□ حوار/ الجزء الثاني
الثّابت والمتغيِّر في الشّريعة
في حوار مع آيةالله الشيخ عيسى أحمد قاسم
▪ السّؤال السّابع: إنّ النّصّ بمقتضى ثباتِه وكمِّه محدود، ولكن الواقع متّسع ومتغيّر، فكيف يكون في قدرة هذا النّصّ أن يحكم حركة الواقع ويمدّها بما تحتاجه من تشريع؟
النّصوص الشّرعيّة بعضها أو كثيرٌ منها جاء ليعالج موارد جزئيّة وحوادث معيّنة، كأن يطرح السَائل على الإمام(ع) سؤالاً خاصّاً عن حالته هو في ظرف معيّن وما إلى ذلك، هناك نصوص هكذا تتكفّل معالجة حوادث جزئيّة وأسئلة خاصّة، وهناك عمومات ومطلقات، منها ما هي مطلقات لفظيّة ومطلقات مقاميّة كما يسمّونها، هذه تعطي قواعد عامّة ذات بعد بعيد وأفق واسع، هذه تخدم جداً حركة التّطوّر، يعني هذه من العناصر التي تعطي الشّريعة الإسلاميّة القدرة على الإجابة على الأسئلة المستجدّة في حدود معيّنة.
هناك نصوص واردة في موارد خاصّة -كما سبق- لكن يستطيع الفقيه المتضلِّع أن يستفيد منها كلّيّات عامّة، بمعونة عددٍ من الأمور، منها ما يسمّى بمناسبات الحكم والموضوع، وما يسمّى بمفهوم الموافقة وفحوى الخطاب، ووسائل أخرى عقليّة وعرفيّة.
هناك العناوين الثّانوية التي طرحتها الشَريعة، مثلاً: «رُفع عن أُمّتي ما لا يعلمون، ما اضطروا إليه، ما أكرهوا عليه»، وكذلك عندنا قاعدة لا ضرر ولا ضرار. هذه قواعد مفتوحة تعالج كثيراً من المسائل وتبدّلات الموضوعات والمستجدات.
وعندنا باب التزاحم، فعندي مثلاً حكم بالحرمة وحكم بالوجوب يتزاحمان أحياناً، كأن يكون عندي وجوب إنقاذ غريق مؤمن، ولا يوجد طريقٌ موصل للإنقاذ إلّا أرض مغصوبة يحرم اجتيازها، فعندي حرمة وعندي وجوب، ماذا أفعل هنا وليس عندي طريق ثان لإنقاذ الغريق؟ يأتي الفقيه هنا ليحدّد بعقليّته الفقهيّة طبعاً -وليس من عنده- وبوسائله العلميّة الفقهيّة، وبقدرته الاستنباطيّة، فيتوصّل إلى أنّ وجوب إنقاذ الغريق أهمّ -لأهمّيّة متعلَّقه- من الحرمة بلحاظ متعلَّقها، فيقول يجب عليك إنقاذ الغريق.
مثال آخر: قتل المؤمن حرام. جيش إسلاميّ اختطِف منه من اختطِف أُسر من أسر، العدوّ جعل المأسورين درعاً له في الأمام، هزيمة العدوّ لا تتمّ إلّا بقتل هؤلاء المؤمنين، افرضوا خمسة أشخاص من خيرة المؤمنين، تدرَّع بهم العدوّ، فإمّا أن يُهزم الجيش الإسلاميّ وينكسر الإسلام كسرة كبيرة جداً تذهب بريح الإسلام، أو أن يقتل الخمسة المؤمنون للتوصُّل إلى هزيمة الجيش الكافر! فهنا تزاحم: حرمة ووجوب، وجوب حفظ الإسلام ودرء الخطر عن الإسلام، هذا واجب، وحرام قتل المؤمن، هنا يأتي دور الفقيه ليقول لنا اقتلوا الخمسة وانتصروا على العدوّ الكافر، وديتهم من بيت المال.
إذاً فباب التّزاحم أيضاً يحلُّ لنا بعض المشاكل.
كما سبق: تغيّر في الموضوع، فكثيراً ما يحدث تغيّر في الموضوع، مثلاً: معروف بالحكم الأوّليّ أنّ من ملك الأرض ملك معدنها، لو استخرج معادن من الأرض التي يملكها فإنّه يملك هذه المعادن، فكمّا ملك الأرض فإنّه يملك ما في باطنها، هذا حكم ثابت، كانت القدرة على استخراج المعدن قدرة محدودة بحيث تجعل المستخرِج غنيّاً إلى حدٍّ ما ولكن لا يؤثِّر على الآخرين وعلى الأمَّة.
أمَّا اليوم فهناك شركات تستطيع أن تستخرج معادن بلد بكامله، فهذه عندما تشتري أرضاً وتملكها وتستخرج معادنها التي تحتاجها الأمَّة وهي ملك للأمَّة فماذا يحدث؟ ينهدم اقتصاد الأمَّة! ويصير المال بيد قلَّة، فتفتقر الأمَّة.. يضطرب النِّظام، فهنا عندي مسألة وجوب حفظ النِّظام، ووجوب حفظ اقتصاد الأمَّة، وعندي حكم يقول إنّ هذا له أن يملك، فهنا يحدث تزاحم: تمليكه المعادن معناه ماذا؟ معناه سقوط مصلحة الأمَّة، وانهدام مصلحة الأمَّة، يأتي التَّزاحم فينقذ لي الموقف، فيجعل الحاكم الشّرعيّ موقفه، فيقول له: لا، لا تملك، ليس لك هذا!
تأتي صلاحيّات وليّ الأمر المعطاة له من قبل الشّريعة وحدودها(وهي مختلَف في مقدارها).
وعندنا ما يسمّى بالأصول العمليّة كأصل البراءة مثلاً. فهذه كلُّها وسائل لمواجهة التغيُّر ومستجدّات التطوّر في أوضاع الحياة، وهذه تمثّل عدّة بيد الفقيه يستطيع من خلالها أن يواجه مستجدّات حركة التطوّر.
▪ من أسئلة الجمهور: هل يتحوّل الكذب إلى حسن والصّدق إلى قبيح، فمثلاً عندما يُسأل عن شخص يريد قتله فهل الصّدق هنا يكون محرّماً؟
جواب سماحة الشّيخ: هنا يأتي العنوان الأوّليّ والعنوان الثّانويّ، الصّدق واجب والكذب حرام، وتأتي حالة التّزاحم بين صدقي وإهلاك المؤمن، بين أنّه يجب عليّ الصّدق وبين أنّه يحرم عليّ أن أُعين على قتل المؤمن، فصدقي يمثِّل إعانة على قتل المؤمن، أيُّهما أهمّ؟ يأتي أنّ المعونة على قتل المؤمن حرمته بشعة جداً، والمفسدة هنا تطغى على مصلحة الصّدق، فهنا لا يأتي الصّدق وإنّما يأتي الكذب. ثم إنّ هذا على خلاف العدل، أي إذا كان في الكذب ظلم فقتل المؤمن ظلمه أكبر.
▪ سؤال في نفس السّياق -سماحة الشّيخ-، عندما يُسأل الشّخص عن شخص آخر بفرض الزواج فلا بدّ من تحديد البيانات الشخصيّة الحقيقيّة وترتفع الغيبة هنا، فهل في الأخلاق والفضائل والرذائل ثوابت ومتغيرات أيضاً؟
جواب سماحة الشّيخ: الأخلاق ثابتة، والأخلاق قيَم فطريّة منشدّة ومربوطة بها النّفس، وأصل الأخلاق العدل، فالأخلاق لا تتغيّر، هذه أصولٌ فطريّة من بناء فطرة الإنسان وكينونة الإنسان فهي لا تتغيّر، والأحكام الأخلاقيّة المراعية لهذه الأصول والقائمة عليها تبقى ثابتة، إلّا أنّه يأتي فيها التّزاحم وما إلى ذلك.
▪ ما الدّليل على أنّ الفقيه مُلزم باكتشاف حكم كلِّ مسألة مستجدة؟
جواب سماحة الشّيخ: طبعاً ما دام قادراً فهو ملزم، فإذا تصدّى للمرجعيّة أو احتاج النّاس إليه وإن لم يكن مرجعاً، والمراجع -فرضاً- ما التفتوا إلى هذا الجانب، وهو ملتفت إلى مسألة من المسائل التي إذا لم يُجِب عليها يتضرّر الإسلام، فيجب عليه أن يجيب عليها، أي عليه أن يبحث ويبذل وسعه ويستنفذ طاقته حتى يستنبط الحكم.
▪ إذا كانت الشّريعة فيها كلّ الأجوبة التي يحتاج إليها النّاس، فأين باب الردّ إذاً؟ قوله(ع): «أرجه حتى تلقى إمامك».
جواب سماحة الشّيخ: نعم.. ذاك في ظرف وجود الإمامg، إذا كان يمكن أن يُحمل على طلب الحكم الواقعيّ. الأحكام التي عندنا الآن تسمّى أحكاماً ظاهريّة، وجوب الصلاة مثلاً هو حكم واقعيّ فإنّنا نعلم يقيناً أنّ الإسلام فيه وجوب الصّلاة فهو أمرٌ واقعيٌّ، لكنّ كثيراً من الأحكام الموجودة في الرّسائل العمليّة نسمّيها أحكاماً ظاهريّة، أي أنّ الفقيه نفسه والمجتهد نفسه لا يستطيع أن يجزم لك أنّ هذا هو حكم الله في الواقعيّ، لكنّه هو الحكم المعذِّر لك، أي حسب وظيفتك الآن أن تتّبع هذا الحكم.
▪ ما هو رأيكم سماحة الشّيخ في مصطلح «منطقة الفراغ» في الشّريعة؟
جواب سماحة الشّيخ: الأحكام الشّرعيّة فيها ملزِم وفيها غير ملزِم، ملزِم بوجوب الفعل أو بوجوب التّرك، فالحرمة -مثلاً- حكم ملزِم، والوجوب حكم ملزِم، أمّا منطقة الفراغ فهي خارج هذا النّوع من الحكم ولا تمسّ هذا الحكم. منطقة الفراغ مساحتها مساحة المباح بمعناه الأعمّ الذي يشمل المستحبّ والمكروه، والمباح بالمعنى الأخصّ الذي هو على حدٍّ سواء بين أن أفعل أو لا أفعل.
هناك ما يسمُّونه إباحة اقتضائيّة وإباحة غير اقتضائيّة، ومنطقة الفراغ تكون في الإباحة غير الاقتضائيّة، فمثلاً تعدُّد الزّوجات في الإسلام مباح، لكنّ أصل التّشريع له مقتضيه، هناك مصلحة اقتضت أن يشرِّع الإسلام تعدّد الزّوجات، أمّا أن أجلس الآن أو أقف فهذه إباحة غير اقتضائيّة، فهما على حدٍّ سواء إذا لم أكن متضرّراً من الجلوس أو من الوقوف، أو كأن يخرج الشخص من بيتهم الآن أو لا يخرج؟ فإذا لم يوجد موجِب آخر فهو طبعاً مباح له أن يخرج أو لا يخرج فهما على حدّ سواء، لأنّه ليس وراءها مصلحة خاصّة، أي أنّ تشريعها ليس قائماً على مصلحة خاصّة.
فمنطقة الفراغ مساحتها مساحة المباح، والتصرّف في المباح ليس من مسؤوليّة الفقيه، يعني الأمر بالمباح أو النّهي عن المباح ليس من وظائف الفقيه، بل من وظائف وليِّ الأمر -عندنا فقيه وعندنا وليّ أمر، فالفقيه بما هو وليّ أمر يملأ منطقة الفراغ، والفقيه بما هو فقيه يواجه المتغيّرات بالوسائل التي مرّ ذكر بعضها-، فالشّهيد الصدر(قد) -مثلاً- الذي يقول بمنطقة الفراغ لا يقتصر في مواجهة التغيير على منطقة الفراغ، فبما هو فقيه فإنّ له وسائله الأخرى التي تجعله يستنبط أحكاماً لحوادث مستجدّة من خلال وسائل أخرى، أمّا كونه وليّ أمر كأن يصبح أحدهم وليّ أمر، سواء قلنا فقيها أم غير فقيه -لو اعترفنا له بولاية الأمر-، فهذا يملأ منطقة الفراغ بأوامر ولائيّة، بأحكام ولائيّة، من أمرٍ ونهي، فيأتي مثلاً لهذا الذي يريد أن يحيي الأرض ذات المعدن الغزير ويستخرج معدنها، فيقول له: لا، رغم أنّ هذا مباح له، والنّاس مسلّطون على أموالهم!
أو أنّ شخصاً له بيت يقع في وسط شارع يُراد إنشاؤه لحاجة ضروريّة إلّا أنّه غير موافق على بيعه، فهو مباح له أن يبيعه أو لا يبيعه، كيف لوليّ الأمر أن يحمله على أن يبيع؟ بأيّ وجه؟ هذه هي منطقة الفراغ، يعني يكتشف الفقيه أنّ الشارع المقدّس أعطى وليّ الأمر إذناً وصلاحيّة في أن يملأ منطقة الفراغ بما يحافظ على مصلحة المسلمين، بما يحافظ على النّظام، بما يحافظ على كيان الأمّة، فيأتي فقيه يقول له بِع بيتك، فهذا أمرٌ بماذا؟ أمرٌ بمباح، لأنّ بيعه بيته وعدم بيعه بيته مباح أو لا؟ طبعاً مباح، فعندما يقول له بِع بيتك فهل أمره بواجب أم بمستحب أم أمره بحرام؟ أمره بمباح.
ولِأنَّ أمر ولي الأمر واجب الطَّاعة (حيث تعتمد نظرية ملء الفراغ على [أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ] فهذا يأتي بالنِّسبة لمقام ولاية الأمر) فهذا وليّ أمرٍ شرعيّ سواء اشترطنا الفقاهة أم لم نشترط الفقاهة، أمرني بمباح، ومن خلال أمره يتوجّب عليّ ماذا؟ أن أمتثل، فهذا ملء لمنطقة الفراغ.
الرسول(ص) بحسب ما وصل إليه الفقهاء مارس دورين، دور تبليغ الحكم الإلهيّ ودور الأحكام الولائيّة، حيث أعطى أحكاماً ولائيّة بالعنوان الثّانويّ لمعالجة حالات طارئة، فتصرّف وليّ الأمر في نظريّة منطقة الفراغ محدود بالتصرّف في المباح، بأن يوجبه أو يحرّمه، يأمر به أو ينهى عنه، فينشأ وجوب على المخاطب أو تنشأ حرمة في حقّه، هذا ملخّص موضوع منطقة الفراغ.
▪ أحسنتم شيخنا. ذكرتم أنَّ الأحكام لا تتبدَّل ولا تتغيَّر في عالم التَّشريع، ألا يُعدّ نسخ الأحكام تغيُّر وتبدُّل في عالم التَّشريع؟
جواب سماحة الشّيخ: ذاك نسخ، والنَّسخ ليس تغيراً، النَّسخ يقوم على أنَّ أصل الحكم كان محدوداً مؤقتاً، النَّسخ إعلان انتهاء أمد الحكم الذي كان مؤقتاً، إعلان أنَّ وقته انتهى، أي أنَّ الحكم المؤقَّت عند الله كان مؤقتاً عند الله بهذا الوقت، النَّسخ يقول لي ماذا؟ يقول إنَّ هذا الحكم وصل وقته، فهو مؤقَّت من الأصل وليس مفتوحاً، بينما الأحكام التي نقول عنها أنَّها ثابتة فهي أحكام مفتوحة.
▪ حفظك الله سماحة الشّيخ، سؤالي: بالعنوان الأوّليّ لربّما تأتي الإباحة ولكنّ المتفكّر قد يرى بعد ذلك أنّه قد تحدث مضرّة من استمرارية هذا العمل، وأضرب لذلك مثلاً: من يقوم بابتياع الفيزا الآن ويجلب له خمسة عشر أو عشرين أو ثلاثين عاملاً بحجّة أنّ هذا مباح، وبعد ذلك تساق في الشارع وتنافس العمالة الوطنية. طبعاً هذه كارثة...
جواب سماحة الشّيخ: يأتي هنا تشخيص الفقيه، وعلى المكلّف أن يراجع فقيهه، فهنا يحدث أنّ الفقيه يشخّص أنّ ذلك مباح أن أجلب عاملاً وما إلى ذلك، لكن إذا تولّدت من ذلك مضرّة تضرّ بالمصلحة العامّة فيأتي هنا دور الفقيه ليشخّص أنّ في هذا مضرّة وأنّها أهمّ فيوقفه.
هذا التّشخيص قد يأتي من وليّ الأمر الذي تمتثل طاعته، وقد يأتي من أنظمة وضعيّة، فكثير من القوانين التي تسنّ الآن هي ضمن أنظمة وضعيّة، ولكنّ المتعقّل يرى فعلاً أنّ خلافها سيأتي بكارثة...
جواب سماحة الشّيخ: حتى المقلِد هنا لو شخّص أنّ هذا يضرّ بالمصلحة العامّة، إذا وصل إلى قناعة بأنّه يضرّ بالمصلحة العامّة فعليه أن يقف.
▪ بارك الله بكم شيخنا، حفظكم الله، كيف يميّز الفقيه بين الحكم الشّرعي والحكم الولائيّ للمعصوم(ع)؟
جواب سماحة الشّيخ: الحكم الولائيّ له موضوعه الثّانويّ وبارتفاعه ينتهي الحكم، فلو كان الموضوع الذي أمام الفقيه (أي الموضوع الخارجيّ) هو موضوع الحكم الثّانويّ للإمام(ع) فيتقيّد به (أي يتقيّد بالحكم الثّانويّ)، أمّا لو ارتفع موضوع الحكم الثانويّ الذي جاء بشأنه حكم ولائيّ للنّبيّ(ص) أو الإمام(ع)، فيرجع للحكم الأوّليّ.
▪ كيف يميز الفقيه بين الحكمين؟
جواب سماحة الشّيخ: عليَّ وعليك أن نكون فقيهين لنعرف ذلك.
▪ خمس الأرباح السنويّة هو حكم ولائيّ وليس حكم شرعيّاً؟
جواب سماحة الشّيخ: هذا ليس معلوماً.
▪ إذا كانت لي ملكة في السّياسة، وتشخيصي أنّي لا أحتمل التعذيب الذي ينتابني من النّظام، بسبب ممارستي لها، هل يعفيني خوفي من عدم احتمال التعذيب لترك ممارسة هذه الملكة مع ضرورتها؟
جواب سماحة الشّيخ: المطلوب للضعيف أن يبني نفسه.
▪ كيف يتمكّن المستنبِط من معرفة الثّابت والمتغيّر من مرويّات أهل البيت(ع) ذات الجُمل المقتضَبة أو الوصايا المشخّصة؟ وهل يستطيع المثقّف الدينيّ أن يتمكّن من هذه المسؤوليّة، أي: تحديد الثّابت والمتغيّر؟
جواب سماحة الشّيخ: فنّ الفقه فنٌّ دقيق جداً يا إخوان، دقيق جداً إلى أقصى حدٍّ، أنت تتصوّر كبار الفقهاء المتضلِّعون جداً يحاسِبون بعضهم البعض محاسبة علميّة شديدة ناقدة بحيث توجِد نقاط ضعف عند هذا الفقيه العملاق، فهذا الفنُّ غير مطروح عند المثقَّف العادي أبداً أبداً.
▪ هل هذه المقولة صحيحة: وجود ثبات في الأهداف ومرونة في الوسائل؟ ثبات في الأصول ومرونة في الفروع؟ ثبات في الكلّيّات ومرونة في الجزئيات؟
جواب سماحة الشّيخ: مرونة تصل إلى نسف الكلّيّات غير مسموح بها طبعاً، وعلى كلّ حال: الوسائل فيها الواجب وفيها المحرَّم، ولا يطاع الله من حيث يعصى، فوسيلة توصلني إلى شيء حتى ولو كان واجباً لا يمكن، إلّا بعد بيان أهمّيّة الواجب على المحرَّم وهذا هو باب التّزاحم، لكن لا يمكن التوصُّل إلى المباح بمحرّم، بل حتى إلى الواجب بمحرّم، فهو أساساً غير ممكن، إلّا في الحالة التي يشخّص فيها الفقيه ذلك، كما في حالة إنقاذ الغريق التي يراها الفقيه أهمّ من حرمة عبور الأرض المغصوبة، فالأمر راجع إلى الفقيه الذي يستطيع أن يشخّص الأهمّيّة، وأنّ هذا أهمّ من ذاك. الثبات في الأصول المرونة في الفروع: الفروع تتبع الأصول، فالفرع الذي يهدم أصله فو مهدوم أصلاً، ولا يصحّ لفرع أن يهدم أصله، بل يأخذ شرعيّته من أصله.
▪ بالنّسبة لربطة العنق هناك رأي يقول بأنّه قد تمت ممارسة الحرمة في البداية، ثمّ صارت ممارسة عامّة..
جواب سماحة الشَّيخ: طبعاً الأوّل حرام، ثمّ بعد أن تصبح ممارسة عامّة يتخلّق موضوع جديد ويأخذ حكمه الجديد.
▪ بعض الأحكام الثّابتة مربوطة بآيات من القرآن الكريم، كعدد الشهود في الزنا، واليوم قد لا نحتاج إلى نفس عدد الشهود في ظل توفر التكنلوجيا المتطورة كالتصوير وغيرها.
جواب سماحة الشّيخ: في قضية البيّنة فإنّ بعض الفقهاء يذهب لاعتماد الوسائل الإثباتيّة العلميّة. افترضوا سرقة -وما إلى ذلك- مثبَتة بوسائل علميّة يقينيّة كالكاميرات وغيرها، أيُّها أقوى هذه أو البيّنة؟ هذه تكون أقوى من البيّنة، فيأخذ الفقيه بها لأنّها توفّر علماً بل هي أكثر إثباتيّة من قضية البيّنة.
▪ لماذا يكون عالم الدِّين آخر من يقبل بالمتغيِّرات الحضاريّة؟ ففي البداية يرفضها ثمّ يضطر إلى القبول بها.
جواب سماحة الشّيخ: طبعاً التّغيّرات الحضاريّة على نوعين، هناك تغيّرات حضاريّة إيجابية بالنّظر الدِّينيّ، وهناك تغيّرات حضاريّة سلبيّة بالنّظر الدينيّ، ولا يوجد معمَّم واعٍ يقف من التّغيّرات الحضاريّة الإي
جابيّة موقفاً سلبياً.
إنتهی ویلیه الجزء الثالث في العدد المستقبل
المصدر: مجلة بقیة الله