منهج التشريع عند الإمام الصادق(ع)
□ علي محمد طاهر الصفار
ضمنت النصوص القرآنية والأحاديث الشريفة عدم الاختلاف في الأمة في حال التمسّك بهما والعمل بموجبهما، فهما يشكّلان القاعدة الأولى للتشريع ومنهما تستنبط الأحكام الشرعية التي تنظم حياة الفرد والمجتمع وفي جميع جوانب الحياة، وترسم لهما حياة مستقرة آمنة من الشك والارتياب والتمزّق والانحلال والاختلاف والخلاف والصراع المذهبي.
فالقرآن الكريم ضمّ في تشريعاته الإجابة عن كل ما يتّصل بالإنسان، وفي جميع مراحل حياته من أمور، فهو الدستور الإلهي في الأرض الذي لم تقتصر تشريعاته على فترة من الزمن أو ظرف معين كحال القوانين الوضعية التي تفرزها الأهواء والأمزجة والظروف الراهنة, بل إنه تكفّل بعلاج كل العلل التي تعترض طريق الإنسان في أمور دينه ودنياه، وضمّ الاجابة الشافية عن جميع المسائل التي تواجهه، إمّا بالنص القرآني ذاته، أو بالإحالة إلى السنة الشريفة، فهو الأصل الأول لتشريع الأحكام المبيّنة، ثم يأتي دور السنة في بيان خصوصيات الأحكام والفرائض وتفاصيلها وإيضاح ما التبس منها وكل ما يتعلق بها، وبها يكتمل التشريع.
ولا يستطيع أحد الزعم أنهما القرآن والسنة لم يتعرّضا لأمر ما أو مسألة معينة مما يحتاج إليه الإنسان، فالقرآن الكريم والسنة يتحدّيان هذا الزعم بقوله تعالى: (مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ)، كما بيّنت السنة كل مسألة من الممكن أن تعترض حياة الإنسان حتى (أرش الخدش).
وهنا يتبادر السؤال وهو: إلى من يرجع الفرد والمجتمع بعد انقطاع الوحي بوفاة النبي(ص) في الأمور المستجدة والتي تفرضها طبيعة التطور الزمني الجديد؟
▪ أولوا الأمر
إن القرآن الكريم والسنة الشريفة أوضحا هذا الأمر وبيّنا في كثير من الآيات والأحاديث إلى من ترجع الأمة بعد نبيها والذي أكدته السنن التاريخية والاجتماعية، فهذا الدور بعد النبي منوط ب (أولي الأمر) كما صرّح القرآن الكريم بذلك بقوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ].
وقد قرنت هذه الآية الشريفة طاعة أولي الأمر بطاعة الله ورسوله، وأعطت صلاحيات كاملة لهم بعد الرسول يقتضي على الأمة بموجبها الطاعة لهم في كل أمر ونهي، وأن تعمل بمقتضى هذه الأوامر بأي عمل يأتي عن طريقهم لم يرد فيه نص تشريعي يدل على إباحته أو حرمته أو وجوبه أو استحبابه, فهذا النص يعطي صفة ثانوية للأحكام التي ثبت تحليلها أو تحريمها عن طريق الكتاب والسنة.
وقد حذر القرآن الكريم والرسول(ص) من الخلاف في كثير من الآيات والأحاديث الشريفة وهو ما يدحض القول بأن رسول الله لم يستخلف أحداً بعد موته، فلا يمكن أن يترك صاحب الرسالة أمر قيادة الأمة بعده دون تخطيط لمصير المسلمين وتثبيت (أولي الأمر)، فإن هذا القول إضافة إلى ما يمثل من قدح بشخص النبي وقداسته فإنه يشكل خطورة كبيرة على الأمة ويعطي فرصة للكفار والمنافقين للكيد بالإسلام، ويفتح باب الخلاف والنزاع على مصراعيه بين المسلمين أنفسهم.
▪ حتمية القيادة
إن حتمية تنصيص القيادة بعد الرسول تقتضي أن يكون القائد مؤهلاً كامل الأهلية للقيام بدوره في مواصلة منهج الرسالة ودرء الأخطار عنها ورد الشبهات ودفع كيد الكائدين بها، فيجب أن يكون بمستوى القيمومة والقيادة والإمامة على الصعيدين الفكري والسياسي والاجتماعي، وهو ما أراد(ص) تنفيذه عند موته، فكان حريصاً على تحصين الأمة من الفتن والنزاع والتشتت، فقال لأصحابه: (أأتوني بكتف ودواة أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعدي أبداً).
فمنطق الرسالة يحتم أن يؤول الأمر إلى وصاية عقائدية يفرضها القرآن والسنة تكون بمستوى المسؤولية وتهيئ الأمة للارتقاء وتعدّها إعداداً فكرياً، ويكون دستورها الأول هو القرآن، وتحتم بوجوب التمسك بالسنة الشريفة واعتبارها مصدراً تشريعياً مكمِّلاً لما جاء به القرآن الكريم من الأحكام والتشريعات، كما وتفرض عدم أخذ التعاليم والأحكام إلا من المعصوم ولا يتعدّى الأخذ المعصوم إلى غيره إلا إذا كان على نهجهم وتابعاً لأمرهم ومقتديا بهم.
فالأئمة المعصومون(ع) هم مشرِّعون كالنبي(ص) في مراحل دعوته وليسوا نقلة أخبار وأحاديث كبقية الرواة الذين يتسرّب الشك إلى نقلهم ويقع السهو في أحكامهم, كما نستدل بذلك من حديث النبي(ص): (أني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض فلا تتقدموهما فتهلكوا ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم).
وهذا الحديث الشريف هو القاعدة الثانية التي يُرتكز عليها بعد القرآن الكريم في التمسك بأهل البيت والأخذ عنهم وهو الطريق الوحيد المنسجم مع طبيعة التشريع وأخذه من مظانه الصحيحة، وهو ما أكدته الآيات والأحاديث الشريفة الكثيرة وأكدته أخبارهم ورواياتهم(ع) التي كانت كلها على نسق واحد في الرأي والاتفاق، وأنهم(ع) في الحكم والتشريع سواء ولم يحدث أن تضمّنت أحاديثهم ورواياتهم أي اختلاف، بل إن كل إمام منهم كان كسابقه في العلم والحكم وهو ما يؤكده قول الإمام الصادق(ع):
(حديثي حديث أبي, وحديث أبي حديث جدي, وحديث جدي حديث الحسين, وحديث الحسين حديث الحسن, وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين, وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله, وحديث رسول الله هو قول الله عز وجل)
▪ اتفاق الموردين
لو قارنا بين الآيات الشريفة التي نزلت بحق أهل البيت في القرآن الكريم والتي أكدت على أنهم هم ولاة الأمر، والأحاديث الشريفة التي نصّت عليهم، لوجدنا التطابق في صفات (أولي الأمر) بعد الرسول و(الخلفاء) على الأمة من بعده في هذين الموردين.
كما اتفق القرآن مع السنة بلزوم العصمة في أولي الأمر، فالعصمة من ضروريات التشريع ولا يمكن لمن لم يكن معصوماً أن يتصدّى للتشريع لأنه حينئذ لا يمكن له أن يصيب وقد أخذ من غير هذه السلسلة المترابطة المتصلة بالله، فلا يمكن لغيرهم(ع) أن يكون حجة الله على خلقه وهو يحتاج إلى غيره، بل كيف يحتج الله تعالى على خلقه بحجة لا يكون عنده كل ما يحتاجون إليه، كما قال الإمام الصادق(ع): (من شك أن الله يحتج على خلقه بحجة لا يكون عنده كل ما يحتاجون إليه فقد افترى على الله). وقوله(ع): (إن الله أحكم وأكرم وأجل وأعظم وأعدل من أن يحتج بحجة ثم يغيب عنهم شيئاً من أمورهم).
يقول السيد المرتضى(قد): (ويدل أيضاً على كون الإمام عالماً بجميع الأحكام ما ثبت من وجوب الاقتداء به في جميع الدين، وليس يصح الاقتداء في الشيء بمن لا يعلمه، وليس للمخالف أن يقول: إنا نقتدي به فيما يعلمه دون ما لا يعلمه لأنا قد بيّنا من قبل أنه إمام في جميع الدين، وأن ثبوت كونه إماماً في جميعه يقتضي كونه مُقتدىً به في الكل، وإذا ثبت بما ذكرناه وجوب كونه عالماً بكل الأحكام استحال اختياره، ووجب النص عليه، لأن من يقوم باختياره من الأمة لا يعلم جميع الأحكام، فكيف يصح أن يختار من هذه صفته؟)
ويقول أيضاً: (إنه قد ثبت أن الإمام إمام في سائر الدين ومتولي الحكم في جميعه جليله ودقيقه وظاهره وغامضه وليس يجوز أن لا يكون عالماً بجميع الأحكام وهذه صفته لأن المقرر عند العقلاء قبح استكفاء الأمر وتوليته من لا يعلمه).
وهذا الأمر أثبتته سيرتهم(ع) وأقوالهم وأفعالهم في كل أدوار حياتهم والتاريخ يشهد أن الإمام الجواد(ع) ناظر كبار علماء المأمون وعلى رأسهم يحيى بن أكثم فأفحمهم وهو بعمر ثمان سنين، وهذه النتيجة هي حتمية لأن أصلها هو الإستخلاف الشرعي الذي خصّه به الله تعالى وأوصى به النبي(ص) ف (الله لا يجعل حجته في أرضه يسأل عن شيء فيقول: لا أدري) كما قال الإمام الصادق(ع).
▪ أهمية دور المشرعين
إذن فقد تحدد لأولي الأمر دور عظيم في قيادة الأمة وفق ما جاء به الرسول الكريم، وقد أجمعت النصوص والأحاديث النبوية الشريفة والروايات المعتبرة على أن أولي الأمر المنصوص عليهم في القرآن هم أهل البيت الأئمة الاثنا عشر(ع)، وكذلك دلت سيرتهم العظيمة على أنهم هم الامتداد الطبيعي لنبي الإسلام محمد(ص) وخلفاء الله في أرضه، ولا يخفى ما لهذا الدور من أهمية في حياة الأمة، فهو الذي يرسم لها مسارها الذي اختطه الله لها في تطبيق الإسلام الصحيح.
يقول أمير المؤمنين(ع) وهو يؤكد على اتّباع أهل البيت:
(أنظروا أهل بيت نبيّكم فألزموا سمتهم، وأتبعوا أثرهم، فلن يخرجوكم من هدى، ولن يعيدوكم في ردى، فإن لبدوا فالبدوا، وإن نهضوا فانهضوا، ولا تسبقوهم فتضلّوا، ولا تتأخّروا عنهم فتهلكوا).
وقد تواترت الروايات عن الأئمة المعصومين(ع) على أن الله تعالى خصهم بعلم لم يخص به أحداً من العالمين، ومن هذه الروايات ما رواه أبو بصير عن الإمام الصادق(ع) قوله:
(إن عندنا سراً من سر الله، وعلماً من علم الله، لا يحتمله إلا ملكٌ مقرّب، أو نبي مرسل، أو مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان، والله ما كلف الله أحداً ذلك الحمل غيرنا، ولا استعبد بذلك أحداً غيرنا، وإن عندنا سراً من سر الله وعلماً من علم الله أمرنا الله بتبليغه فبلغنا عن الله عز وجل ما أمرنا بتبليغه: ما نجد له موضعاً ولا أهلا ولا حمالة يحملونه حتى خلق الله لذلك أقواماً خُلقوا من طينة خُلق منها محمد(ص) وذريته، ومن نور خلق الله منه محمداً وذريته وصنعهم بفضل صنع رحمته التي صنع منها محمداً فبلغناهم عن الله عز وجل ما أمرنا بتبليغه فقبلوه واحتملوا ذلك)
كما ورد عنه (عليه السلام) قوله:
(نحن أئمة المسلمين، وحجج الله على العالمين، وسادة المؤمنين، وقادة الغر المحجلين، وموالي المؤمنين، ونحن أمان أهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء، ونحن الذين بنا يمسك الله السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، وبنا يمسك الأرض أن تميد بأهلها، وبنا ينزل الغيث، وبنا ينشر الرحمة، ويخرج بركات الأرض، ولولا ما في الأرض منا لساخت بأهلها).
وقال(ع): (ولم تخل الأرض منذ خلق الله آدم من حجة لله فيها، ظاهر مشهور، أو غائب مستور، ولا تخلو إلى أن تقوم الساعة من حجة لله فيها، ولولا ذلك لم يعبد الله). فقيل له: فكيف ينتفع الناس بالحجة الغائب المستور؟ فقال(ع): (كما ينتفعون بالشمس إذا سترها السحاب).
ويتضح من هذه الأحاديث عن الإمام الصادق(ع) وهو الإمام المعصوم، أن هناك علماً خصّه الله تعالى بهم دون غيرهم، وفضلهم على الخلق جميعاً به وهو ما يؤكد على أنهم هم أولو الأمر بعد النبي وهذا ما أكدته روايات كثيرة بهذا الصدد عن الأئمة لا تحصى أكدت كلها على أنهم(ع) هم السراط المستقيم وإليهم المآل في الأحكام الشرعية والتعاليم الإسلامية وكل ما يتعلق بأمور الأصول والفروع والواجبات والمحرمات والمكروهات والمستحبات، إضافة إلى الأمور الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية والفلسفية وجميع مناحي الحياة العامة.
المصدر: الاجتهاد