printlogo


printlogo


مقالة/ الجزء الثاني والأخیر
ماهية علم الكلام الإسلامي المعاصر

*‏1/4. الفرق بين الكلام الإسلاميّ والعلوم المماثلة:‏
علم الكلام الإسلاميّ ـ كما تبيّن ممّا سبق ـ علم يهدف إلى تبيين المعتقدات الدينيّة وإثباتها والدفاع ‏عنها. وتُعدّ فلسفة الدين وأنثروبولوجيا الدين، وعلم نفس الأديان، وعلم اجتماع الدين وأخريات نأتي ‏على ذكرها من العلوم المماثلة لعلم الكلام. وسنقف فيما يلي على تعاريف هذه العلوم لتتّضح نقاط ‏افتراقها عن علم الكلام.‏
*‏1/4/1. علم الأديان المقارن:‏
علم الأديان المقارن ـ أو قد يسمّى أيضاً بتاريخ الأديان ـ علم حديث ظهر في الغرب، ‏ويتمتّع بحيويّة وازدهار بالغين ودائمين، وهو ـ كغالبيّة العلوم الأُخرى ـ وليد عصر التنوير، أو على ‏نحو الدقّة: أواخر القرن التاسع عشر الميلاديّ.‏
وقد أشار عالم الأديان المعاصر والاجتماعيّ الشهير يواخيم واخ (1955م) ـ في كتابه «الدراسة ‏المقارنة للأديان» الصادر بعد وفاته ـ إلى تاريخ علم الأديان، ووضعه حالاً ومستقبلاً بقوله:‏
‏«لن يتصرّم هذا القرن دون أن نشهد تأسيس علم متكامل ومتناسق، نجد أجزاءه اليوم مبعثرة ‏ومتناثرة. علم لم يكن له وجود في القرون الماضية، ولا نملك له تعريفاً واضحاً بعد، علم لعله يسمّى ـ ‏لأوّل مرّة ـ بعلم الأديان.‏
هذا، ويمكن اقتفاء جذور لعلم الأديان المقارن في تراث عالم اللسانيّات الألمانيّ ماكس مولر ‏‏(1900م)؛ حيث كان لإلمامه باللغات الهنديّة والأوروبيّة، وكذلك لمنهجه المقارن في فقه اللغة، ‏وتطبيقه له في علم الأديان، ودعمه الصريح لهذا الحقل كفرع علميّ طيلة حياته، دور كبير في التمهيد ‏لإيجاد الكرسيّ الجامعيّ لهذا العلم في جامعات أوروبّا الرائدة وقتذاك.‏
 
*‏1/4/2. فلسفة الدين:‏
فلسفة الدين تعني التفكير الفلسفيّ في الدين. ولو نظرنا إليها كوسيلة للدفاع العقليّ والفلسفيّ عن ‏المعتقدات الدينيّة، فهي ـ في هذه الحالة ـ استمرار لمسيرة الإلهيّات الطبيعيّة (العقليّة) المتمايزة أصلاً ‏عن الإلهيّات الوحيانيّة، ومكمّلة لدورها، وغايتها إثبات وجود الله عبر البراهين العقليّة. أمّا اليوم فلا ‏تُطلق فلسفة الدين إلا على التفكير الفلسفيّ والعقلانيّ حول الدين، ولا يمكن عدّها وسيلةً لتعليم ‏الدين. بناءاً على ذلك، يمكن للملحدين واللاأدريّين ـ كما للمتدينيّن ـ مزاولة التفكير الفلسفيّ حول ‏الدين. وعليه: فإنّ فلسفة الدين فرع من الفلسفة، تُدرس فيه المفاهيم والأنظمة العقيديّة الدينيّة، ‏والظواهر الأصيلة للتجربة الدينيّة، والمناسك العباديّة، والأسس الفكريّة التي تبتني عليها هذه الأنظمة ‏الاعتقاديّة. وأهمّ ما يبحث في فلسفة الدين بالمنهج العقليّ: تعريف الدين، ومنشأ الدين، وبراهين ‏إثبات وجود الله، والتعدّديّة الدينيّة، والشبهات المثارة حول الشرور، والصفات الإلهيّة، والصلة بين العلم ‏والدين، ثمّ الأخلاق والدين، ولغة الدين.‏
*‏1/4/3. أنثروبولوجيا الدين:‏
تمتدّ جذور المنحى الأنثروبولوجيّ في دراسة الدين كحقل معرفيّ ممنهج إلى أعماق الثقافة الغربيّة، ‏وتعود الدراسات الأولى له إلى أعمال المؤرّخين الأنثروبولوجيّين الإغريق وأسلافهم الرومان. وقد ‏لعبت النزعة الاجتماعيّة التكامليّة والبيولوجيّة (الحيويّة) في القرن التاسع عشر دوراً فعّالاً في ‏النظريّات الأنثروبولوجيّة حول الدين؛ فقد كان الأنثروبولجيّ الإنجليزيّ تايلور (1917م) من ‏الأوئل في استخدام المفاهيم التكامليّة في الأبحاث الدينيّة، ويعدّ مؤسّساً لأنثروبولوجيا الدين، فقد ‏وجد في الآداب والتقاليد والعقائد العائدة للثقافات الإنسانيّة القديمة شواهد تدلّ على المرحلة البدائيّة ‏للأديان، وقد ذهب إلى أنّ أوّل مرحلة من الدين تمثّلت في الإيمان بالأرواح التي لا تختصّ بالبشر، ‏بل توجد في جميع الكائنات الطبيعيّة وغيرها. وقد كان لأمثال الأنثروبولوجيّين البريطانيّين ‏سميث (1894م) وماريت (1943م) إسهامات ودراسات في هذا المجال ايضاً.‏
*‏1/4/4. علم نفس الأديان:‏
نشأ علم نفس الأديان ـ كما هو مشهور اليوم ـ تزامناً مع ظهور علم الأديان المقارن، وتبلور علمين ‏آخرين لم تربطهما في أوّل الأمر أيّ صلة بالدين؛ وهما: علم نفس الأعماق الذي ظهر في العلوم ‏الطبيّة كمحاولة أولى في البحث عن نظريّة حول العقل الباطن لعلاج الأمراض النفسيّة، وعلم ‏الفسيولوجيا النفسيّة الذي تشعّب عن الفسيولوجيا كمحاولة لاستبدال النظام والمرتكز الفلسفيّ ‏في نظريّة الإدراك بالتجربة العينيّة. ورغم العلم الزاخر والمنهج الشامل الذي كانت تتحلّى به أعمال ‏روّاد علم نفس الأديان إلاّ أنّ الجذور المتباينة للعلمين قيّدت كلّاً منهما بمنهج متعارض مع الآخر، ‏وقد أدّى ذلك إلى إيجاد مناهج حديثة في علم نفس الأديان.‏
*‏1/4/5. علم اجتماع الدين:‏
تعود الدراسات الأولى حول الصلة بين الدين والمجتمع إلى عهد الإغريق، لكنّ ابن خلدون ‏‏(808ﻫ) هو أوّل من تطرّق إلى دور الدين في النظم الاجتماعيّة والسياسيّة، كما أبدى بعض العلماء ‏المسيحيّين أيضاً عناية بالدور المحوريّ للدين في المجتمع، وردود الفعل الدينيّة تجاه القوّة والنفوذ ‏الكبير للمظاهر الدنيويّة. وقد درس الفلاسفة الجدد البعيدون عن الرؤى والميول الدينيّة هذه الصلة من ‏زاوية دنيويّة بحتة؛ كما دلّت عليه نظريّات كونت (1859م) وسبنسر (1903م). هذا، وكانت ‏أبحاث علم اجتماع الدين تعدّ جانباً من علم اجتماع الثقافة والوعي كما صرّح بذلك ماركس ‏‏(1883م) حين جعل الوعي الإنسانيّ رهيناً بطبيعة العلاقات الاقتصاديّة والاجتماعيّة.‏
ولا تفوتنا الإشارة هنا إلى الصلة الوثيقة بين ظهور الدراسات الاجتماعيّة حول الدين في العصر ‏الجديد على يد بارسونز، ودوغلاس، وطوماس لوكمان، وظهور الرأسماليّة وتعدّد الثقافات والتساهل ‏الدينيّ والحكومة الليبراليّة. وعليه: لا يمكننا عدّ هذا العلم أسلوباً موضوعيّاً لدراسة الدين والمجتمع، ‏بل على العكس تماماً؛ فهو منتوج ثقافيّ صُنّع في معمل التطوّرات التاريخيّة للفكر الغربيّ، أرغم ‏الباحثين على التخلّي عن المعايير والقيم التي يتبنّاها ذلك الدين أو المجتمع المزمع دراسته. وبالتالي: ‏فإنّ علم اجتماع الدين هو حصيلة لإحدى تعلّقاته، وهذا يعني علمنة المؤسّسات والأفكار الدينيّة ‏وحصرها بالأطر الدنيويّة.‏
*‏1/5. ضرورة التعرّف على علم الكلام:‏
تتّضح ضرورة التعرّف على علم الكلام للمتدينيّن مع كلّ ما يشمله من قضايا قديمة ومستحدثة من ‏خلال الوقوف على المبرّرات التالية:‏
‏1. ينقسم التديّن في إحدى التصنيفات العامّة له إلى نوعين: التديّن المبرَّر، والتديّن المبرهن. أمّا ‏التديّن المستدلّ والمبرهَن فهو تديّن قائم على أساس البرهان والمنطق، بخلاف التديّن المبرَّر الذي هو ‏وليد مبرِّرات وأسباب عائليّة وثقافيّة واجتماعيّة وغيرها، والذي قد تتغيّر أحواله مع كلّ تغيّر يطرأ ‏على هذه المبرِّرات والأسباب، فيصاب تديّن الناس على أثر ذلك بالقبض والبسط، أو الظهور ‏والكمون. ومن هنا، يتحتّم على المتدينيّن أن ينفتحوا على معتقداتهم الدينيّة التي تمثّل جذور شجرة ‏الإيمان والتديّن عندهم من بوّابة المعارف المبرهَنة المستدلَّة؛ كي لا تتزلزل أو تنحرف عن الحقيقة. ‏وما علم الكلام ـ حسبما تقدّم من تعريفه ـ إلا تمهيد لهذا اللون من التديّن. وبطبيعة الحال، لا ينبغي ‏للمتدينيّن أن يغفلوا عن الدور المركزيّ الذي يلعبه العمل الصالح في تقوية الإيمان، فيظنّوا أنّ المعرفة ‏الدينيّة المبرهَنة كافية في ظهور التديّن واستمراريّته. وهنا، تجدر الإشارة إلى أنّ تقليد الفقيه الأعلم ‏في الأحكام الشرعيّة يصنّف ضمن التديّن المبرهَن؛ لأنّ تبعيّة الجاهل للعالم والمتخصّص فعل يستند ‏إلى أدلّة ومبادئ عقليّة؛ بخلاف التقليد الأعمى والأخرق الذي يمارسه الجاهل تجاه جاهل آخر، فهو ‏يفتقر إلى أيّ دعم عقليّ مبرهن. وإنّ رجوع التلميذ والطالب إلى المعلّم والأستاذ، والمريض إلى ‏الطبيب، وغير الفقيه إلى الفقيه الجامع لشرائط الفتوى كلّه يقع ضمن دائرة التقليد العقلانيّ، خلافاً ‏لتقليد المشركين آباءهم وأجدادهم؛ فهو تقليد أعمى.‏
‏2. يُصنّف المتديّنون أيضاً إلى طائفتين: الطائفة الأولى: مجموعة المتدينيّن القلقين والحريصين على ‏الدين، وهم الذين يشعرون بالمسؤوليّة تجاه ما يدور حولهم، ويدافعون عن العقيدة والدين إلى آخر ‏لحظة من حياتهم، فيتألمّون إذا ما ضعف دور الدين أو غاب عن مسرح المجتمع. وعلى هذا الصنف ‏من المتدينيّن أن يتفحّص أوجه الخلل، وأن يبادر لدرء الشبهات، وينفتح على البحوث الكلاميّة ‏والأصول المعرفيّة والعقائديّة؛ ليذبّ بعد ذلك عن حياض الإيمان، وأسسه في المجتمع. ناهيك عما ‏يستلزمه هذا التوجّه من وعي للتحدّيات الفكريّة والسلوكيّة التي يعاني منها الجيل المعاصر، والدور ‏الاجتماعيّ الفاعل. أمّا الطائفة الثانية: فهم أولئك المتديّنون الذين لايعيرون اهتماماً بالمعضلات ‏والتحدّيات الدينيّة أو الثقافيّة، ولا يكترثون بواجباتهم في إيجاد حلول لها.‏
ولا يخفى أنّ كلّ مؤمن مطالَب ـ على أدنى تقدير ـ بالحفاظ على إيمان أبنائه، والحرص على ‏الوقوف في وجه التحدّيات العقائديّة التي تعترض طريقهم، ومن ثمّ الدفاع عن المعتقد الدينيّ. إنّ ‏عالمنا الذي نعيش فيه اليوم متخم بالشبهات الفلسفيّة والاجتماعيّة والثقافيّة التي تكالبت على الدين ‏وقيم المجتمع الإسلاميّ وتغلغلت فيه من جهات وقنوات شتّى، وينبغي العلم بأنّنا مهما أغفلنا انتماءنا ‏الدينيّ أو تديّن غيرنا فإنّ عدوّنا الثقافيّ ليس بغافل.‏
‏3. تصنع البحوث العقائديّة والكلاميّة للإنسان نظاماً وأنموذجاً فكريّاً يترك أثره ـ حسبما يرى ‏فلاسفة العلوم الطبيعيّة والاجتماعيّة المعاصرين ـ على جميع مناحي الرؤية الكونيّة والطبيعيّة للإنسان. ‏هذا، ناهيك عن أثرها على الفكر والسلوك الفقهيّ والقانونيّ والأخلاقيّ.‏
وهنا نتساءل: هل يمكن الالتزام بالأحكام الفقهيّة والمبادئ الأخلاقيّة الدينيّة بمعزل عن الإيمان بالله ‏سُبحَانَهُ وَتَعَالى، ومن دون معرفته، والاعتقاد بالحياة بعد الموت، ومعرفة أنّ الله عَزَّ وَجَلَّ عالم ‏بالمصالح والمفاسد الحقيقيّة للأمور؟! وعليه: الذهاب إلى أنّ عالم الطبيعة خاضع لنظام ميكانيكيّ لا ‏شأن لتدبير الله فيه، ليُعترف ـ في الحدّ الأدنى ـ بكونه خالقاً ليس أكثر، أو ما عبّروا عنه بمصطلح ‏‏«إله الفراغات» لم يكن إلّا بسبب رؤية وموقف معيّن تبلور في ثنايا البحوث والدراسات ‏الطبيعيّة.‏
انتهت
المصدر: اسم المجلة : العقيدة، العدد : 1‏، السنة: السنة الاولى - شعبان 1435هـ / 2014م