مقالة/ الجزء الأول
تاريخُ المرجعيَّة ونيابتها عن الإمام(عج) في زمن الغيبة
□ الشيخ جاسم الوائلي
إنَّ من نِعَم الله تعالى على هذه الطائفة الحقّة -لا سيما مع غيبة وليِّ الأمر(عج) - أن جعل لها مَوئِلاً تؤول إليه، ومعتَصَماً تعتصم به وتعتمد عليه، وهم الفقهاء الجامعون لشرائط الفتوى، والمتشرِّفون بمقام النيابة العامّة عنه(عج).
وحيث إنّ كلَّ ذي نعمة محسود، فلم تخلُ هذه الطائفة من حاسد وحقود لا يفتأُ يرميها بين الحين والآخر عن قوس مغالطاته وافتراءاته في حقّ أولئك الفقهاء العظام، ليوقع ضِعافَ عوامِّ الشيعة في شِراك أوهامٍ وإشكالاتٍ لو تأمَّلها كلُّ عاقل منصف لوجدها كنسج العناكب، لا تصمد أمام دليل أو برهان، [وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ] (العنكبوت:٤١)، ولو اطّلع على أصالة فكرة المرجعيّة وقِدمها الضَّارب في عمق التاريخ ووقف على ماهيَّتها وحقيقتها لم يبق لديه أدنى غموضٍ وتردُّدٍ فيما يرمي إليه المشكِّكون والطَّاعنون من أهداف، وهي أهداف في منتهى الخبث والخطورة على عوامِّ الناس عقيدةً وفكراً ومنهجاً وسلوكاً.
وفي هذه الوريقات نحاول تسليط الضوء على هاتين الجنبتين في حلقتين وخاتمة:
الأولى: في تاريخ المرجعيّة وقدمها.
الثانية: حقيقة المرجعيّة ونيابة الفقيه عن المعصوم(ع).
الخاتمة: في أنّ مرجعيّة الفقيه أمر غني عن الدليل النقلي.
الحلقة الأولى: في تاريخ المرجعيّة وقدمها
إنّ المرجعيّة تاريخيّاً ترجع إلى صدر الإسلام، يوم عرفت الجزيرة الضَّاربة في البداوة ظاهرة التبليغ من قبل بعض المسلمين الأوائل، والذين كانوا النَّواة التي اتَّكأَ عليها الرسول الخاتم(ص) في نشر تعاليم الإسلام في حياته الشريفة، قال تعالى: [هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ] (الجمعة: ٢)، وفيه دلالة واضحة على أنه(ص) كان مأموراً بتعليم أصحابه معالم الدين وأحكام الشريعة، ليكونوا بعد أن يبعثهم إلى أطراف دولة الإسلام مراجع للمسلمين في شؤون دينهم، كما هو واضح في حال عُمَّاله الذين بعثهم إلى تلك البلدان والأطراف، وعلى رأسهم عامله على اليمن عليُّ بن أبي طالب(ع)، كما يتّضح ذلك أيضاً من نصب القُضاة ليرجع إليهم المتخاصمون في حسم الخصومات على ضوء الكتاب والسُنّة، لاسيما في عصر الخلافة.
ولا يقدح في أصل الفكرة ما ارتكبه خلفاء الجور مِن نصبهم مَن لم يكن أهلاً لهذا المنصب، كما لم يقدح غصبهم للخلافة في حقّانيّة مبدأ الإمامة.
نعم، لم تكن المرجعيّة يوم ذاك بحاجة إلى كلِّ هذه الدراسة وهذا التحصيل العلمي الذي هي عليه اليوم، لكن هذا لا يشكّل فارقاً في حقيقة المرجعيّة كما سيتبيَّن لاحقاً إن شاء الله تعالى.
ومن أوضح النصوص في قدم تاريخ المرجعيّة قوله تعالى: [وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ] (التوبة: ١٢٢)، فإنه صريح في أنَّ التَّفقُّه في الدين قضيّة لا تتأتّى لكلِّ أحد، وأنه ليس للمؤمنين أن يتركوا بأجمعهم شؤونهم الحياتيّة ويعطّلوا معايشهم الدنيويّة لينفروا إلى دراسة الشريعة وتعلُّم أحكامها، بل إنّ ذلك واجب بنحو الكفاية، وذلك بأن ينفر من كلِّ جماعةٍ كبيرةٍ - [فِرْقَةٍ] - جماعةٌ صغيرة وأفرادٌ معدودةٌ - [طائِفَةٌ] - لهذا الغرض، وبعد أن تتفقَّه كلُّ جماعة من تلك الجماعات الصغيرة وترجع كلُّ واحدة منها إلى بلدتها وموضع سكناها فإنها تأخذ على عاتقها إرشاد أهل تلك البلدة إلى معالم الدين وأحكام شريعة سيّد المرسلين.
ولا فرق من هذه الناحية بين عود ضمير [رَجَعُوا] إلى الطائفة المتفقّهة وبين عوده إلى القوم كما هو واضح بأدنى تأمُّل.
وعلى هذا جرى النبي الأكرم(ص) في تعليم الناس بعضهم بالمباشرة، وبعضهم بالواسطة، فكان إذا أراد لحكم أو قضيّة أن تنتشر بين المسلمين وتبلغ الغائبين منهم كما بلغت الحاضرين قال لهم: «فَلْيُبَلِّغ الشّاهدُ الغائبَ» أو نحو ذلك.
وهذا نصٌّ آخر في الباب.
ثمّ أخذت المرجعيّة في عهد الأئمّة(ع) في التطوُّر من حيث التحصيل العلمي والدّقّة في النظر والقدرة على الاستنباط أكثر فأكثر، بحيث تجد الفرق واضحاً بين فقه صحابة النبيّ(ص) وفقه أصحاب الأئمّة(ع)، شأنهم في ذلك شأن أصحاب الفنون والعلوم الأخرى التي لا خلاف بين عاقلين من جهة كونها في تطوُّر دائم واتِّساع وارتقاء إلى مراتب لم تكن قد وصلتها في أوائل عهدها وبواكير تدوينها.
وأصدق شاهد على ذلك ما وقع في عهدَي الإمامين الصادقَين الباقرين(ع)، إذ كان الأمر من هذه الجهة أكثر وضوحاً وأجلى صورة، حيث أخذا(ع) في تأسيس أوَّل حوزة علميّة بالمعنى المصطلح، وقد تربَّى فيها العشرات بل المئات بل الألوف على يديهما في مختلف علوم الدين، ليكونوا مراجعَ للمسلمين في أطراف البلدان التي ليس بمقدور أهلها في العادة أن يأتوا إلى المدينة ليسألوا المعصوم(ع) عن معالم دينهم سواء في مجال العقائد أم الأحكام الشرعيّة في كلِّ صغيرة أو كبيرة، ولذا كان بعضهم - كما سننقله - قد صرَّح بذلك لبعض الأئمّة(ع)، وأنه لا يقدر أن يلقاهم(ع) كلَّما عرضت له مسألة، وسأل الإمام(ع) ما إذا كان له أن يرجع إلى فلان من أصحابه ليأخذ معالم الدين منه، والإمام(ع) أقرّه على ذلك.
وفي بعض النصوص ما يدلُّ صريحاً على أن المرجعيّة كانت موجودة إلى جنب الإمامة، فهذا أبان بن تغلب يأمره الإمام الباقر(ع) بأن يجلس في المسجد ويفتي الناس، بل أخبره(ع) بأنه يحبُّ أن يُرى في شيعته مثله، أعني مثل أبان.
وكان أبو حنيفة - فيما نقل عنه - إذا استعصت عليه مسألة واستغلقت بعث من يستفتي محمداً بن مسلم الطائفي الذي هو من أصحاب الباقرين(ع) ليأتيه بجواب المسألة منه، من دون أن يعلمه أنه من قبل أبي حنيفة، وهذا يعني أن محمداً كان متصدّياً للفتوى في حياتهم(ع).
وهكذا ما ورد في ترجمة معاذ بن مسلم الهرَّاء من تصدّيه للفتوى في أيّام الصادق(ع)، وأنه كان يفتي المسلمين كلاً حسب مذهبه، ومنهم الإمامية، وقد أقرَّه الإمام(ع) على ذلك.
وكذا ما ورد من قوله(ع) لأصحابه من أنه على الأئمة أن يلقوا لأصحابهم الأصول، وأن على الأصحاب التفريع، ومن المعلوم أن التفريع يتوقّف على وجود ملكة الاجتهاد والاستنباط ولو في بعض مراتبه المناسبة مع تلك العصور.
وصار الأمر أكثر وضوحاً في زمن الإمام الرضا(ع) حيث كانت مدرسة قمّ حاضرة وعامرة برجالات الطائفة وفقهائها ومراجعها، أمثال أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري الذي جاء في ترجمته أنه كان الرئيس الذي يلقى السلطان، أي الفقيه الذي يلقاه سلطان ذلك الزمان كرئيسٍ للشيعة، كما نشاهد اليوم ذلك من مسؤولي الدولة بل المسؤولين الدوليِّين حينما يلتقون المرجعيّة العليا للطائفة كممثّل شرعيٍّ عنها، وأنت خبير بأن هذا العنوان لا ينطبق إلّا على من كان مرجعاً للطائفة أو أحد مراجعها وفق مصطلحنا اليوم.
ولتفصيل الكلام في إثبات قدم مرجعية الفقيه تاريخيّاً ومعاصرتها للإمامة وعصر المعصومين(ع) نعقد البحث في مقامات ثلاثة:
الأوّل: قِدَمُ المرجعية حسب نصوص المعصومين(ع).
الثاني: قِدَمُ المرجعيّة حسب كلمات الأعلام.
الثالث: قِدَمُ المرجعية حسب دليل العقل.
المقام الأوّل: قِدَمُ المرجعية حسب نصوص المعصومين(ع):
لقد نقل صاحب الوسائل نصوصاً كثيرة يحصل من مجموعها القطع بالذي نروم إثباته من قدم المرجعيّة تاريخيّاً ومعاصرتها لصدر الإسلام، ولنذكر بعضها مع حذف أسانيدها لئلا يطول بذكرها الكلام:
١. ما رواه عمر بن حنظلة: سألت أبا عبد الله(ع) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازَعة في دَينٍ أو ميراثٍ، فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة، أيحلُّ ذلك؟ قال: «من تحاكم إليهم في حقٍّ أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنما يأخذ سحتاً وإن كان حقّاً ثابتاً له، لأنه أخذه بحكم الطاغوت وما أمر الله أن يكفر به، قال الله تعالى: [يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ] [النساء: ٦٠]» قلت: فكيف يصنعان؟ قال: «ينظران من كان منكم ممَّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضَوا به حَكَماً، فإنِّي قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما استُخِفَّ بحكم الله وعليه ردَّ، والرَّادُّ علينا الرَّادُّ على الله، وهو على حدِّ الشرك بالله».
إن قوله(ع): «ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا» ظاهر في النظر والمعرفة الفقهيين، أعني من له القدرة على إرجاع الفروع إلى الأصول، وإلّا فأنَّى لراوي الحديث غير الفقيه أن يُرجع القضية المتنازع فيها بين المتخاصمين إلى هذا الحديث أو ذاك من أحاديثهم(ع)؟!
٢. ما رواه أحمد بن إسحاق عن أبي الحسن(ع): سألته وقلت: مَن أُعامل، وعمَّن آخذ، وقولَ من أقبل؟ فقال: «العَمْرِيُّ ثقتي، فما أدَّى إليك عنِّي فعنِّي يؤدِّي، وما قال لك عنِّي فعنِّي يقول، فاسمع له وأطع، فإنه الثّقة المأمون».
قال: وسألت أبا محمد(ع) عن مثل ذلك فقال: «العَمريُّ وابنُه ثقتان، فما أدَّيا إليك عنّي فعنّي يؤدِّيان، وما قالا لك فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطعهما، فإنَّهما الثقتان المأمونان».
ومن المعلوم أن ثقاته(ع) لا ينحصرون بمن ذكر، فلابدَّ من ميزة للعمري وابنه اقتضت الإرجاع إليهما، كما لو كانا أقرب الرّواة الفقهاء إلى مكان السائل، وهذا يحصل عادة، كما سيتّضح لك جليّاً من بعض النصوص الآتية.
٣. ما رواه إسماعيل بن الفضل الهاشمي: سألت أبا عبد الله(ع) عن المتعة فقال: «إِلْقَ عبدَ الملك بن جريح فسله عنها، فإنَّ عنده منها علماً»، فلقيُته، فأملى عليَّ شيئاً كثيراً في استحلالها.. إلخ.
ومن الواضح لو كان السؤال عن مجرَّد حلّيتها ومشروعيّتها لأخبره الإمام(ع) بحكمها وحسب، فيعرف من هذا أن مطلوب السائل أمرٌ وراء مجرَّد المشروعيّة، وقد أطلق عليه الإمام(ع) اسم العلم.
٤. ما رواه إسحاق بن يعقوب، قال: سألت محمد بن عثمان العَمريَّ أن يوصل لي كتاباً... فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان(ع): «...وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم، وأنا حجّة الله...» الحديث.
يعني: أن رواة أحاديثهم حجّةٌ للإمام على الناس، وهو(ع) حجّة الله على الرُّواة، ومن المعلوم والبديهيّ أن مجرّد رواية أحاديثهم(ع) لا يوجب أن يكون الرّاوي حجّة للإمام(ع) على الناس في طول كونه(ع) حجّةً لله على الرُّواة، إلّا أن يكون الرّاوي عارفاً بما يروي، وفي أي مجال يرويه، بمعنى أنه متى ما سئل عن مسألة يريد السائل حكمها من أهل البيت(ع) فيجيبه عن مسألته بما هو مناسب لها مما ورد عنهم في تلك المسألة، وهذا يحتاج إلى فقهٍ ومعرفة بكيفية الرجوع إلى الروايات لمعرفة حكم المسألة، وإلّا لكان يستوي الرَّاوي الجاهل بمواطن تطبيق الرّوايات مع الرّاوي الفقيه العارف بذلك، وهذا مخالف لما يظهر من الحديث الأوّل، ولما روي عن الباقر(ع) من قوله: «قال رسول الله(ص): نضَّرَ الله عبداً سمع مقالتي فوعاها، وبلَّغها من لم تبلغه، رُبَّ حامل فقهٍ غيرُ فقيه، ورُبَّ حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه».
ولا يجوز في حكم العقل والعقلاء والشرع والمتشرّعة أن يكون حامل الرّوايات غيرُ الفقيه - أعني الرَّاوي العاجز عن استنباط الأحكام الشرعيّة من تلك الرّوايات - حجَّةً على الفقيه - أعني القادر على استنباطها منها - حتى لو لم يكن من الرّاوين لتلك الرّوايات.
٥. ما رواه عبد المؤمن الأنصاري، قال: قلت لأبي عبد الله(ع): إن قوماً يَروُون أن رسول الله(ص) قال: «اختلاف أمتي رحمة»، فقال: «صدقوا»، فقلت: إن كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب، قال: «ليس حيث تذهب وذهبوا، إنما أراد قولَ الله تعالی: [فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ] [التوبة: ١٢٢]، فأمرهم أن ينفروا إلى رسول الله(ص) فيتعلّموا، ثم يرجعوا إلى قومهم فيعلّموهم، إنما أراد اختلافهم من البلدان، لا اختلافاً في دين الله، إنما الدين واحد، إنما الدين واحد».
وهو يدلُّ على المطلوب، فإن المذكورين ليسوا من الرُّواة فحسب، بل من المتفقّهين في الدين، والذين يتمُّ إعدادهم ليكونوا مراجع لأقوامهم، لا مجرَّد رواة حديث.
نعم، لا ننكر أن مقدّمات الاستنباط يومذاك لم تكن بالصعوبة التي عليها اليوم، لأن المتفقّه على يد النبيّ الأكرم(ص) لا يحتاج إلى سند بينه وبينه(ص)، وبالتالي فهو مستغنٍ عن علم الرجال بالمرَّة، وهو علم يأخذ اليوم من الفقيه شطراً كبيراً من عمره في سبيل تحصيله ودراسته.
كما لا يحتاج إلى أن يدرس مباحث الألفاظ برمَّتها، والتي تبحث في علم الأصول، وتأخذ قسماً كبيراً من عمر فقهاء اليوم، وتشغل حيّزاً كبيراً من تفكيرهم من لدن بواكير دراستهم حتى آخر لحظة من حياتهم الشريفة.
ناهيك عن علوم العربية كلها أو جُلّها واستغناء أكثر الرّواة عن دراستها يومذاك، بينما تأخذ شطراً وافراً من عمر الفقهاء اليوم وحيّزاً كبيراً من تفكيرهم.
إلى غير ذلك مما لم يكن الفقيه يومذاك بحاجة إليه مما أحوجنا إليه اليومَ غيابُ المعصوم(ع) أو ابتعادنا عن تلك الأزمان التي لها تلك الخصوصيّات.
٦. ما رواه جميل بن درَّاج، قال: سمعت أبا عبد الله(ع) يقول: «بشر المخبتين بالجنة؛ بريد بن معاوية العجلي، وأبو بصير ليث بن البختري المرادي، ومحمد بن مسلم، وزرارة، أربعةٌ نجباء، أمناء الله على حلاله وحرامه، لولا هؤلاء انقطعت آثار النبوة واندرست».
وهو واضح في أنَّ لهؤلاء خصوصيّةً لم تكن لغيرهم من رواة الحديث على كثرتهم، حتى قيل: إنهم بلغوا أربعة آلاف راوٍ.
٧. ما رواه شعيب العَقرقُوفيّ، قال: قلت لأبي عبد الله(ع): ربما احتجنا أن نسأل عن الشيء، فمن نسأل؟ قال: «عليك بالأسدي»، يعني أبا بصير.
ولو لم يكن للأسديّ خصوصيّة لقال(ع): عليك بالثقات من الرّواة، وإلّا فلا تبقى للأسدي أيَّة خصوصيّة تستوجب تخصيصه بالذكر.
٨. ما رواه المفضَّل بن عمر، أن أبا عبد الله(ع) قال للفيض بن المختار في حديث: «فإذا أردت حديثنا فعليك بهذا الجالس»، وأومأ إلى رجل من أصحابه، فسألت أصحابنا عنه، فقالوا: زرارة بن أعين.
وفيه دلالة على ما ذكرنا من أن الرُّواة الذين هم حجَّة علينا هم خصوص الفقهاء منهم لا مطلقاً، كزرارة، ومحمد بن مسلم، وأبي بصير، وأضرابهم، وإلّا فإن الرُّواة من أصحاب أبي عبد الله الصادق(ع) وحده يزيدون على أربعة آلاف راوٍ كما ألمحنا، وأن الثقات منهم كثيرون جدّاً، فلِمَ خصَّ(ع) مراجعة الفيض بزرارة مع وجود رواة آخرين غيره وهم كُثُر؟!.
ومن البعيد أن لا يوجد أيُّ راوٍ ثقة يمكن للفيض أن يرجع إليه غير زرارة، وفي الحديث الآتي دلالةٌ على ذلك ظاهرةٌ، بل هي أظهر.
٩. ما رواه سليمان بن خالد، قال: سمعت أبا عبد الله(ع) يقول: «ما أجد أحداً أحيى ذكرنا وأحاديث أبي(ع) إلّا زرارة، وأبو بصير ليث المرادي، ومحمد بن مسلم، وبريد بن معاوية العجلي، ولولا هؤلاء ما كان أحد يستنبط هذا، هؤلاء حُفَّاظ الدين، وأمناء أبي(ع) على حلال الله وحرامه، وهم السابقون إلينا في الدنيا، والسابقون إلينا في الآخرة».
فلو كان إحياء أحاديثهم(ع) بمجرَّد روايتها والتحديث بها لم تكن للمذكورين أيّة خصوصيّة من هذه الجهة، بل لكان غيرهم ممن هو أكثر منهم رواية أجدر منهم بذلك التوصيف.
وأنت إذا تأمَّلت ما وصفهم به تيقَّنت أن المقصود من الرُّواة الذين هم حجّة على العباد هم من كان فقيهاً منهم، ممَّن له القابليّة على استنباط مقاصدهم(ع) واستخراج الفروع من الأصول، وإلّا فهل يستحقُّ الرّاوي مقام حفظ الدين والأمانة على حلال الله وحرامه وكونه من السابقين إلى أهل البيت(ع) في الدنيا والآخرة بمجرّد روايته لأحاديثهم(ع) من دون حملها على محاملها المقصودة لهم(ع)؟!.
وقريب من هذا المضمون الحديثان ٢٢ و٢٦ من الباب، فراجعه.
١٠. ما رواه عبد الله بن أبي يعفور، قال: قلت لأبي عبد الله(ع): إنه ليس كلَّ ساعة ألقاك، ولا يمكن القدوم، ويجيءُ الرجل من أصحابنا فيسألني وليس عندي كلُّ ما يسألني عنه، فقال: «ما يمنعك من محمد بن مسلم الثقفي، فإنه سمع من أبي، وكان عنده وجيهاً».
ومن الواضح أنه لو كان المقصود مجرّد الوصول إلى أحاديثهم(ع) لكفى الرجوع إلى ثقات الرّواة، ولا حاجة إلى كون الرَّاوي وجيهاً، كما أن وصف محمد بن مسلم بذلك دليل على أن سبب وجاهته لم يكن مجرَّد صدقه ووثاقته، وإلّا كان جميع الثقات وجهاء عند أهل البيت(ع).
١١. ما رواه يونس بن يعقوب، قال: كنَّا عند أبيعبدالله(ع) فقال: «أما لكم من مَفزعٍ؟ أما لكم من مُستراحٍ تستريحون إليه؟ ما يمنعكم من الحارث بن المغيرة النصري؟».
ومن البعيد جداً أن لا يوجد أيُّ راوٍ ثقة غير النصري في ناحية المخاطَبين وبلدتهم، ما يعني أن للنصريّ خصوصيةً بها استحقَّ اسم المفزَع والمستراح، وإلّا فالرّاوي مهما كان ثقة لا يصدق في حقِّه العنوانان المذكوران إذا لم يكن قادراً على استنباط وظائف من يفزعون ويستريحون إليه مما يرويه من أحاديثهم(ع).
١٢. ما رواه جميل بن دراج، عن أبيعبد الله(ع) في حديث أنه ذمَّ رجلاً، فقال: «لا قدَّس الله روحه، ولا قدَّس مثله، إنه ذكر أقواماً كان أبي ائتمنهم على حلال الله وحرامه، وكانوا عَيبة علمه، وكذلك اليوم هم عندي مستودعُ سرِّي، وأصحابُ أبي حقّاً، إذا أراد الله بأهل الأرض سوءاً صرف بهم عنهم السوء، هم نجوم شيعتي أحياءً وأمواتاً، هم الذين أحيَوا ذكر أبي، بهم يكشف الله كلَّ بدعة، ينفون عن هذا الدين انتحال المبطلين، وتأويل الغالين»، ثم بكى، فقلت: من هم؟ فقال: «من عليهم صلوات الله وعليهم رحمته أحياء وأمواتاً، بريد العجلي، وأبو بصير، وزرارة، ومحمد بن مسلم».
والكلام فيه كالكلام في النصّ التاسع المتقدّم.
ونزيد هنا أن كشف البدع ونفي انتحال المنتحلين لا يتهيّأ لكلّ راوٍ ما لم يكن ذا فضل وفقاهة كافيين في ذلك كما هو أوضح من أن يوضَّح.
١٣. ما رواه عليُّ بن المسيب الهمداني، قال: قلت للرضا(ع): شُقَّتي بعيدة ولست أصل إليك في كلِّ وقت، فممَّن آخذ معالم ديني؟ قال: «من زكريا بن آدم القُمِّي المأمون على الدين والدنيا»، قال علي بن المسيب: فلمّا انصرفت قدمنا على زكريا بن آدم، فسألته عما احتجت إليه.
ومن البعيد جدّاً صدق العنوان المذكور - «المأمون على الدين والدنيا» - على من لا يحسن إلّا حفظ الروايات عن ظهر قلب، أو في أصل أو كتاب مما يتمكّن منه كثير من الثقات آنذاك، وإلّا فهل يُعدُّ من حفظ الدين حمل الرّوايات على غير مقاصدهم(ع) التي تحتاج معرفتها إلى إحاطةٍ ودرايةٍ وفقهٍ لجملة معتدّ بها من تلك الرِّوايات؟! كلا، بل لابدَّ في تحقّق العنوان المذكور من الاتّصاف بما ذكرنا مما له تمام المدخليّة في الفقاهة والفهم بالمقدار المعتدّ به، وإلى هذا المعنى يشير حديث الإمام الصادق(ع) الآتي: «اعرفوا منازل شيعتنا بقدر ما يحسنون من رواياتهم عنّا، فإنا لا نعدُّ الفقيه منهم فقيهاً حتى يكون محدَّثاً»، فقيل له: أَوَ يكون المؤمن محدَّثاً؟ قال: «يكون مفهَّماً، والمفهَّم المحدَّث»، فلاحظ قوله(ع): «بقدر ما يحسنون من روايتهم عنّا»، وقوله (عليه السلام): «حتّى يكون محدَّثاً» وتفسيره له تعرف أن القول ما قلنا.
١٤. ما رواه عبد العزيز بن المهتدي والحسن بن علي بن يقطين جميعاً، عن الرضا(ع)، قال: قلت: لا أكاد أصل إليك أسألُك عن كلِّ ما أحتاج إليه من معالم ديني، أفيونسُ بن عبد الرحمن ثقةٌ آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني؟ فقال: «نعم».
فالرّاوي لم يسأل عن أخذ نصوص الرّوايات من يونس كما هي، بل عن أخذ معالم الدين منه، والمعالم: جمع معلم، وهو الأمر البارز، كمعالم الطريق، وهي علاماته، وكمعالم المدينة، وهي أبنيتها المرتفعة وما كان بارزاً منها، وكمعالم التاريخ، وهي أحداثه المهمّة والبارزة، وعلى هذا لا بدَّ أن يكون المراد من معالم الدين ما هو الأهمّ من بين مسائله، لا خصوص الأحكام الفرعيّة، وهذا ما لا يمكن لغير الفقيه تحديده واستخراجه من الرّوايات.
وعلى منواله الحديثان ٣٤ و٣٥ من الباب.
١٥. ما رواه معاذ بن مسلم النحوي، عن أبي عبد الله(ع)، قال: «بلغني أنّك تقعد في الجامع فتفتي الناس»، قلت: نعم، وأردتُ أن أسألك عن ذلك قبل أن أخرج، إني أقعد في المسجد فيجيءُ الرجل فيسألني عن الشيء، فإذا عرفته بالخلاف لكم أخبرته بما يفعلون، ويجيء الرجل أعرفه بمودّتكم وحبّكم، فأخبره بما جاء عنكم، ويجيء الرجل لا أعرفه ولا أدري من هو، فأقول: جاء عن فلان كذا، وجاء عن فلان كذا، فأدخل قولكم فيما بين ذلك، فقال لي: «اصنع كذا، فإنّي كذا أصنع».
وهذا مما لا يحتاج إلى إيضاح، فإنه نصٌّ في المطلوب.
١٥. ما رواه محمد بن أحمد بن حمّاد المروزي المحمودي يرفعه، قال: قال الصادق(ع): «اعرفوا منازل شيعتنا بقدر ما يحسنون من رواياتهم عنَّا، فإنّا لا نَعُدُّ الفقيه منهم فقيهاً حتى يكون محدَّثاً»، فقيل له: أَوَ يكون المؤمن محدَّثاً؟ قال: «يكون مُفَهَّماً، والمفَهَّمُ المُحدَّث».
ودلالة هذا الحديث على ما ذكرنا آنفاً أوضح من أن تحتاج إلى توضيح.
هذه جملة من النصوص الدَّالة على قدم المرجعيَّة بقدم الإمامة، لا يرتاب بعد الاطّلاع عليها إلّا كلُّ مريض القلب أو سقيم الفهم.
انتهت ویلیها الجزء الثاني في العدد التالي
المصدر: مجلة الموعود، القسم: العدد ٧/ جمادي الآخر/١٤٤٠ه