مذکرة
الحسين قربان الامة
فاروق ابو العبرة
انطلق الإمام الحسين(ع) إلى البشرية عبر قنواته الإنسانية مبينا ما يتوجب من حق الله وحق رسوله وحق خليفته الشرعي، فكشف عن واقع الحس الإسلامي والجو الإيماني الذي ينبغي أن يعيشه المسلم في عقيدته وأخلاقه، إذ ليس الجهاد وحده الذي رفعه ليوقظ الناس وإنما عظمة الأفعال المعلولة من رحمة الإسلام أو عنفوان السيرة التي خلقت من أصحابه نماذج مثالية في التضحية وأسطورة استشهادهم جاءت من أروع ملامح التاريخ حيث أرخصوا للحسين(ع) النفوس في معركة الطف.
فمن ولائهم الحقيقي ارتبط الموقف وارتبطوا به، وقلما يكفي الارتباط العاطفي وحده ليتعلم منه المرء كيف يجمع نبضات قلبه مع ملكات عقله ليكون وفيا في عطائه، كحجم التضحية التي بذلها عابس وبقدر الفداء الذي بذله جون وحبيب ومسلم وزهير ورفاقهم، وما كانت لتأخذ قصصهم في حب الحسين هذا البعد المأساوي والأُر من الحزن ما لم تكن ثورة الحسين(ع) ثورة الفكر والعقيدة والإنسانية إنها مستمدة من الإسلام الناصع.
*نهضة الوعي والضمير الحي:
إذن أراد الإمام(ع) أن يعيد إلى الأذهان البواعث الدينية والمفاهيم الاجتماعية ومبادئ القرآن وسنة رسول الله(ص)، وفي الوقت نفسه رام أن يفضح أساليب الجور والفساد التي انتهجها يزيد ومن قبله معاوية ومروان وبني أمية وكل من حكم من بني العباس وغيرهم من اللاحقين، فترك بصماته عبر الدهور وترك انطباعا إلى الآن أن حركته ليست حركة اللحظة، بل حركة الوعي والضمير والعودة إلى واقع الإسلام الأصيل، متيقنا أن من واجبه عدم السير في العتمة أو في نطاق ضيق، يرى الحرمات تنتهك في الدولة ويسيء حاكم المسلمين إلى النوع الإنساني والإسلامي ويسكت! وهو ركن الرسالة من أهل البيت(ع) الذين أمر الله تعالى بحبهم وطاعتهم.
*نهضة الإصلاح الكلي:
نعم، المسؤولية دعته(ع) إلى أن يأخذ على عاتقه الإصلاح الكلي في المجتمع وقد جسد ذلك حين وقف جريحا وحيدا وسط المعركة بين أعدائه في كربلاء، كعملاق شامخ ينادي وقد قتل جميع ولده وأهل بيته وأصحابه: "هل من ذاب يَذُبُّ عن حرم رسول الله (ص)، هل من مُوحّد يخاف الله فينا، هل من مغيث يرجو الله في إغاثتنا"(مقتل الإمام الحسين 1/582).
فمن وراء صرحته أراد أن يفسح المجال ويعطي فرصة ليتوب الجيش المقابل ويرجع من فظاعة الجرم أحد، وهو يكرر بكائه ويقول: "يدخلون النار بسببي".
وهذه مقوله الأولياء والأنبياء فرسول الله(ص) قال حين أمعن القوم في إيذائه: "اللهم اغفر لقومي إنهم لايعلمون".
فكم أمهلهم الحسين(ع) وتأخر عنهم، وإلا فإشارة منه تكفي لهلاكهم، ومن الأدلة على ذلك ابن حوزة حينما دعا عليه سيد الشهداء(ع) فتعلقت رجله بركاب الفرس وجالت به تضرب كل حجر ومدر إلى أن مات.
*نهضة لفضح الفجّار:
فمن خلال رفضه الديني والسياسي أعلم الأمة إن يزيد بن معاوية نكرة البشر وإنه لا يستحق أن يكون خليفة للمسلمين ولا كل من حكم على الشاكلة لهذا نهض وقال (ع) لما بلغ مسامعه تولي يزيد الفاسق خلافة الأمة بعد هلاك معاوية: "على الإسلام السلام إذ قد بليت الأمة بداع مثل يزيد" (معالم المدرسيتين: 3/302).
*فمن أبعاد النهضة الحسينية إنارة
الطريق للأجيال ولمستقبلهم، وإسقاط شعارات اللؤم المناوئة للفكر الإسلامي، فمن دم الحسين(ع) علم الناس حرمة تغيير عقائد الأمة إلى عقائد هجينة لا إسلامية.
فمعاوية الباغي ويزيد الطاغي أسسا لواقعة كربلاء الأليمة، وأشاعوا بين أهل الشام أن عليا لا يصلي ويشرب الخمر، وسنّا سب وشتم الولي أمير المؤمنين(ع) ولعن القربى الطاهرة للرسول(ص) والبراءة منهم ومن يحبهم قرنا من الزمان مع كل أذان يوميا.. وكم كتب معاوية إلى عماله أن لا تتركوا شتم علي[(ع)] والترحم على عثمان.(الطبري في حوادث سنة 50: 2/38) وإن الذمة بريئة ممن يردي شيئا من فضل ابي تراب وأهل بيته[(ع)](شرح النهج لأبي الحديد: 3/595).
فمن كل هذا كتب الإمام(ع) إلى معاوية: "وأرديت جيلا من الناس خدعتهم بغيك وألقيتهم في موج بحرك تغشاهم الظلمات وتتلاطم بهم الشبهات"(شرح النهج لأبي الحديد: 576).
فيزيد وأبوه باسم القربة إلى الله ألصقوا بعداً سيئا بالإسلام حتى قال الامام(ع): "فو الذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أسلموا ولكن استسلموا وأسروا الكفر فلما وجدوا أعوانا عليه اظهروه"(شرح النهج: 536).
فالإمام الحسين(ع) نظر إلى هؤلاء الذين أعلنوا الحرب عليه وعلى أبيه وأخيه وأمعنوا في تغيير السنة والمفاهيم والأحكام الشرعية على أنهم أعداء الإسلام، لا يتورعون عن فعل أي شيء يبتدع في الدين أو يضعون صيغا معدلة تكون مدعاة للتشكيك والتضليل أو تنال من مقام أهل البيت(ع) وتنفير الناس عنهم، فإنهم حاربوا الدولة الإسلامية في عهد أمير المؤمنين(ع) أكثر مما حاربها الأكاسرة والروم، ونقموا نقمة حقيقية على الإسلام وأشعلوا نار فتنة لم ينطفأ أوارها إلى الآن، فظهر من ظهر ليكفّر ويفجّر ويسوق الأذى إلى المسلمين حقدا وتعصبا.
ومن قلب هذا الصخب والجحود ينطلق عنوان دم الحسين(ع) لتبقى الرسالة الإسلامية تتجدد بتجدد المصاب كل عام، بذكراها الأليمة منارا لكل أحرار الدنيا، يتنسمون من عبير دمه الطاهر عودة الدين نقيا صحيحا معافى من ابتداع يزيد وتطرف المنافقين والشجرة الخبيثة من أمثال معاوية ومروان وابن العاص ومن لفّ لفهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين.
المصدر: الولایة