مقالة
العلاقة الوثيقة بين الفقه الإسلامي والأخلاق
إنّ الفقه الإسلامي لم یغفل العلاقة الوثیقة بین الفقه والأخلاق (کما سیاتي لاحقاً في هذا الفصل) ولا العلاقة بین الفرد والمجتمع. فإذا أردنا تحقیق مجتمع سالم، فينبغي أن یکون الأفراد سالمین، وأساساً فإنّ المجتمع البشري یتشکّل من أفراد البشر، وبدیهي أنّ تمتّع أفراد البشر بالسلامة الروحیة والأخلاقیة بحاجة لوضع بعض القوانین والمقرّرات الفردیة في قوالب الواجب والحرام والمستحبّ والمکروه وهي التي یتحرّک الفقه الإسلامي للاستجابة لها من موقع الاهتمام، والجواب عن التفاصیل.
۱.۱ - اقتران الفقه الإسلامي مع الأخلاق
وهناک امتیاز مهمّ آخر للفقه الإسلامي، وهو اقترانه بالأخلاق والقیم الأخلاقیة، فالعبادات، التي تشکّل قسماً مهمّاً من أقسام الفقه، لها غایة أخلاقیة، مثلًا، الصلاة، تصعد بالإنسان إلی عالم الملکوت والقرب من الحق تعالی "الصَّلاةُ قُربانُ کُلِّ تَقیِّ" وتبعده عن الفحشاء والمنکر: "اِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَی عَنِ الْفَحْشَاءِ والْمُنْکَرِ" ویعدّ "الریاء" أحد الرذائل الأخلاقیة، ولذلک فإنّ الفقه الإسلامي یمتاز عن القانون الوضعي بموقفه الخاص من الریاء ویقرّر بطلان العمل العبادي المقترن بالریاء. وهکذا الحال في بحوث الاقتصاد الإسلامي وأنواع المعاملات والتي تقترن بالمسائل الأخلاقیة، من قبیل بحث "إقالة النادم" (وهو إشارة للشخص النادم من معاملة قطعیة، والذي لا مجال لدیه لفسخ المعاملة، فالحکم الشرعي، في هذه الصورة أن یسعی حدّ الإمکان لإقناع الطرف المقابل لفسخ المعاملة) "عدم الدخول في سَوم المؤمن" (وهذا إشارة إلی الشخص الذي یدخل في معاملة ولم تصبح قطعیة، ثم یأتي شخص آخر ویدخل علی الخط ویطرح ثمناً أعلی لشراء البضاعة، وهذه الحالة مذمومة في التعالیم الإسلامية). "عدم تلقّي الرکبان" (وهذا إشارة إلی الأشخاص الذین یحملون بضاعة للسوق ویکون ثمن هذه البضاعة مرتفعاً في ذلک السوق، ولکن بعض الأشخاص النفعیین یستقبلون هؤلاء التجار قبل وصولهم إلی السوق لیشتروا منهم البضاعة بقیمة أدنی من قیمتها الحقیقیة، فمثل هذا العمل وقع منهیاً عنه في الإسلام). "الاکتفاء بالربح المقبول مورد الحاجة في الحیاة"، "عدم الاحتکار" وأمثال ذلک.
۱.۲ - دور علم الأخلاق في نجاة الانسان
وکما تقدّم فإنّ نجاة الإنسان من النفس الأمّارة بالسوء ومن أشکال الطغیان والعناد والتمرّد، وکذلک تصفية باطنه من الوساوس الشیطانیة، وتحقیق التکامل المعنوي لروحه، کلّ ذلک بحاجة إلی معرفة القابلیات والملاکات في واقع الإنسان والتعرّف علی أشکال العلاج والوقایة من الانحرافات وأنحاء الجنوح النفسي، وعلم الأخلاق - وهو المتصدّي لبیان هذه الأمور- بدوره یحتاج لمجموعة من المقرّرات والقوانین التي یرفدها به الفقه.
۱.۳ - مسائل الفقه ممتزجة بالمسائل الأخلاقیة
إن مسائل الفقه الإسلامي ممتزجة بالمسائل الأخلاقیة بحیث لا یمکن أن نشاهد شخصاً متدیّناً ومتعبّداً بالواجبات والمحرّمات الدینیة ولکنّه غیر متحلٍّ بالفضائل الأخلاقیة وغیر مبتعد عن الرذائل الأخلاقیة، في حین أنّه نقل عن المدّعي العام في الولایات المتّحدة الأمریکیة "رابرت هوگوت جاکسون" أنّه قال: "إنّ القانون في أمریکا یتّصل بشکل محدود وطفيف بالوظائف الأخلاقیة، وفي الواقع أنّ الشخص الأمریکي بإمکانه أن یکون مطیعاً للقانون وفي الوقت نفسه یکون من حیث الأخلاق شخصاً دنیئاً وفاسداً". إنّ أشدّ قانون فقهي، بحسب الظاهر هو قانون القصاص، ومع ذلک فهو مقترن بملاحظات أخلاقیة وهي عبارة عن "الأخوّة الدینیة" ویقترن کذلک بتوصیة أخلاقیة، أي التشویق للعفو: (یَا اَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا کُتِبَ عَلَیْکُمُ الْقِصَاصُ في الْقَتْلَی... فَمَنْ عُفي لَهُ مِنْ اَخِیهِ شَیْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَاَدَاءٌ اِلَیْهِ بِاِحْسَانٍ ذَلِکَ تَخْفيفٌ مِنْ رَبِّکُمْ وَرَحْمَةٌ)(البقرة، 178) وتقرّر آیة أخری إنّ هذا العفو بعنوان صدقة للشخص وهي کفارة له عن ذنوبه: (وَکَتَبْنَا عَلَیْهِمْ فيهَا اَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ... فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ کَفَّارَةٌ لَهُ)(المائدة، 45). وهکذا ما نراه في أغلظ المقرّرات الفقهیة کالطلاق فانّه مقرون أیضاً بالعفو وهو من الحالات اللطیفة في المسائل الأخلاقیة: (وَاِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ اَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِیضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ... وَاَنْ تَعْفُوا اَقْرَبُ لِلتَّقْوَی وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَیْنَکُمْ اِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِیرٌ)(البقرة، 237). وربّما تأثر المشرّعون الغربیون عند وضع القوانین بالأمور والمسائل الأخلاقیة بالدیانة المسیحیة أو أي دیانة أخری، ولکن الکلام في ضمانة التنفيذ حیث أنّ العالم المادّي في الثقافة الغربیة لا یعرف سوی الضمانات القانونیة والمادّیة لتنفيذ القوانین، وبعبارة أخری: الشخص الذي یعرض عن قوانین الإسلام ولا یعمل علی طبقها، فإنّه مضافاً إلی المسؤولیة الظاهریة في مقابل القانون والقضاء، فإنّه مسؤول أیضاً في مقابل الباري تعالی.
المصدر: موسوعة الفقه الإسلامي المقارن المأخوذ من عنوان "العلاقة الوثيقة بين الفقه الإسلامي والأخلاق" ج۱، ص۶۱-۶۲.
برچسب ها :
ارسال دیدگاه