّةً، استغلوها في شرعنة حكمهم وتبرير ما يصدر عن ملوكهم من مخالفات شرعيّة صارخة.
لقد انطلق الإمام الحسين(ع) بدافع الشعور بالمسؤولية الشرعيّة متصدياً لتلك العاصفة الصفراء، ومدافعاً عن أصول العقيدة الغرّاء، وذائداً عن الأمانة الكبيرة التي استودعها إيّاه جدّه المصطفى.
كان من أهم المسائل التي حاور فيها أهل الضلال هي مسألة التوحيد الخالص من كلِّ شبهةِ تجسيمٍ أو مثال، فقد استشهد الإمام الحسين(ع) بقوله تعالى: [لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ]، وقوله تعالى: [لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ]، فقد ترجم حواره(ع) منطلقاً من هذه الآية المحكمة لنسف كلِّ شبهةٍ دخلت القلوب الزائغة عن الحقّ. فوقف(ع) بوجه المبطلين مفنِّداً مزاعم أهل الضلال بحوارٍ بليغٍ يستحوذ على مجامع القلوب الهائمة لمعرفة ربِّها والحائرة في زحمة توّهم الشبهات، فقال(ع): «أيُّها النَّاس، اتقوا هؤلاء المارقة الذين يُشبِّهون الله بأنفسهم، يضاهئون قول الذين كفروا من أهل الكتاب، بل هو الله [لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ]، [لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ]...». لقد استهلّ حواره(ع) بجملةِ تهديدٍ ووعيدٍ من خطورةِ الاعتقاد بهذه الشبهات؛ ليُثيرَ انتباه الأذهان إلى ما يخلصهم من دواعي العذاب ومسبباته، فكانت هذه التقدمة من صميم القرآن الكريم وجوهره وصفاً للباري بما وصف به نفسه تعالى في مقابل ما يصفه به أهل الضلال ومريدو الفتن. ثمّ يسترسل(ع) بإثبات التوحيد الإلهي بجميع مراتبه وجميل صفاته وبديع أفعاله (جلّ وعلا) بقوله(ع): «استخلص الوحدانية والجبروت، وأمضى المشيئة، والإرادة، والقدرة، والعلم بما هو كائن، لا منازعَ له في شيءٍ من أمره، ولا كُفو له يعادِلُه، ولا ضِدَّ له ينازعه، ولا سَمِيَّ له يشابهه، ولا مثلَ له يُشاكله».
إنّ من لوازم إثبات صفة التوحيد ونفي الشبيه وفقاً لحوار الإمام الحسين(ع) هو إظهار عظمة الخالق، وبيان قدرته وسعة علمه سبحانه لكلِّ عاقلٍ له قدرة التمييز بين تلك العظمة وجبروتها، وبين صفات مَن يكون للمولى سبحانه شبيهٌ أو مثالٌ ـ بحسب زعم أهل الضلال ـ من ذوي الأجسام المحسوسة؛ لتفرده تعالى بالعظمة فجلَّ عن أن يحيط به شيءٌ من أبصار المخلوقين القاصرة، وذلك يتضمن انتفاء الشبيه فضلاً عن الشريك من أجسام محدودة بذاتها ومتحيّزة، فكونها مُدرَكة بالأبصار من سمات المحدثات أي: محدودة القدرة، وهي ممّا لا تليق بمقام الإلوهيّة، وقد وتنزّه عنها الواجب بذاته، ولو كانت آلهة لكانت محتجبة عن الأبصار.
إنّ سرَّ عظمته (جلَّ وعلا) يتجلّى في سعة علمه ونفاذ مشيئته في خلقه مع احتجابه عنهم، فهو سبحانه يراهم ويدرك أحوالهم ولا يعزب عنه علم مثقال ذرة، فدفع توهم السذج من أهل الضلال يكون ببيان أنّه تعالى لا تدركه الأبصار لتعاليه المنافي للجسمية ولوازمها، وقوله: [وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ] دفع آخر لما يسبق إلى أذهان هؤلاء الذين اعتادوا بالتفكر المادي، وأخلدوا إلى الحسّ، وتجانسوا مع المحسوس حتّى توهمّوا أنّه تعالى إذا ارتفع عن تعلّق الأبصار به خرج حسّه أيضاً عن رؤية المحسوس، وانقطع عن مخلوقاته فلا يعلم بشيءٍ كما أنّه لا يعلم به شيء، ولا يُبصِرُ شيئاً كما لا يُبصِرُهُ شيء، فأجاب تعالى عن هذه الشبهة بقوله: [وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ]، وعلّة الدعوى تكمن في قوله: [وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ]، واللطيف هو ما يُقابل الكثيف أي: الرقيق النافذ في الشيء، والخبير مَن له الخبرة المطلقة، فإذا كان تعالى محيطاً بكلّ شيءٍ حقّاً كان شاهداً على كلّ شيءٍ لا يفقده ظاهر شيء من الأشياء ولا باطنه، فهو تعالى يدرك لمح البصر فضلاً عن المبصَر، والباصرة لا تدرك إلّا المبصَر، فما أعظمه وأجلَّ قدرته سبحانه وتعالى ربُّ العزّة عما يصف المشركون.
لقد ألقى أهل الجاهليّة الأُولى واليهود بضلالهم على مَن انتحل سمة الإسلام ـ حقناً لدمه ـ فصار يبتدع خدعة التشبيه والتجسيم انطلاقاً من واقعه الماديّ، ورفضاً لعبادة ما لا يُرى بالعين الباصرة، وغايته العود بالأُمّة إلى حنثها العظيم وشركها القديم، فتصدّى الإمام الحسين(ع) لتلك الأفكار الضالّة والعقائد المنحرفة صوناً لدين جدّه المصطفى(ص) ووحدة أُمّة الإسلام. لقد خطّ الإمام الحسين(ع) بمداده قبل دمه خارطة التوحيد وسبيل الوصول إلى معرفة الله تعالى، وانتقل بالعقل الإسلامي من جموده على الإدراك المادي إلى التحرر من سجن القصور الذهني والارتقاء بالنفس لرؤية معبودها المجرد عن الحوادث والصفات الماديّة بالبصيرة القلبية، ومنه تتحقق الغاية الإلهيّة من إيجاد الخلق بما ذكره سبحانه: [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ].
لقد سلك الإمام الحسين(ع) طريق أهل الصدق طلباً للجذب بدل الكسب، فاستبدل التحقق بالآثار الماديّة بكسوة ومضة الأنوار الإلهيّة كما ظهر في دعائه يوم عرفة، وهو دعاء مَن سقاه ربّهُ شراباً طهوراً، فصار طاهر السرّ عن النظر إلى غير الساقي، ومصون الضمير عن حبِّ الشراب وإن كان طهوراً؛ لأنّ لا مجال فيها لظهور غير المعبود ولا مطلوب فيها إلّا المعبود ولا مقصود فيها إلّا معرفة المعبود بالمعبود لا بغيره من آيات الآفاق أو الأنفس.
فقد ورد عن الإمام الحسين(ع) في دعاء يوم عرفة قوله: «إلهي ترددي في الآثار يوجب بعد المزار، فاجمعني عليك بخدمة توصلني إليك، كيف يُستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك، أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتّى يكون هو المظهر لك، متى غبت حتّى تحتاج إلى دليل يدل عليك، ومتى بعدت حتّى تكون الآثار هي التي توصل إليك، عميت عين لا تراك عليها رقيباً... إلهي هذا ذلِّي ظاهر بين يديك، وهذا حالي لا يخفى عليك، منك أطلب الوصول إليك وبك أستدل عليك».
لقد تقدّم الاستدلال بتعليل مسلكه(ع) وبيان سببه بقوله: (إلهي ترددي في الآثار يوجب بُعدَ المزار)، وختم استدلاله بالغاية من اعتماد هذه الوسيلة في مسلكه بقوله: (منك أطلب الوصول إليك، وبك أستدلُ عليك)، وهو طريق الخواص (اللِّمّي) الذي يورث القطع بانتقاله من يقينه بالعلّة (الأظهر وجوداً) إلى المعلول، ويقابله طريق العوام (الدليل الإنّي) وهو طريق يورث الظن بانتقاله من المعلول إلى العلّة، فهنا يتحدّ الدالّ والمدلول؛ لأنّه تعالى دلّ على ذاته بذاته دون خلقه، وهو ما انتهجه(ع)؛ لأنّ ما عدا ذلك إمّا استدلال عليه تعالى بآيات الآفاق، وفي ذلك ينحاز كلّ واحد من المستدِلّ والدليل والمدلول حياله، وإمّا استدلال عليه تعالى بآيات الأنفس، وفي ذلك وإن يتّحد المستدِلّ والدليل ولكن ينحاز كلّ منهما عن المدلول، ومعلوم أنّ الدال إذا لم يكن المطلوب إثباته نفسه فلا يمكن أن يدلّ عليه حقّ الدلالة بخلاف ما إذا كان عينه كما في هذا الدعاء البالغ؛ إذ إنّه(ع) استدل بالله على وجود الله وعرفه من ذاته الظاهر، وحكم بأنّه لا ظهور لغيره تعالى حتّى يكون هو المظهر له.
وكما دأب العقلاء في حوارهم مع الآخرين في اعتمادهم على مبدأ إنكار الأفكار المغلوطة أولاً تمهيداً لنفيها (طريق الهدم)، ثمّ يتبعه مبدأ طلب الإقرار بالأفكار الصائبة والإذعان لها تأسيساً بديلاً لسابقتها المغلوطة (طريق البناء)، فقد سار الإمام الحسين(ع) بهذا النحو، إذ بدأ بالإنكار ـ تعميداً لطريق إثباتٍ أرقى من سابقه ومؤيداً له ـ بمبدأ الأولوية أي: مَن كان ثبوته يبدأ من ظهور معلولاته وآثارها وهو المظهر لها فهو أوْلى بثبوت ذاته بذاته، وإثبات معلولاته يكون متأخراً رتبةً وأقلّ ظهوراً.
ومن روائع حواره(ع) ما كتبه للحسن البصري جواباً عن سؤاله حول مبدأ القضاء والقدر، ونقضاً لرأي المجبِّرة القائل بنسبة كلّ أفعال العباد لله جلّ وعلا عن ذلك؛ لغرض تبرير أفعال ملوك بني أُميّة من فسق وقتلٍ للنفس المحترمة، فقد انطلق(ع) من قوله تعالى: [وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَالله أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ]، مفسِّراً للآية بحوارٍ حكيم ابتدأه(ع)، بقوله(ع): «... ومَن حمل المعاصي على الله(عز وجل) فقد افترى على الله افتراءً عظيماً، إنّ الله تبارك وتعالى لا يُطاع بإكراه، ولا يُعصى بغلبة، ولا يهمل العباد في الهلكة، لكنّه المالك لما ملكّهم، والقادر لما عليه أقدرهم، فإن ائتمروا بالطاعة لم يكن الله صادّاً عنها مبطئاً، وإن ائتمروا بالمعصية فشاء أن يمنّ عليهم فيحول بينهم وبين ما ائتمروا به فعل، وإن لم يفعل فليس هو حملهم عليها قسراً، ولا كلّفهم جبراً، بل بتمكينه إيّاهم بعد إعذاره وإنذاره لهم». ولقد ذكرَ بعض أهل التفسير أنّ معنى الآية [وَالله أَمَرَنَا بِهَا] هو: أنّهم ادّعوا أن لو كان الله لا يريد فعلنا لمنعنا عنه بقدرته، ولا دليل لهم على أنّ الله أمرهم بمعنى التشريع، وقد مضى ذمّ التقليد وأفعال الجاهليّة.
فدعوى المجبِّرة باطلة ومخالفة لصريح محكمات الكتاب المجيد لقوله تعالى: [إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا]، وهو ما قرره(ع) بقوله: «إنّ الله تبارك وتعالى لا يُطاع بإكراه»، فمعنى الاختيار واضح من مضمون الآية المباركة وغيرها من الآيات الناطقة بحقّ الاختيار للإنسان في الدنيا في جميع شؤون عقائده وسلوكه، ولا تعني معصيته تفوّق قدرته على قدرة الله تعالى «ولا يُعصى بغلبة»، فلا عجز في مقام الذات المقدّسة، وإنما لها القدرة المطلقة. وهنا قد جمع الإمام الحسين(ع) نفي التفويض والجبر معاً حفظاً لحقّ الله تعالى في صفات الكمال والجلال، فالله تعالى هو مَن وهب الوجود بالحياة والقدرة وعلّم الناس ما ينفعهم، فإن شكروا نعمته أطاعوه باختيارهم عرفاناً لإحسانه، وإن كفروا نعمته خالفوا شريعته بمشيئته دون أمره سبحانه، فهم وإن كانت طاقتهم وقوّتهم من جملة أفضاله وأنعامه، لكنّهم عصوا أمر خالقهم ولم يخرجوا عن حدِّ مشيئته فلو شاء الله لمنعهم عن معصيته ولهداهم سبيله ولكن حقّ عليهم العذاب بعد الإنذار بما قدّمت أيديهم وبسبب عنادهم بعد معرفتهم للحجج الدامغة.
▪ خلاصة المبحث
انبرى الإمام الحسين(ع) من خلال حواره القرآني إلى إثبات كمال الصفات للباري بما ورثه عن أهل بيت الرحمة(ع)، ونفي ما لا يليق عنها كالجسميّة الماديّة والأحوال البشريّة؛ ليدحضَ مخططات آل أُميّة الرامية لعودة الناس إلى شرك الجاهليّة وعبودية الأصنام الماديّة والبشريّة.
إنّ مسلسل مؤامرات بني أُميّة لم يتوقف عند هذا الحدِّ، بل سجّل محاولةً أُخرى ـ من محاولات كثيرة ـ تصدّى لها الإمام الحسين(ع) في النقض على بدعة الجبرية (عقيدة خلق الأعمال)؛ لأنّ خطرها يكمن في شرعنة حكومة آل أُميّة رغم انتهاكهم للحرمات، فما كان من الإمام الحسين(ع) إلّا أن يُثبت فساد هذه الدعوى انطلاقاً من تذكير الناس بآيات الله الصادحة بحقيقة أنّ الله تعالى لا يُكره الناس على طاعته ولا يُجبرهم على معصيته، ولا يختار الملوك بإرادته وإن أذن بمشيئته بعد تحقق مقتضى الأسباب الطبيعية (الفصل بين الأمر والمشيئة)، فهو أمرٌ بينهما يتلخص في بيان أنّ الله أمرَ الناس بلزوم أوامره واجتناب نواهيه مع حفظ حقّ اختيارهم؛ لكي يُثيب المطيعين بجنته ويُعذِّب العاصين بناره، فليس ما ارتكبه العاصي بأمر الله تعالى ولا بخارجٍ عن قدرته سبحانه، بل شاء الله أن تجري الأُمور وفقاً لطبيعة نظام العليِّة، فإنّ الأسباب وإن كانت تجري بقدرته اختباراً لعباده، ولكنّ الحوادث لا تقع إلّا بمشيئته (جلّ وعلا) حفظاً لسلطنته وقدرته، فإن شاء وقعت وإن لم يشأ لم تقع.
وبذلك فقد هدّم الإمام الحسين(ع) المخطط الأُموي معنوياً تمهيداً لإذكاء أوار الثورة بعد سحب بساط الشرعيّة من تحت هذه الفئة الضالة.
انتهی الجزء الأول ویلیه الجزء الثاني والأخیر في العدد المستقبل
المصدر: مجلة الاصلاح الحسیني، العدد الحادي والثلاثون