□ حوار/ الجزء الرابع والأخیر
الثّابت والمتغيِّر في الشّريعة في حوار مع آيةالله الشيخ عيسى أحمد قاسم
▪ السّؤال الرّابع: هل تتأثّر مساحة التغيّر في الشّريعة ضيقاً وسعةً بالاجتهاد وفهم الفقيه؟
بدايةً درجة فهم النّصّ تؤثّر في الاستنباط، ثمّ هناك نكات وقرائن عرفيّة قد يستفاد منها العموم لبعض النّصوص الواردة، فقد يأتي دليلٌ في قضيّة خاصّة، فكيف استفيد منه حكماً شرعيّاً عامّاً أو كلّيّاً؟ بهذا المسمّى لا يكون، ولكن قد توجد قرائن ونكات في دليل الحادثة الجزئيّة فلو اكتشفها الفقيه تعطيه فهماً بعموم الحكم، فانكشاف هذه النّكات وهذه القرائن يختلف من فقيه إلى آخر، وقد يكتشفها (ألِف) ولا يكتشفها (باء)، وإن اكتشفاها معاً قد يوافق على كفايتها (ألِف) وقد لا يوافق على كفايتها (باء).
(ألِف) الذي استفاد أنّ هذا الدليل في الحادثة المعيّنة لا يريد القول أنّ الحكم الشّرعيّ في هذه الحادثة المعينة فقط، وإنّما هناك حادثة تماثلها فيستطيع أن يستنبط منها قانوناً كلّيّاً، فهذا الفقيه سيكون أقدر على مواجهة المستجدّات من الفقيه الذي ذهب به الفهم أنّ هذا الدليل يخصّ هذه الحادثة.
من يأخذ بمناسبة الحكم والموضوع؛ فبعض الفقهاء يأخذ بها وبعضهم لا يأخذ بها، فالآخذ بمناسبات الحكم والموضوع سيستنتج قاعدة كلّية دون صاحبه وهو أقدر على مواجهة المستجدات. مثال: «دم الرّعاف نجس» فالخبر يتكلّم عن الرّعاف، الفقيه يقول إنّ العلاقة بين النجاسة ودم الرّعاف لا دخل للرّعافيّة فيه، فالنجاسة إنّما للدم وليست للدم بما هو رعاف.
فلو افترضنا أنّه لا يوجد في نجاسة الدم إلّا هذا الحديث، فالفقيه الذي يرى أنّ المناسبة لجعل الدّم نجساً هو كونه دماً وليس كونه دم رعاف سيستنتج أنّ كلّ دمٍ نجس، أمّا الفقيه الآخر الذي لم يذهب أنّ المناسبة هي هذه، سيقول بأنّ دم الرّعاف نجس، ولا أقول أنّ كلّ دم نجس فليس لديّ دليل. فتختلف السعة بين الفقيه الأوّل والثّاني. الأخذ بمفهوم الموافقة فينفتح الباب أمامه للكثير من القضايا بدرجةٍ أكبر.
وليُ الأمر ومسألة الولاية والتي تسمح لصاحبها أن يستنبط ما يحفظ النّظام الإسلاميّ والمصلحة الإسلاميّة ومصلحة المسلمين، والمحافظة على النّظام العام، ويغطّي هذه المساحة بالأحكام والمستجدّات الأخرى. فوليّ الأمر مرّة يذهب الفقيه بأنّ ولايته في الأمور الحسبيّة، وهو يتيم فاقد للوليّ والجدّ من الأب، فهنا الفقيه -بما هو فقيه- يُعْمِل ولايته في هذا الشأن في حدود الأمور الحسبيّة.
ففي شؤون الدّولة الإسلاميّة التي لا وليّ لها، فهناك أمور تتوقّف عليها مصلحة الدّولة والنّظام، وهذه الأمور لو ضُيّعت لسقط النّظام بالكامل، ويتأثّر المسلمون تأثّراً سلبيّاً جدّاً، فهنا في الأمور الضّروريّة والتي يقطع بألّا يصحّ إهمالها وليس لها متولٍّ فيُعمِل ولايته فيها.
الدائرة الثّانية وهي منطقة الفراغ -وهي أوسع- وهي منطقة أحكام الإباحة بالمعنى الأعمّ، والإباحة بالمعنى الأعمّ تشمل المكروه والمستحبّ، فما تعادل طرفَا الترك والفعل فهو مباح، وترجّح فيه جانب الفعل ترجّحاً لا يوجبه فهو مستحبّ ويدخل في المباح بالمعنى الأعمّ. وفعلٌ تركه أولى -الترجّح مع تركه- فهو فعل مكروه وهو يدخل في المباح بالمعنى الأعمّ، فالولاية للفقيه في حدود المباح في المعنى الأعمّ، وأمّا حرام يتحوّل إلى مباح، أو واجب يرفع عنه الوجوب، فهناك طرق أخرى كالتزاحم التي يخرج الحكم فيها عن عنوانه الأوّليّ من الوجوب لعدم الوجوب فهذا العنوان ثانويّ، وهنا الكلام حول إعمال الولاية، فمرّة يكون في الأمور الحسبيّة وأخرى في منطقة الفراغ وهي أوسع من دائرة الأمور الحسبيّة.
فربّما لا يكون الأمرُ ضروريّاً بدرجة عالية ولكن لا يوجد حكم إلزاميٌ بالنّسبة إليه، فالفقيه يُعمِل ولايةً في مقتضى مصلحة الإسلام والمسلمين وإن لم يكن الأمر لا يصحّ تضييعه، وتضييعه يهلِك، وما علمنا بأنّه لا يصح تضييعه، فبما أنّه مباح ومن مصلحة الإسلام والمسلمين فالفقيه يتصرّف، فيوجِب ما هو مباح أو يحرّم ما هو مباح، فله هذه الولاية وهذه الولاية أوسع إطاراً.
وهناك ولاية ثالثة وهي أوسع من الاثنتين وهي الولاية التي يقول بها الإمام الخمينيّ(قد) التي تُعطي الفقيه حقّ التّصرّف بما للمعصوم من التّصرّف إلّا ببعض الموارد المعلوم أنّ المعصوم مختصّ بها كالجهاد الابتدائيّ كما هو على رأي بعض الفقهاء، وأنّ الاجتهاد الابتدائيّ لا يكون إلّا بإذن الإمام(ع).
وبعضهم عندهم حتى في مورد الحرام والواجب يأتي تصرّف الوليّ الفقيه، وهذا يجعل لدينا اختلافاً في مساحة المتغيِّر في الشّريعة ضيقاً وسعةً بحسب ما عليه اجتهاد المجتهد.
▪ السّؤال الخامس: ما هو الرّابط بين المتغيِّر في الشّريعة ومساحة الفراغ التي نسمع عنها؟
هذه النظريّة تقول: إنّ الشّريعة عبارة عن أحكام إلزاميّة من وجوب وحرمة، وأحكام غير إلزاميّة وهي المباح بالمعنى الأعمّ بما يشمل المباح وهذا هو المباح بالمعنى الأخصّ أو مستحبّاً أو مكروهاً. يقول إنّه أُعطي لوليّ الأمر أن يُلزم بالمباح، وإذا ألزم بالمباح وجب، ولكن فعلاً هذا المباح صار واجباً في حقِّك أو حقّي، ومن ناحية فعليّة صرتُ أنا مخاطَباً بوجوب وليس بإباحة؛ لأنّه أُعطي ولاية الأمر بوجود دليل شرعيّ الذي يوجب على المكلّفين طاعته في هذه الأمر. فالنّبيّ(ص) له جنبتان: جنبة التّبليغ، وجنبة ولاية الأمر، فقد يأتي بالحكم مبلِّغاً عن الله؟عز؟، فكونه حاكماً بما هو رسول، وتجب طاعته كما بلّغ وتجب طاعته فيما أمر وفيما نهى عنه بما هي أوامر ولائيّة.
الفقيه مبلِّغ والاستنباط يقوم مقام التبليغ، فالفتاوى تقوم مكان التبليغ ولها حجّيّتها، والدليل الشّرعيّ قام على حجّيّة هذه الفتاوى مع اكتمال الشّروط، وسواء أُعطي في دائرة الأمور الحسبيّة أو في دائرة منطقة الفراغ أو في دائرة الولاية العامّة الأعمّ، فالدّليل قام على وجوب طاعته. ففي الأمور الحسبيّة إذا وجد الفقيه وغير الفقيه وهذا أمرٌ شرعيّ يحتاج إلى ضبط الأحكام والمصالح الشّرعية وأيّ مصلحة مقدَّمة، فمن أولى به؟ وإن جاز لثقات المؤمنين، ولكنّ دور ثقات المؤمنين بعد الفقيه، فالأمور الحسبيّة يختصّ بها الفقيه.
ومنطقة الفراغ يملؤها الفقيه بفقهه وإحاطته. الفقيه وتقديره المصالح، ولا بدّ من دليلٍ يقوم على إعطاء الولاية في هذا الأمر، والولاية على متولٍّ عليه لا بدّ من أن يطيع. فالفقيه أمامه حكم مباح، والمصلحة الإسلاميّة ومصلحة المسلمين وحفظ النّظام تقتضي أن يأخذ بصفة مستجدّة، فتجعله عند المكلَّفين واجباً، فيأمر الفقيه به وبما أنّه فقيه تجب طاعته، فيجب عليّ أنا المخاطَب بهذا الحكم الولائيّ من الفقيه الذي يقول هذا يجب عليك، وأن هذا يحرم عليك.
مثال: لديّ بيت، وبسبب عدم بيعي له تتأثّر مصلحة المسلمين كثيراً، فتحدث حوادث مروريّة كثيرة، أو منطقة استراتيجيّة، فتتضرّر مصلحة المسلمين، وأنا لست راضيّاً عن بيع البيت -ولي الحقّ ألّا أبيع البيت، أنا متصرّف في مالي، وأنا مخيَّر بين البيع و عدمه وهذا أمر مباح- ولمّا يأتي حكم الحاكم الشّرعي فيقول لي: عليك أن تبيع بيتك، الإباحة باقية في مرحلة الجعل والمجعول، ولكن من الناحية الفعليّة أنا مخاطَب وتتحوّل الإباحة في حقّي الآن إلى وجوب بيع البيت. فمنطقة الفراغ قابلت مستجدّاً من المستجدّات تقتضي مصلحة المسلمين، بأن يبيع عشرين أو أربعين شخصاً بيوتهم، بسبب الحاجة لشقّ شارع ولا بدّ من أن يشقّ، فربّما تُلغى مئات البيوت.
مثال آخر: «إذا كان لأحدكم أرضاً فليمنحها أخاه أو فليزرعها»، هل يوجد حكم شرعيّ أوّلي يقول أنت لديك أرض هل عليك أن تمنحها أخاك؟ أو تزرعها؟ هي أرضي وأنا حرّ في التصرّف فيها، أزرعها أم أبنيها أو أبيعها، والحديث يقول «إذا كان لأحدكم أرضا فليمنحها أخاه أو فليزرعها» وهذا ليس حكماً أوّليّاً وإنّما حكمٌ ولائيٌ من معصوم يرى أنّ المصلحة الاقتصاديّة للمسلمين في ذلك الوقت تقتضي هذا الأمر، وهو أنّ أرضك إمّا أن تمنحها لأخيك أو أن تزرعها، فقد خرج الحكم من الإباحة إلى الوجوب.
أميرُ المؤمنين(ع) في عهده لمالك الأشتر يقول بما مضمونه «امنع الاحتكار، وحدد السّعر بما لا يجحف للطرفين»، ليس هناك حكمٌ أوّليٌ بهذا الأمر، وإنّما حكمٌ ولائيٌ. فالحكم الأوّليّ أنّ النّاس مسلَّطون على أموالهم، فلهم حقّ فرصة انتظار غلاء الأسعار، ولهم حقّ البيع أو عدمه، ولكن تقتضي مصلحة المسلمين فيأتي حكم الإمام المعصوم، وإذا أُعطي هذا الحقّ للفقيه جاء دوره بأن يلزم بعدم الاحتكار وتحديد السّعر.
فمنطقة الفراغ تشهد تبدّلاً في الحكم دون غيرها، وليست منطقة واجب وحرام، فالحرام لا حقّ له في التصرّف فيه، والحكم الواجب لا يستطيع مواجهته حتى بالعنوان الثّانويّ.
صدر أمرٌ من المعصوم بألّا يُمنع فضلَ ماءٍ أو كلأٍ، لديك مساحة عشبيّة كبيرة وأكثر من حاجتك وماء عينك أكثر من حاجتك فلا تمعنها من الآخرين، فهذا ليس حكماً دائماً، وهذا ليس حكماً أوّليّاً، وإنّما هو حكمٌ ولائيّ يواجه ظرفاً خاصّاً متقضيّاً لمثل هذا الحكم.
وعن الصّادق(ع) أنّ النبّيّ(ص) نهى عن بيع الثمرة قبل نضجها، فالكلام عن الصّادق(ع) بأنّ النّهي من النّبيّ(ص) بأنّه ليس تحريماً وإنّما لإنهاء الخصومة. هناك ظرف استجدّ في حياة المسلمين وأنّ بيع الثمرة قبل نضجها سبَّب خصومات واختلافات، هذا حكم مباح بأن أبيع الثّمرة قبل النّضج أو بعده، فجاء الأمر بأنّ هذا المباح يتوقّف؛ لاقتضاء الظّرف الخاصّ وهذا حكم ولائيّ، وهنا مدّ لمنطقة الفراغ. فصار هناك علاقة بين المتغيِّر في الشّريعة ومساحة الفراغ في التّشريع.
▪ السّؤال السّادس: ما هو الرّابط بين المتغيِّر في الشّريعة والتبدّل في الموضوعات؟
هذه هي النّظرية التي يأخذ بها الإمام الخمينيّ(قد)، الزَّمان والمكان عند الإمام الخمينيّ يؤثِّران في الأحكام الشّرعيّة عن طريق التّأثير على موضوعات الحكم الشّرعي، فكلّ حكم شرعيّ ثابت على موضوعه، فالزّمان والمكان لا يغيِّر أيّ حكمٍ في نفسه، ولا يزيد ولا ينقص حكماً، ولكنّ الحكم يدور مدار وجود موضوعه، وارتفاع موضوعه، فإذا ارتفع الموضوع ارتفع الحكم من ناحية فعليّة، وإذا وُجد الموضوع وُجد الحكم من ناحية فعليّة.
الفرق بينه وبين منطقة الفراغ تبدّل الموضوع كما يمكن أن يحصل بموضوعات الحكم بالإباحة، يمكن أن يحصل في موضوعات الحرمة والوجوب، فكما أنّ الحكم بالإباحة يتبدّل إلى وجوب أو إلى حرمة بتبدّل موضوعه، فكذلك الحرام يتبدّل إلى حلال بتبدّل موضوعه، والواجب يخرج عن وجوبه بتبدّل موضوعه.
تغيَّر الموضوع فنشأ حكمٌ جديد -حكم ثانويّ- وهذا الحكم مربوط بوجود موضوعه، فمع انتهاء موضوعه انتهت فعليّته. فالفقيه هنا أو وليّ الأمر ليس من دوره وليس من حقّه وضْع أحكامٍ جديدة، أو تغيّير أو وضع حكمٍ مكان حكم، أو تبديل حكمٍ مكان حكم، وإنّما دور الفقيه اكتشاف التبدّل في الموضوع، وهل موضوع الحكم بالوجوب باقٍ في الخارج أو الحالة الخارجيّة تبدّلت وسبّبت تبدّلاً في الموضوع؟ أو أنّ حركة التطوّر سبّبت تبدّلاً في الموضوع أو لا؟ فإذا لم تسبّب فالحكم هو الوجوب أو الحرمة فيما كان موضوعاً للحرمة، وأمّا إذا كانت حركة التطور غيّرت الخارج، فبدل أن يكون الموضوع موضوعاً للوجوب، انتهى ذلك الموضوع فجاء موضوعٌ آخر فنكتشفه من الشّريعة ويتناسب مع هذا الموضوع. فكلّما توصّل الفقيه إلى تبدّل في الموضوع خارجاً كلّما كان عليه أن ينسب إليه حكمه الشّرعي المناسب الثّابت له في الشّريعة.
عندَ طروءِ موضوع ثانويّ بموضوع الاضطرار إلى الميتة، فالميتة حرام وصار لها اضطرار فهنا تبدُّل في الموضوع (هذه ميتة المكلف مضطر إليها)، والحرمة موضوعة على الميته، فحرمة أكل الميته غير المضطّر إليها فتبقى على ثبوتها من ناحية فعليّة ومن ناحية المجعول الكلّيّ، ولدينا حكم ثانٍ في الشّريعة بأنّ الميتة المضطر إليها مباحه، فأنا أطبّق الحكم الثّاني لوجود عنوانه، فتبدّل الموضوع أعطى حكماً جديداً.
مثال: ملكيّة المعدن وملكيّة الأرض المحياة. لديك أرض حفرتها فاكتشفت فيها معدن فأنت ملكت الأرض، وهذا المعدن مباح وهذا حكم موجود، ولكن تطوّر الزمن وصارت شركات تشتري أراض بالكيلومترات وتستخرج ما في الأرض من مخازن وتملكها سواء كانت شركات أجنبيّة أو محلّيّة، فصارت الثروة العامّة التي تحتاجها الأجيال وتحتاجها الأمّة في يد عشرة أشخاص، فينتج لدينا موضوع جديد، فيتبدّل الحكم بأنّ محيي هذه الأرض لا يملك المعدن.
مثال ثانٍ: يطرح أحد الفقهاء مثالاً وهو مواجهة الدّولة العباسيّة، لم تكن مواجهتها جائزة وهي مضرّة بالإسلام أبلغ الضرر؛ لمقتضيات التقيّة للظّروف الخّاصّة التي تعني أنّ المواجهة فيها حرق للإسلام وإذهابه له كلّه، ولكن هذا الموضوع تبدّل فضعفت الدولة العباسيّة ويمكن مواجهتها، وقدر الانتصار عليها فهل يبقى حكم التقيّة؟ لا يبقى الحكم.
فعلى ضوء ما يحدثه الزّمان والمكان وحركة التّطوّر الحضاريّ في حياة الإنسان من تغيير خارجيّ على موضوعات الأحكام ينفتح باب واسع لأحكام فعليّة تابعة لها، والجديد هنا فعليّة هذه الأحكام وحلولها محلّ فعليّة أحكام أخرى لا أنّها مشرَّعة مكانها، وكلٌّ من الحكم الأوّليّ والثّانويّ ثابت جعلاً ومجعولاً كلّيّاً بلا تغيير.
إنتهی الحوار
المصدر: مجلة بقیة الله العدد 70