الباحث : د. الشيخ عبد الحسين خسروبناه
*1/4. الفرق بين الكلام الإسلاميّ والعلوم المماثلة:
علم الكلام الإسلاميّ ـ كما تبيّن ممّا سبق ـ علم يهدف إلى تبيين المعتقدات الدينيّة وإثباتها والدفاع عنها. وتُعدّ فلسفة الدين وأنثروبولوجيا الدين، وعلم نفس الأديان، وعلم اجتماع الدين وأخريات نأتي على ذكرها من العلوم المماثلة لعلم الكلام. وسنقف فيما يلي على تعاريف هذه العلوم لتتّضح نقاط افتراقها عن علم الكلام.
*1/4/1. علم الأديان المقارن:
علم الأديان المقارن ـ أو قد يسمّى أيضاً بتاريخ الأديان ـ علم حديث ظهر في الغرب، ويتمتّع بحيويّة وازدهار بالغين ودائمين، وهو ـ كغالبيّة العلوم الأُخرى ـ وليد عصر التنوير، أو على نحو الدقّة: أواخر القرن التاسع عشر الميلاديّ.
وقد أشار عالم الأديان المعاصر والاجتماعيّ الشهير يواخيم واخ (1955م) ـ في كتابه «الدراسة المقارنة للأديان» الصادر بعد وفاته ـ إلى تاريخ علم الأديان، ووضعه حالاً ومستقبلاً بقوله:
«لن يتصرّم هذا القرن دون أن نشهد تأسيس علم متكامل ومتناسق، نجد أجزاءه اليوم مبعثرة ومتناثرة. علم لم يكن له وجود في القرون الماضية، ولا نملك له تعريفاً واضحاً بعد، علم لعله يسمّى ـ لأوّل مرّة ـ بعلم الأديان.
هذا، ويمكن اقتفاء جذور لعلم الأديان المقارن في تراث عالم اللسانيّات الألمانيّ ماكس مولر (1900م)؛ حيث كان لإلمامه باللغات الهنديّة والأوروبيّة، وكذلك لمنهجه المقارن في فقه اللغة، وتطبيقه له في علم الأديان، ودعمه الصريح لهذا الحقل كفرع علميّ طيلة حياته، دور كبير في التمهيد لإيجاد الكرسيّ الجامعيّ لهذا العلم في جامعات أوروبّا الرائدة وقتذاك.
*1/4/2. فلسفة الدين:
فلسفة الدين تعني التفكير الفلسفيّ في الدين. ولو نظرنا إليها كوسيلة للدفاع العقليّ والفلسفيّ عن المعتقدات الدينيّة، فهي ـ في هذه الحالة ـ استمرار لمسيرة الإلهيّات الطبيعيّة (العقليّة) المتمايزة أصلاً عن الإلهيّات الوحيانيّة، ومكمّلة لدورها، وغايتها إثبات وجود الله عبر البراهين العقليّة. أمّا اليوم فلا تُطلق فلسفة الدين إلا على التفكير الفلسفيّ والعقلانيّ حول الدين، ولا يمكن عدّها وسيلةً لتعليم الدين. بناءاً على ذلك، يمكن للملحدين واللاأدريّين ـ كما للمتدينيّن ـ مزاولة التفكير الفلسفيّ حول الدين. وعليه: فإنّ فلسفة الدين فرع من الفلسفة، تُدرس فيه المفاهيم والأنظمة العقيديّة الدينيّة، والظواهر الأصيلة للتجربة الدينيّة، والمناسك العباديّة، والأسس الفكريّة التي تبتني عليها هذه الأنظمة الاعتقاديّة. وأهمّ ما يبحث في فلسفة الدين بالمنهج العقليّ: تعريف الدين، ومنشأ الدين، وبراهين إثبات وجود الله، والتعدّديّة الدينيّة، والشبهات المثارة حول الشرور، والصفات الإلهيّة، والصلة بين العلم والدين، ثمّ الأخلاق والدين، ولغة الدين.
*1/4/3. أنثروبولوجيا الدين:
تمتدّ جذور المنحى الأنثروبولوجيّ في دراسة الدين كحقل معرفيّ ممنهج إلى أعماق الثقافة الغربيّة، وتعود الدراسات الأولى له إلى أعمال المؤرّخين الأنثروبولوجيّين الإغريق وأسلافهم الرومان. وقد لعبت النزعة الاجتماعيّة التكامليّة والبيولوجيّة (الحيويّة) في القرن التاسع عشر دوراً فعّالاً في النظريّات الأنثروبولوجيّة حول الدين؛ فقد كان الأنثروبولجيّ الإنجليزيّ تايلور (1917م) من الأوئل في استخدام المفاهيم التكامليّة في الأبحاث الدينيّة، ويعدّ مؤسّساً لأنثروبولوجيا الدين، فقد وجد في الآداب والتقاليد والعقائد العائدة للثقافات الإنسانيّة القديمة شواهد تدلّ على المرحلة البدائيّة للأديان، وقد ذهب إلى أنّ أوّل مرحلة من الدين تمثّلت في الإيمان بالأرواح التي لا تختصّ بالبشر، بل توجد في جميع الكائنات الطبيعيّة وغيرها. وقد كان لأمثال الأنثروبولوجيّين البريطانيّين سميث (1894م) وماريت (1943م) إسهامات ودراسات في هذا المجال ايضاً.
*1/4/4. علم نفس الأديان:
نشأ علم نفس الأديان ـ كما هو مشهور اليوم ـ تزامناً مع ظهور علم الأديان المقارن، وتبلور علمين آخرين لم تربطهما في أوّل الأمر أيّ صلة بالدين؛ وهما: علم نفس الأعماق الذي ظهر في العلوم الطبيّة كمحاولة أولى في البحث عن نظريّة حول العقل الباطن لعلاج الأمراض النفسيّة، وعلم الفسيولوجيا النفسيّة الذي تشعّب عن الفسيولوجيا كمحاولة لاستبدال النظام والمرتكز الفلسفيّ في نظريّة الإدراك بالتجربة العينيّة. ورغم العلم الزاخر والمنهج الشامل الذي كانت تتحلّى به أعمال روّاد علم نفس الأديان إلاّ أنّ الجذور المتباينة للعلمين قيّدت كلّاً منهما بمنهج متعارض مع الآخر، وقد أدّى ذلك إلى إيجاد مناهج حديثة في علم نفس الأديان.
*1/4/5. علم اجتماع الدين:
تعود الدراسات الأولى حول الصلة بين الدين والمجتمع إلى عهد الإغريق، لكنّ ابن خلدون (808ﻫ) هو أوّل من تطرّق إلى دور الدين في النظم الاجتماعيّة والسياسيّة، كما أبدى بعض العلماء المسيحيّين أيضاً عناية بالدور المحوريّ للدين في المجتمع، وردود الفعل الدينيّة تجاه القوّة والنفوذ الكبير للمظاهر الدنيويّة. وقد درس الفلاسفة الجدد البعيدون عن الرؤى والميول الدينيّة هذه الصلة من زاوية دنيويّة بحتة؛ كما دلّت عليه نظريّات كونت (1859م) وسبنسر (1903م). هذا، وكانت أبحاث علم اجتماع الدين تعدّ جانباً من علم اجتماع الثقافة والوعي كما صرّح بذلك ماركس (1883م) حين جعل الوعي الإنسانيّ رهيناً بطبيعة العلاقات الاقتصاديّة والاجتماعيّة.
ولا تفوتنا الإشارة هنا إلى الصلة الوثيقة بين ظهور الدراسات الاجتماعيّة حول الدين في العصر الجديد على يد بارسونز، ودوغلاس، وطوماس لوكمان، وظهور الرأسماليّة وتعدّد الثقافات والتساهل الدينيّ والحكومة الليبراليّة. وعليه: لا يمكننا عدّ هذا العلم أسلوباً موضوعيّاً لدراسة الدين والمجتمع، بل على العكس تماماً؛ فهو منتوج ثقافيّ صُنّع في معمل التطوّرات التاريخيّة للفكر الغربيّ، أرغم الباحثين على التخلّي عن المعايير والقيم التي يتبنّاها ذلك الدين أو المجتمع المزمع دراسته. وبالتالي: فإنّ علم اجتماع الدين هو حصيلة لإحدى تعلّقاته، وهذا يعني علمنة المؤسّسات والأفكار الدينيّة وحصرها بالأطر الدنيويّة.
*1/5. ضرورة التعرّف على علم الكلام:
تتّضح ضرورة التعرّف على علم الكلام للمتدينيّن مع كلّ ما يشمله من قضايا قديمة ومستحدثة من خلال الوقوف على المبرّرات التالية:
1. ينقسم التديّن في إحدى التصنيفات العامّة له إلى نوعين: التديّن المبرَّر، والتديّن المبرهن. أمّا التديّن المستدلّ والمبرهَن فهو تديّن قائم على أساس البرهان والمنطق، بخلاف التديّن المبرَّر الذي هو وليد مبرِّرات وأسباب عائليّة وثقافيّة واجتماعيّة وغيرها، والذي قد تتغيّر أحواله مع كلّ تغيّر يطرأ على هذه المبرِّرات والأسباب، فيصاب تديّن الناس على أثر ذلك بالقبض والبسط، أو الظهور والكمون. ومن هنا، يتحتّم على المتدينيّن أن ينفتحوا على معتقداتهم الدينيّة التي تمثّل جذور شجرة الإيمان والتديّن عندهم من بوّابة المعارف المبرهَنة المستدلَّة؛ كي لا تتزلزل أو تنحرف عن الحقيقة. وما علم الكلام ـ حسبما تقدّم من تعريفه ـ إلا تمهيد لهذا اللون من التديّن. وبطبيعة الحال، لا ينبغي للمتدينيّن أن يغفلوا عن الدور المركزيّ الذي يلعبه العمل الصالح في تقوية الإيمان، فيظنّوا أنّ المعرفة الدينيّة المبرهَنة كافية في ظهور التديّن واستمراريّته. وهنا، تجدر الإشارة إلى أنّ تقليد الفقيه الأعلم في الأحكام الشرعيّة يصنّف ضمن التديّن المبرهَن؛ لأنّ تبعيّة الجاهل للعالم والمتخصّص فعل يستند إلى أدلّة ومبادئ عقليّة؛ بخلاف التقليد الأعمى والأخرق الذي يمارسه الجاهل تجاه جاهل آخر، فهو يفتقر إلى أيّ دعم عقليّ مبرهن. وإنّ رجوع التلميذ والطالب إلى المعلّم والأستاذ، والمريض إلى الطبيب، وغير الفقيه إلى الفقيه الجامع لشرائط الفتوى كلّه يقع ضمن دائرة التقليد العقلانيّ، خلافاً لتقليد المشركين آباءهم وأجدادهم؛ فهو تقليد أعمى.
2. يُصنّف المتديّنون أيضاً إلى طائفتين: الطائفة الأولى: مجموعة المتدينيّن القلقين والحريصين على الدين، وهم الذين يشعرون بالمسؤوليّة تجاه ما يدور حولهم، ويدافعون عن العقيدة والدين إلى آخر لحظة من حياتهم، فيتألمّون إذا ما ضعف دور الدين أو غاب عن مسرح المجتمع. وعلى هذا الصنف من المتدينيّن أن يتفحّص أوجه الخلل، وأن يبادر لدرء الشبهات، وينفتح على البحوث الكلاميّة والأصول المعرفيّة والعقائديّة؛ ليذبّ بعد ذلك عن حياض الإيمان، وأسسه في المجتمع. ناهيك عما يستلزمه هذا التوجّه من وعي للتحدّيات الفكريّة والسلوكيّة التي يعاني منها الجيل المعاصر، والدور الاجتماعيّ الفاعل. أمّا الطائفة الثانية: فهم أولئك المتديّنون الذين لايعيرون اهتماماً بالمعضلات والتحدّيات الدينيّة أو الثقافيّة، ولا يكترثون بواجباتهم في إيجاد حلول لها.
ولا يخفى أنّ كلّ مؤمن مطالَب ـ على أدنى تقدير ـ بالحفاظ على إيمان أبنائه، والحرص على الوقوف في وجه التحدّيات العقائديّة التي تعترض طريقهم، ومن ثمّ الدفاع عن المعتقد الدينيّ. إنّ عالمنا الذي نعيش فيه اليوم متخم بالشبهات الفلسفيّة والاجتماعيّة والثقافيّة التي تكالبت على الدين وقيم المجتمع الإسلاميّ وتغلغلت فيه من جهات وقنوات شتّى، وينبغي العلم بأنّنا مهما أغفلنا انتماءنا الدينيّ أو تديّن غيرنا فإنّ عدوّنا الثقافيّ ليس بغافل.
3. تصنع البحوث العقائديّة والكلاميّة للإنسان نظاماً وأنموذجاً فكريّاً يترك أثره ـ حسبما يرى فلاسفة العلوم الطبيعيّة والاجتماعيّة المعاصرين ـ على جميع مناحي الرؤية الكونيّة والطبيعيّة للإنسان. هذا، ناهيك عن أثرها على الفكر والسلوك الفقهيّ والقانونيّ والأخلاقيّ.
وهنا نتساءل: هل يمكن الالتزام بالأحكام الفقهيّة والمبادئ الأخلاقيّة الدينيّة بمعزل عن الإيمان بالله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، ومن دون معرفته، والاعتقاد بالحياة بعد الموت، ومعرفة أنّ الله عَزَّ وَجَلَّ عالم بالمصالح والمفاسد الحقيقيّة للأمور؟! وعليه: الذهاب إلى أنّ عالم الطبيعة خاضع لنظام ميكانيكيّ لا شأن لتدبير الله فيه، ليُعترف ـ في الحدّ الأدنى ـ بكونه خالقاً ليس أكثر، أو ما عبّروا عنه بمصطلح «إله الفراغات» لم يكن إلّا بسبب رؤية وموقف معيّن تبلور في ثنايا البحوث والدراسات الطبيعيّة.
انتهت
المصدر: اسم المجلة : العقيدة، العدد : 1، السنة: السنة الاولى - شعبان 1435هـ / 2014م