□ مقالة/ الجزء الأول
المنهج العلمي في ترتيب الأدلة الاجتهادية
□ محمّد مهدي الآصفي
□ الانتباه: الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي «الآفاق» بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
توحيد (الاجتهاد) والبحث عن صيغ ورؤى متقاربة في عملية الاجتهاد من أهم عوامل التقارب بين المذاهب الإسلاميّة المختلفة في الفقه والكلام.
وأقصد بتوحيد (الاجتهاد) أمرين:
الأول:التفاهم على الحجج والأدلة التي يمكن الوصول إلى رأي مشترك في إثبات حجيتها واعتمادها في الاحتجاج والاستدلال.
والثاني التفاهم على منهج علمي واحد في استخدام وتوظيف هذه الأدلة في الاستدلال واستنباط الحكم الشرعي. وهو ما نقصده بالذات في هذه الدراسة.
وقد قدم فقهاء الشيعة الإمامية في (ترتيب الأدلة الاجتهادية) وتنظيم المنهج العلمي في الاستدلال وتقديم بعض الأدلة، بعض دراسات عملية عقلية.
وقد تكاملت هذه الدراسات وبلغت نضجها العلمي على يد فقيهين كبيرين تعاقبا على موقع الريادة في علم الأصول في القرنين الثاني عشر والثالث عشر في مدرسة كربلاء ومدرسة النجف، وهما مدرستان علميتان بارزتان في تاريخ الفقه والأصول لدى الشيعة الإمامية.
وهذان الفقيهان هما الوحيد البهبهاني (1118-1205هـ) والشيخ الأنصاري (1214 ـ 1281 هـ ) ونحن نعتقد أن المنهج العلمي الذي تمخضت عنه هذه المدرسة يصلح أن يكون أساساً علمياً جيدا لتوحيد المنهج العلمي في الاستدلال وترتيب الأدلة والحجج، إذا عرض على دراسات نقدية من قبل فقهاء المذاهب الإسلاميّة.
وفيما يلي أحاول ـ إنّ شاء الله ـ تقديم صورة موجزة عن المنهج العلمي لهذه المدرسة في ترتيب الأدلة الاجتهادية وتقديم بعضها على بعض والمنهج العلمي لتوظيفها في الاستنباط. وقد اقتبست هذه الدراسة من دراسة سابقة في هذا الموضوع كنت قد أعددتها من قبل عن مدرسة الشيخ الأنصار(قد) في الأصول.
على أمل أن يتم تقديم دراسة علمية مشابهة لتوحيد الحجج والأدلة الفقهية التي يمكن الوصول إلى رأي فقهي مشترك في إثبات حجيتها وإمكان اعتمادها في الاستنباط.
وإذا تمت هذه النقطة وتلك على أساس علمي دقيق أمكن الوصول إلى اجتهادات فقهية مشتركة أو متقاربة في طائفة واسعة من المسائل المختلف فيها في العبادات والمعاملات بالمعنى الأعم).
وسوف نتحدث في هذه الدراسة بإيجاز عن النقاط التالية:
1 ـ تعريف الحجة والدليل في اللغة والاصطلاح.
2 ـ الحجة الذاتية والحجة بالعرض.
3 ـ مبدأ الاستناد إلى الحجة.
4 ـ منهج ترتيب الحجج من حيث الاستناد.
5 ـ تقسيم الدليل إلى (الإمارات) و(الأصول).
6 ـ تقسيم مفاد الدليل إلى الأحكام والوظائف العملية.
7 ـ ترتيب الأدلة وتقديم بعضها على بعض.
وهذه النقاط مترتبة ومتسلسلة يترتب بعضها على بعض، وفيما يلي نقدم ـ إن شاء الله- شرحا إجماليا لهذه النقاط في ضوء آخر متبنيات مدرسة الأصول عند الشيعة الإمامية. ومعظم أفكار هذه المدرسة الفقيهين:الوحيد البهبهاني والشيخ الأنصاري.
▪ 1 ـ تعريف الحجة والدليل في اللغة والاصطلاح:
الحجة في اللغة كلّ ما يثبت به الإنسان دعواه، ويغلب به على خصمه.
وفي المصطلح العلمي الخاص:تختلف الحجة في المنطق عنها في الأصول.
ففي المنطق نطلق (الحجة) على مجموعة من القضايا المؤتلفة والمعلومة التي تؤدي إلى استحصال المعرفة والعلم بمجهول تصديقي.
وللحجة مصطلح آخر عند أهل المنطق وهو الحدّ الوسط، لأن الحدّ الأوسط في البرهان لا يخلو من أن يكون علة لثبوت الأكبر للأصغر؛ فيكون البرهان (لمياً)، أو يكون الحدّ الأوسط معلولاً للأكبر وليس علة، أو يكون الحدّ الأوسط والأكبر معاً معلولين لعلة ثالثة فيكون البرهان (انياً). وعلى كلّ حال يكون الحدّ الأوسط علة لإثبات الأكبر للأصغر وهو (النتيجة).
وأما (الحجة) عند الأصوليين فهو ما يؤدي إلى إثبات حكم شرعي أو وظيفة شرعية أو عقلية بصورة قطعية.
فمن الحجج ما يؤدي إلى حكم شرعي كالكتاب والسنة والعقل، ومنه ما يؤدي إلى وظيفة شرعية أو عقلية كالأصول الأربعة (الأدلة الفقاهتية).
وتتقدم (الحجة) دائماً بالقطع، ولابد أن تؤدي الحجة إلى إثبات ما يثبته من الحكم والوظيفة الشرعية والعقلية بالقطع، ومن دون القطع لن تكون الحجة حجة.
▪ 2 ـ الحجة الذاتية والحجة بالعرض:
وقد تكون الحجية ذاتية للحجة كما في حجية القطع نفسه، وقد تكون حجية الحجة غير ذاتية. وحجية هذه الحجج (غير الذاتية) لابد أن تنتهي إلى القطع، ولو بعدة وسائط، فلا تكون الحجة حجة إلاّ إذا كانت متقومة بالقطع مباشرة أو بالواسطة.
وبتعبير آخر:الحجة أما أن تكون ذاتية وهي القطع فلا تحتاج إلى جعل للحجية، وأما أن تكون (الحجة) مجعولة من ناحية الشارع جعلاً قطعياً وهي الحجة بالعرض.
ولا يصح إسناد حكم إلى الله تعالى من دون الاستناد إلى الحجة، ولن تكون الحجة حجة دون أن تنتهي إلى القطع والشك في الحجية يساوق عدمها، لأن قوام الحجة اليقين وهذا أمر مهم، وعلى درجة عالية من الأهمية في بحث الحجج.
▪ 3 ـ مبدأ الاستناد إلى الحجة:
التزم فقهاء الإمامية بمبدأ الاستناد إلى الحجة وقالوا:إنّ الدليل ما لم يبلغ حد القطع والعلم لا يكون حجة ولا يجوز الاستدلال به والاستناد إليه في استنباط الحكم الشرعي. كما لا يجوز التـنزل من الحجة إلى اللاحجة عند فقدان الحجة على الحكم الشرعي. ومهما شككنا في حجية دليل، فإن الشك فيه يساوق عدم الحجية، لأن قوام الحجية القطع، فإذا تسرب الشط إليه اثلم القطع، وبه تنثلم الحجية. أذن لا يكون الدليل حجة إلاّ إذا كان بذاته علما وقطعا أو كان يعتمد في حجيته دليلاً قطعياً ولو بعدة وسائط. وأما الأدلة الظنية التي لا توجب القطع ولا تعتمد على دليل قطعي فلا تكون حجة.
وما لم نعلم علماء يقينيا بأن الشارع قد اعتمد سبيلا من السبل الظنية واعتبره وتعبدنا به لا يجوز لنا أن نتمسك به ونسند مفاده إلى الله. وهذا أصل مهم في الاستنباط، ويستدل الشيخ الأنصاري قدس سره على ذلك بالأدلة الأربعة:
فمن الكتاب العزيز يقول تعالى(... إنّ يتبعون إلاّ الظن وإن هم إلاّ يخرصون) [ويقول تعالى:](... قل الله أذن لكم أم على الله تفترون).
وبموجب هذه الآية المباركة إسناد كلّ ما لم يأذن به الله تعالى إلى الله من الافتراء على الله القبيح عقلا والمحرم شرعاً، وليس من الإذن والافتراء فاصل.
ومن السنة الشريفة يستدل بما رواه الحر العاملي(قد): «رجل قضى بالحق وهو لا يعلم».
ومن الإجماع ما ادعاه الوحيد البهبهاني(قد) من أن حرمة العمل بما لا يعلم من البديهيات عند العوام فضلاً عن الخواص.
ومن العقل اتفاق العقلاء على تقبيح الافتراء على الله تعالى.
ولا يخرج المكلف والفقيه من حالة الافتراء إلاّ إذا استند إلى حجة قطعية في اعتبار الظن، فإذا قامت حجة قطعية على اعتبار ظن خاص كان ذلك الظن حجة بها، ومستندا إليها ومن دون ذلك لا يكون الظن حجة.
وهذا أصل مهم في باب الحجج ذكرناه من قبل وأطلقنا عليه عنوان الاستناد إلى الحجة.
ومحصل هذا الأصل:أن الظن ليس بحجة بذاته ولا يجوز اعتماده والاستناد إليه بالنظر إلى ذاته، وإنّما يكون الظن حجة شرعا إذا قام على حجيته دليل علمي من ناحية الشارع، فيكون الظن حجة من ناحية ذلك الدليل وليس بذاته. فإذا كان هذا الدليل دليلاً قطعياً بذاته انقطع السؤال، وإن لم يكن دليلاً قطعياً بذاته كان لابد أن ينتهي إلى دليل قطعي.
وبتعبير أوضح:أن حجية الظن عرضية وليست ذاتية، فلابد أن تنتهي حجية كلّ ظن ثبتت حجيته شرعا إلى القطع ولو بعدة وسائط. فإذا انتهت سلسلة الحجية إلى القطع كان ذلك القطع هو الحجة ومبدأ الحجية في هذه السلسلة، تطبيقا للقاعدة العقلية المعروفة (ما بالعرض لابد أن ينتهي إلى ما بالذات).
حجية الظنون الخاصة:
وهذه هي النقطة الثالثة في بحث الشيخ(قد) في باب الظن، و(الظن الخاص) مصطلح محدد يذكر في مقابل (الظن المطلق).
ويقصد (بالظن الخاص) ما ثبتت حجيته بدليل علمي في مقابل (الظن المطلق) الوارد في دليل الانسداد في بحث حجية مطلق الظن، وأن لم يرد دليل شرعي خاص على حجيته.
والبحث عن الظنون الخاصة يعتبر الجانب التطبيقي والمصداقي لبحث الظن، ولهذا البحث أهمية كبرى في علم الأصول. فنحن إذا رفضنا حجية مطلق الظن واقتصرنا في مسألة الحجية على الظنون الخاصة التي تثبت حجيتها بدليل علمي فلابد أن نعرف ونشخص هذه الظنون الخاصة لنوظفها في عملية الاستنباط والاجتهاد لاكتشاف الحكم الشرعي. ولكي نتمكن من اكتشاف الحكم الشرعي لابد لنا من أن نتثبت من حجية أخبار الآحاد التي بين أيدينا، ونتأكد من دلالتها على المعنى الظاهر منها، ونتأكد من جهة صدورها.
والوسائل والأدوات العلمية التي تمكننا من ذلك هي في الغالب وسائل وأدوات ظنية من حيث هي، ولابد لنا في هذا البحث من أن نتثبت من اعتماد الشارع لها واعتبارها ومنحها الحجية ليصح لنا أن نوظفها في اكتشاف الحكم الشرعي.
وهذه الظنون على طائفتين:
الطائفة الأولى:الأدلة والحجج الشرعية على الحكم الشرعي (أو ما يسمى بالطرق والامارات) كالسنة غير المتواترة والإجماع والشهرة.
والطائفة الثانية:المنهج والأسلوب العلمي الذي نوظفه للاستفادة من هذه الطرق في سبيل اكتشاف الحكم الشرعي مثل مسألة حجية الظهور.
فإن ظهور الدليل في مؤداه ليس التنصيص والتصريح كثيراً، وإذا توقفنا عن الأخذ بظهور الأدلة اللفظية بسبب عدم الصراحة والتنصيص ألغينا طائفة واسعة من الروايات والأخبار الظاهرة في معانيها غير الصريحة، وحجية الظهور تمكننا من الاستفادة من هذه الروايات.
والبحث عن حجية الظهور قد يكون بحثاً كبرويا (كليا) في أصل الحجية، ومستند العلماء في حجية الظهور هو طريقة العقلاء في الأخذ بالظهور في معاشهم ومعاملاتهم وعلاقاتهم، ولولا ذلك الأخذ لاختلت حياتهم، والشارع لم يلغ هذه الطريقة بل أمضاها، واعتبرها باعتباره سيدهم ورئيسهم، وإمضاء الشارع لطريقة العقلاء يكفي في حجيتها.
وقد يكون البحث في حجية الظهور بحثا صغرويا كالبحث عن ظهور الأمر في الوجوب والفور، والبحث عن ظهور الأمر عقيب الحظر في الإباحة. وتتكفل مباحث الألفاظ في الأبحاث الأصولية عادة بمثل الأبحاث الصغروية ويطلق عليها عنوان (المبادئ) بخلاف الجانب الكبروي من المسألة ـ وهو أصل مسألة حجية الظهور ـ فإنه يعتبر من صلب المسائل الأصولية.
▪ 4 ـ منهج ترتيب الحجج من حيث الإسناد:
ويتم ترتيب الحجج في الحجية وفي الاستناد إلى المنهج التالي، وهو المنهج الذي يقترحه المحقق الخراساني في كفاية الأصول في تعديل منهج أستاذه الشيخ الأنصاري في ترتيب الحجج: يقول(قد):«فالأولى أن يقال أن المكلف أما أن يحصل له القطع اولا، وعلى الثاني أما أن يقوم عنده طريق معتبر أولا».
وتوضيح هذا الترتيب:
1 ـ أن المكلف إذا حصل له القطع بالحكم الشرعي فيعمل به بالضرورة، فإن القطع منجز للتكليف في حالة الإصابة، ومعذر عند دم الإصابة والمخالفة، والتنجيز والتعذير لازمان عقليان للقطع بالحكم الشرعي.
2 ـ وإذا لم يقطع المكلف بالحكم الشارع، وهو ما سميناه في العنوان السابق الحجة بالعرض في مقابل الحجة بالذات، وهو القطع وهذا الطائفة من الأدلة الظنية التي ثبت اعتبارها بدليل شرعي معتبر تسمى عادة (الإمارات) و(الطرق) و(الظنون الخاصة) وذلك مثل (خبر الثقة الواحد) و(الإجماع) و(الشهرة) وغير ذلك من الأدلة الظنية التي اعتبرها الشارع وتعبدنا بها.
3 ـ وان لم يتيسر للمكلف طريق معتبر (دليل ظني معتبر) يرجع إلى الأصول العملية التي تقرر وظيفة المكلف في حالة عدم تمكنه من دليل ظني معتبر.
حالة الاستيعاب والترتب في الحجج:
وهذه المخمصة الجديدة في بحث الحجج تجمع من أمرين:الأول منهما استيعاب كلّ الحجج وبصورة كاملة فلا تبقى حجة من الحجج ذاتية أو مجعولة تفيد حكما شرعياً أم وظيفة عقلية أو شعرية إلاّ وتدخل ضمن هذه المنهجية، كما سنوضح ذلك أن شاء الله فيما يأتي.
والميزة الأخرى لهذه المنهجية الترتيب والحالة الطولية في عرض الحجج، فالقطع وهو انكشاف الواقع يتقدم على كلّ حجة أخرى ولا تزاحمه حجة، مهما كانت، وبعد ذلك يأتي دور الطريق والأمارات التي اعتبرها الشارع، وهي حجة في حالة عدم انكشاف الواقع وفقدان القطع، وأن تمكن المكلف من الوصول إلى القطع بالحكم الشرعي فهي حالة مترتبة على الحالة الأولى، بمعنى أن حجية الطرق والأمارات المعتبرة تأتي في حالة غياب القطع وعدم انكشاف الواقع، ومع انكشاف الواقع والقطع بالحكم الشرعي لا يصح الاعتماد على هذه الطرق والامارات وإن كان لا يجب على المكلف أن يسعى للوصول إلى القطع.
والحالة الثالثة مترتبة على فقدان الحالة الثانية، فإن المكلف إنّما يصح له الرجوع إلى الأصول العملية الشرعية والعقلية في حالة غياب وفقدان الطرق والأمارات المعتبرة شرعا، وبعد الفحص عنها واليأس منها بالمقدار المتعارف.
▪ 5 ـ تقسيم الدليل إلى الأمارات والأصول:
ومن الشرح المتقدم يتضح أن المكلف إذا لم يقطع بالحكم الشرعي فلابد أن يعمل بالأمارات والأدلة الظنية التي ثبت اعتبارها بدليل شرعي معتبر.
وإذا فقد المكلف هذه الطرق الظنية المعتبرة، ولم يتيسر له طريق معتبر شرعا إلى الحكم الشرعي كان المورد مجرى لأحد (الأصول) المعروفة الجارية في الشبهات الحكمية أو الموضوعية.
أقسام الأصول:
وهذه الأصول بعضها عقلي كالبراءة والاحتياط العقليين، وبعضها شرعي كالاستصحاب والبراءة الشرعية. ومنها ما يخص الشبهات الموضوعية الخارجية أي ما يكون اللبس والشك في الموضوع الخارجي وليس في الحكم الشرعي وذلك كقاعدة الفراغ والتجاوز وقاعدة سوق المسلمين وقاعدة أصالة الصحة في فعل الغير وغير ذلك.
ومنها ما يعم الشبهات الموضوعية والحكمية (أي ما يكون الشك فيه في الموضوع الخارجي أو الحكم الشرعي)... وأهم هذه الأصول التي تعم الشبهات الحكمية والموضوعية هي الأصول العملية الأربعة المعروفة التي يبحث فيها علماء الأصول في باب الشك.
وهذه الأحكام الظاهرية التي تجرى عند الشك متميزة عن الأمارات الظنية أنها تفقد صفة الكشف عن الحكم الواقعي ولا تكسب الشاك رؤية إلى الحكم الشرعي الواقعي، أو إلى الموضوع الخارجي ذي الأثر الشرعي بعكس الأمارات فأنها تملك في حد نفسها درجة من الكشف عن الواقع. غير أنها ضعيفة وغير كاملة، فيتممها الشارع بالاعتبار الشرعي، بإلغاء احتمال الخلاف واعتبار ما تؤدي إليه الامارة (كالخبر مثلاً) هو الحكم الشرعي الواقعي.
أما الأصول الشرعية والعقلية التي تجري في مورد الشك فتفقد هذه الخصوصية الناقصة عن الكشف، ولا تكسب الشك في الحكم الشرعي رؤية إلى الحكم وإنّما تقرر له وظيفته العملية في ظرف الشك فقط.
ومن هذا المنطلق بدأت تختمر عند علماء الأصول فكرة تفكيك الأصول عن الامارات والطرق، وفرز أحداهما عن الأخرى.
وهذا التفكيك بين الامارات والأصول ظهر كما يبدو ولأول مرة على يد الوحيد البهبهاني(قد) إلاّ أن الوحيد اقتصر فقط على التفكيك بينهما دون أن يجعل من هذا التفكيك أساساً لتغيير منهج الدراسات الأصولية، ودون أن يتناول بالبحث الآثار العلمية الكبرى لهذا التفكيك.
أما الشيخ فقد جعل من التفكيك بين الامارات والأصول أساساً لمنهجه الحديث في علم الأصول وتناول الآثار والنتائج المترتبة على هذا التفكيك بشكل علمي وعميق وخرج نتيجة لذلك بتصورات وأفكار جديدة في علم الأصول. يقول الشيخ قدس سره في أول المقصد الثالث عن صاحب الفرائد وهو بحث (الشك):
قال الشيخ في اول المقصد الثالث وهو بحث الشك من كتاب (فرائد الأصول):
قد عرفت أن القطع حجة في نفسه لا بجعل جاعل، والظن يمكن أن يعتبر في الطرف المظنون لأنه كاشف عنه ظنا لكن العمل به والاعتماد عليه في الشرعيات موقوف على وقوع التعبد به شرعا وهو غير واقع إلاّ في الجملة. وقد ذكرنا موارد وقوعه في الأحكام الشرعية في الجزء الأول من هذا الكتاب وأما الشك فلما لم يكن فيه كشف أصلاً لم يعقل فيه أن يعتبر فلو ورد في مورده حكم شرعي كان يقول الواقعة المشكوك حكمها كذا كان حكما ظاهرياً لكونه مقابلاً للحكم الواقعي المشكوك بالفرض ويطلق عليه الواقعي الثانوي أيضاً لأنه حكم واقعي للواقعة المشكوك في حكمها وثانوي بالنسبة إلى ذلك الحكم المشكوك فيه لأن موضوع هذا الحكم الظاهري وهو الواقعة المشكوك في حكمها لا يتحقق إلاّ بعد تصور حكم نفس الواقعة والشك فيه. مثلاً (شرب التتن) في نفسه له حكم وفرضنا فيما نحن فيه شك المكلف فيه، فإذا فرضنا ورود حكم شرعي لهذا الفعل المشكوك الحكم كان هذا الحكم الوارد متأخرا طبعا عن ذلك المشكوك فذلك الحكم حكم واقعي بقول مطلق وهذا الوارد ظاهري لكونه المعمول به في الظن وواقعي ثانوي لأنه متأخر عن ذلك الحكم لتأخر موضوعه عنه، ويسمى الدليل الدال على هذا الحكم الظاهري أصلا، وأما ما دل على الحكم الأول علما وظنا معتبرا فيختص باسم الدليل وقد يقيد بالاجتهادي، كما أن الأول قد يسمى بالدليل مقيدا بالفقاهتي وهذان القيدان اصطلاحان من الوحيد البهبهاني لمناسبة مذكورة في تعريف الفقه والاجتهاد، ثم أن الظن غير المعتبر حكمه حكم الشك كما لا يخفى. ومما ذكرنا من تأخر مرتبة الحكم الظاهري عن الحكم الواقعي لأجل تقييد موضوعه بالشك في الحكم الواقعي يظهر لك وجه تقديم الأدلة على الأصول، لأن موضوع الأصول يرتفع بوجود الدليل، فلا معارضة بينهما، لا لعدم اتحاد الموضوع بل لارتفاع موضوع الأصل وهو الشك لوجود الدليل.
المنهجية الجديدة لعلم الأصول:
ومهما يكن من أمر فان الشيخ الأنصاري قد وضع في هذا التقسيم الذي ذكره للدليل أساساً قويا لمنهجية جديدة تماماً في علم الأصول، وجعل منه منطلقاً جديداً لعلم الأصول، وانطلق منه إلى اكتشاف ودراسة الآثار والنتائج العلمية الكبرى المترتبة على هذا التفكيك.
وعلى هذا الأساس ادخل الشيخ الأنصاري الأدلة الاجتهادية في المقصد الثاني من كتابه، في بحث الظن كالبحث عن خبر الواحد والإجماع والسيرة والشهرة، وهي الفقاهتية) وهي الأصول العملية الأربعة في المقصد الثالث وهو مبحث الشك.
وقسم الشيخ الأنصاري الأصول العملية الأساسية التي تجري في ظرف الشك إلى أربعة أقسام حصرا عقليا ودقيقاً؛ فقال في أول كتابه (الفرائد): فاعلم أن المكلف إذا التفت إلى حكم شرعي فأما أن يحصل له الشك فيه أو القطع أو الظن؛ فان حصل له الشك فالمرجع فيه في القواعد الشرعية الثابتة للشاك في مقام العمل، وتسمى بالأصول العلمية،وهي منحصرة في الأربعة لأن الشك أما أن يلاحظ فيه الحالة السابقة أم لا، وعلى الثاني فأما أن يمكن الاحتياط أم لا، وعلى الأول فأما أن يكون الشك في التكليف أو المكلف به.
فالأول مجرى الاستصاحب، والثاني مجرى التخيير، والثالث مجرى أصالة البراءة، والرابع مجرى قاعدة الاحتياط.
وبعبارة أخرى:الشك أما أن يلاحظ فيه الحالة السابقة أولا، فالأول مجرى الاستصحاب، والثاني أما أن يمكن الاحتياط فيه أولا، فالأول مجرى قاعدة الاحتياط والثاني مجرى قاعدة التخيير.
وما ذكرنا هو المختار في مجاري الأصول الأربعة وهو تنظيم جديد وجيد وقائم على أساس علمي متين.
وعلى هذا الأساس استقر علماء الأصول في تنظيم أبحاث الأصول منذ عهد الشيخ الأنصاري إلى اليوم الحاضر. وهذا التمييز بين الأدلة الاجتهادية والفقاهتية وتبويب الأدلة على أساس منها ما يختص به فقهاء الإمامية المعاصرون منذ عصر الشيخ الأنصاري إلى الوقت الحاضر... وعند ما نرجع إلى كتب الأصول للمذاهب السنية، المعاصرة منها والقديمة، لا نجد مثل هذا التفكيك، ونرى أنهم يذكرون هذه الأدلة في عرض واحد، فالكتاب والسنة والإجماع تذكر في عرض القياس والاستحسان، وهما يذكران في عرض الاستصحاب.
المصدر: الموقع الإلکتروني
للمجمع العالمي للتقریب بین المذاهب الاسلامیة