هفته‌نامه سیاسی، علمی و فرهنگی حوزه‌های علمیه

نسخه Pdf

ولاية الفقيه بين النظرية والتطبيق

مقالة

ولاية الفقيه بين النظرية والتطبيق

المباني الفقهية والبعد التاريخي لولاية الفقيه عند المحقق الكركي

تعدُّ المدارس الدينية الإسلامية، ولا سيما المدارس لدى المسلمين الشيعة، حاضنات ثقافية ودينية نشأت في المدن والقرى والبلدات، واحتضنت علماء دين أفردت لهم كتب التاريخ صفحات ناصعة، إذ قدموا اضافات نوعية في حقل المعرفة الدينية بأشكالها العقائدية والأصولية والفقهية المختلفة.

وتُعد بلدة الكرك، حاضرة من هذه الحواضر، إذ احتضنت مدرستها الدينية منذ قرون خلت، وباتت فيما بعد حاضرة لدى المسلمين الشيعة، اضافة إلى حواضر أخرى كجزين وميس الجبل وجباع وغيرها. وقد لمع في هذه المدارس، علماء بارزون شكّلوا علامات فارقة وانعطافات لافتة في ميدان الانتاج المعرفي والعلمي، ولا سيّما على المستوى الفقهي المتصل بوظيفة وصلاحيات الفقيه في حدودها ومداها بعد عصر الغيبة الكبرى. والمحقق علي بن عبد العالي الكركي كان من بين هؤلاء، برز كعالم دين وكمحقق وكداعية. وقد كان مجلّياً في حقل الأحكام والرسائل الفقهية. هذه المقالة وبمناسبة الذكرى السنوية لرحيله محاولة متواضعة لتسليط الضوء على سيرة حياة المحقق الكركي بما تتضمن من تجربة خاصة لولاية الفقيه.
 
*المدارس الدينية الشيعية في لبنان
عانى الشيعة في لبنان في العصر العثماني من عسف السلطة منذ القرن السادس عشر، وانتقال الحكم في البلاد من أيدي المماليك إلى أيدي العثمانيين، وبالرغم من التعصب العثماني ضدهم، فإنهم استمروا ببناء نهضتهم الفكرية والثقافية داخل مجتمعاتها، دون تلقي أية خدمات من أي جمعية أو جهة حكومية أو دولة خارجية. وكانت الحوزة العلمية من أهم مؤسساتهم الخاصة، ونظامهم الخاص في الدعم الاجتماعي هو توزيع أموال (الخُمُس). وهذا النظام كفيل بأن يساهم في تحسين الأوضاع الاجتماعية لدى بعض الفقراء من الشيعة.
من هنا نرى أنّ هذا النظام الفقهي الخاص كان يقيهم شر العوز، ويغنيهم عن المساعدات الخارجية، وهذا ما يفسّر استمراريتهم رغم الاضطهاد الذي مورس ضدهم طيلة ما يقارب الخمسة قرون.
حتى وهم في أشد الظروف قسوة عليهم، فقد بنوا العديد من المدارس الكبرى في قرى جبل عامل والبقاع، فقد عرفت الطائفة الشيعية بين أواخر القرن الرابع عشر وأواسط القرن السابع عشر الميلاديين، عدة مدارس مهمة، خرجت بعضاً من ألمع علمائها.
 
*مدرسة الكرك / النشأة والتاريخ
كانت بلدة الكرك معقلاً للشيعة منذ الفتح الإسلاميّ بسبب وجود بعض القبائل مع الجيوش التي فتحت بلاد الشام ودخلت البقاع، أمثال الموالية للإمام علي من الهمدانيين وخزاعة التي تفرّع منها الحرافشة، وحتى الأوزاعي الذي درس في الكرك يبدو متأثراً بطريقة الشيعة في الرواية عن أهل البيت(ع). وازدهرت مدرسة الكرك في القرنين العاشر والحادي عشر وبلغت درجةً مرموقةً من جهة عدد العلماء والطلاب، وأنواع العلوم التي تعطى وطرق التدريس، فقصدها طلاب المعرفة من مختلف الأقطار، وخصوصاً من جبل عامل، أمثال الشهيد الثاني زين الدين الجبعي، الذي رحل إلى كرك نوح طلباً للأخذ من مشايخها، يرافقه الشيخ حسين عبد الصمد، ومن العلماء الذين أمّوا الكرك وقرأوا على مشايخها عليّ بن هلال الجزائري وما زال أهلها إلى اليوم، جلّهم شيعة وكان في أجدادهم العلماء والفضلاء بما تدل عليه مكتبتهم الكبيرة، المختزنة لعدد من كتب الشيعة الفقهية النادرة، إذ بدأت بالظهور كمركز علمي شيعي. 
وكرك نوح مدينةٌ صغيرةٌ تقع في البقاع الأوسط، وفيها قبر ينسب إلى نبي الله نوح عليه السلام. كانت من أكثر المدارس الفقهية خصوبةً وعراقةً في لبنان، نشأ فيها وتخرّج منها في القرن العاشر الهجريّ والقرن الحادي عشر جمعُ غفيرٌ من الفقهاء والعلماء. ومنها كان الفقهاء من أمثال المحقق الكركي ينطلقون إلى إيران في العهد الصفويّ ليشاركوا في نشر مذهب أهل البيت وترسيخه في إيران وتثقيف المسلمين فيها.
 
*نشأة الكركي ومنهجه الوحدوي
تلقى المحقق الكركي دروسه في بلدته الكرك ووجد أنه لا بد من استكمال الدراسة والتعمق بالعلوم، فهاجر إلى العواصم الإسلامية للوقوف على سير الدراسة فيها، فأقام فيها فترة طويلة واتصل بشيوخها وأساتذتها وحضر حلقات التدريس والبحث والمحاضرات واستفاد منها كثيراً .
 
*دراسته في الحواضر الدينية
من أجل الاستزادة في العلم، قصد المحقق الكركي العواصم الإسلامية وأخذ عن علمائها، سافر إلى الشام عام 903هـ، ثم حلّ في مصر عام 905هـ، وبيت المقدس ومكة بعد أن أخذ عن علماء تلك العواصم، ثم رجع من مصر وتوجه إلى بلاد العراق وقد استقر بداية في ايران عام 916هـ  وقد سبق للشهيد الأول أن قام بالسفر إلى تلك العواصم لأخذ العلم عن علمائها.
ليس من شك، أن الهجرة الى مراكز العلم من شأنها أن توسّع المدارك، وأن تفتح الذات على تنويع مصادر المعرفة الفقهية، ولا سيما في بعض أبوابها المتصلة بالفقه السياسي أو السلطاني خصوصاً لدى الحواضر الإسلامية التي تتصل بالمذاهب الأخرى، التي هي على صلة بواقع الحال جراء انتماء السلطات القائمة إلى هذه المذاهب.
كما تتيح هذه الهجرة لعالم الدين، حرية التحرك وعدم تعرضه لضغط السلطات، وذلك بعد أن يحصل على الإجازة من علماء هذه الحواضر. وبطبيعة الحال، فإنّ تنويع مصادر المعرفة والانفتاح على الأحكام المتصلة بالسلطة، سوف توفر أيضاً القدرة على المطارحات الفكرية، ولاسيّما عبر الربط والمقارنات والمقاربة مع التراث الفقهي للشيعة في مجال التعاطي مع السلطة القائمة، وبالاستناد إلى مصادر التشريع الأربعة لدى الشيعة.
يقول الدكتور غسان طه في كتابه الإسهامات الوحدوية للحواضر الدينية... المحقق الكركي نموذجاً:" إنّ رحلة المحقق الكركي إلى عواصم العالم الإسلامي لطلب العلم، تُمثل بُعداً من أبعاد شخصيته الوحدوية، وربما تشكلت أولاً من طبيعة نشأته في مدرسة الكرك ودورها التاريخي في احتضان تنوعات مذهبية وفكرية سبق للكركي أن استوعب تراثها التاريخي. وقد تعززت هذه الشخصية الوحدوية بعد الرحلة إلى خارج الكرك للاستزادة في الدراسة وطلب العلم، الأمر الذي طبع هذه الشخصية بطابع الانفتاح على التنوعات الفقهية والتنوع في مصادر الحديث، فغدا المحقق الكركي يروي الحديث عن كبار مشايخ السنّة، بعدما كان يصرّح بأنه تلقاها بنفسه عن علماء كبار واستجازهم فيه" .
 
*المحقق الكركي على خطى الشهيد الأول تأسيساً لنظرية ولاية الفقيه
شهدت الساحة الشيعية في بلاد الشام وإيران في أواخر القرن الخامس عشر وبدايات القرن السادس عشر بروز اتجاه قوي وضاغط نحو تمكين الفقيه من ممارسة ولايته، وقد سبقت التجربة في بلاد الشام مع الشهيد الأول التجربة في إيران إلاّ أن النتائج كانت مختلفة بينهما برغم هذا السبق الزمني للتجربة الأولى على التجربة الثانية، فالشهيد الأول قائد التجربة الأولى خلال هذه الفترة لم تتوفر له الظروف المناسبة ليقدم نموذجاً متكاملاً في ولاية الفقيه، أمّا في الساحة الأخرى فقد استطاع المحقق الكركي أن يقود العملية بتوفيق أكبر ولمدة زمنية لا بأس بها.
فبعد عودته من مصر، وبينما كان في العراق، كانت تصله الرسائل من أمراء بلاد فارس للهجرة إلى تلك الديار، وبناء على استجابته لتلك الرسائل، أصبح المحقق الكركي شيخ الاسلام في زمن اسماعيل الصفوي، ونائباً للإمام في زمن طهماسب، الذي أصدر فرماناً شهيراً يعتبر أول نص ذي صياغة سياسية قانونية فقهية حديثة تتبلور فيه رؤية واقعية لمبدأ ولاية الفقيه في وضوح نظري تام.
لقد تضمن الفرمان اعترافاً واضحاً بولاية الفقيه ونيابته عن المعصوم(ع) وبالتالي على وجوب طاعته وحرمة مخالفته، ولا يبدو النص ـ بالصيغة التي قدم فيها ـ توصيلاً من "الشاه" إلى المؤسسات والدوائر السلطوية في الدولة الصفوية وإنما يبدو أمراً تكليفياً موجهاً لكل الناس. ولم يكن فيه أي إشارة للسلطان أو موقعه في حق إصدار الأمر كما لم يشر إلى أي نوع من أنواع مشاركة الشاه للفقيه في الولاية على الأمة، وفي هذه الصيغة ما يكفي من الدلالة على حجم ولاية الفقيه التي أراد النص التأكيد عليها والتي تشمل فيمن تشمل الولاية على الشاه نفسه.
 
*رؤية المحقق الكركي لولاية الفقيه
 
يرى المحقق الكركي حدوداً موسّعة لصلاحيات الفقيه، مستنداً في إحدى استدلالاته على رواية عمر بن حنظلة عن الإمام الصادق(ع)،  ومنها انطلق إلى صلاحيات الفقيه بالقول "أنه الفقيه الجامع للشرائط منصوب من قبل الإمام... وتجب مساعدته على إقامة الحدود والقضاء بين الناس". تقول الرواية «انظروا الى من كان منكم قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، فارضوا به حكماً.. إلى آخر الرواية ».
خاصية نظرية ولاية الفقيه، سواء مع الشهيد الأول أو المحقق الكركي، أنها لا تقع في عرض الواقع، فنجد شروطها لدى الشهيد الأول مع تحقق الأمن للفقيه، واشتراط وجوب التحاكم إلى الفقيه. اذاً مجمل النظرية ترتبط بعاملين، وجود فقيه ورع تتسم شخصيته بالعدل والعلم والقدرة على الاستنباط، وشرط آخر يتصل بالمكلّف، فليس ثمة سلطة اذا لم تقترن باستجابة المكلّف، ومن هنا فالفقيه ليس سلطاناً قاهراً بالبيعة ولا متغلباً بالسطوة على غرار سلاطين العالم الإسلامي.
 
*بين النظرية الفقهية والواقع
أن النظرية الفقهية للمحقق الكركي تفرد دوراً موسعاً للفقيه، ما يجعل سلطة الفقيه لازمة بإزاء كل سلطة، بل متعالية عليها، وذلك لكون الفقيه هو الأجدر بممارستها، ولا سيّما في إقامة العدالة والحدود وصلاة الجمعة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغيرها من الأحكام التي تتصل بمجال السلطة.
استناداً إلى ذلك، ألا تتعارض هذه النظرية الفقهية مع السلطة القائمة، يوضح  الدكتور غسان طه هذه الإشكالية في كتابه بالقول:" أننا وعبر العودة التاريخية إلى الوراء، نجد أنّ هذه النظرية لم تكن لتقف في مواجهة السلطة القائمة أو أنها تعمل في مواجهة الوحدة الإسلامي، وللدلالة على الأمر، نجد أنّ الشهيد الأول الذي كان سبّاقاً في بلورة نظرية ولاية الفقيه، قبل المحقق الكركي، والذي خرجت النظرية في عصره الى حيّز التنفيذ. كان على قدر من المراعاة للسلطة القائمة وعدم استفزازها. ففي اللمعة الدمشقية، نجد لديه مثل هذه المداراة .فلقد ورد لديه حول دور الفقيه في مجال الحكم بين الناس، الجواز المشروط بالأمن، فهو يقول:" يجوز للفقهاء في حال الغيبة إقامة الحدود مع الأمن، والحكم بين الناس،..ويأثم الراد عليه ".
ويكمل رؤيته بالقول:" وما يسري على هذه المراعاة هو موقف المحقق الكركي اذ لا نجد نظريته تتحرك وتخرج إلى حيز الواقع في موطنه الأصلي، وإنما بعد هجرته إلى العراق، ثم ايران جراء واقع الحال المتمثل بالفرصة الممنوحة للفقيه والاستفادة منها في نشر الوعي الديني، وإقامة العدل، والدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفقاً لخصوصية المجتمع. وهو عندما مارس دوره فبالدعوة والموعظة الحسنة وليس بالاضطهاد والتكفير، وهو ما يتبدى لدينا من خلال خلافه واعتراضه على اسماعيل الصفوي جراء سياسة القسوة التي اتبعها بحق المخالفين".
ويرى أنّ:" النظر إلى الشروط التاريخية وأثرها في انتاج المعرفة، لا يعني أن الفتوى هي أسيرة لحظتها التاريخية. قد يصح ذلك في مجال ما، ولكن نحن أمام نظرية تتصل بحدود علاقة الفقيه وحدود صلاحياته، وهي تبقى عابرة للزمن، وتعبر عن اتجاه بل مدرسة فكرية في مجال الفقه.
أمّا الشروط الاجتماعية والتاريخية، فهي تعبر عن المرونة داخل هذه النظرية، وليس الصلاحية التاريخية للنظرية نفسها، وهو ما يسري على رأي المحقق الكركي في صلاحيات الفقيه، إذ شكل هذا الرأي اسهاماً فقهياً وفكرياً رائداً لدى الفقهاء الشيعة. وسنجد لاحقاً، اغناءً للنظرية لدى العلامة النراقي، ولدى الإمام الخميني(قد)، حيث غدت نظرية ولاية الفقيه مع الإمام الخميني(قد) تستند إلى دلالات عقلية ونقلية وتفسيرية، وأخرى تقوم على استلهام التجربة التاريخية للمعصوم، وتستند إلى ثنائية العلاقة بين الفقيه الجامع للشرائط من ورع وتقوى وعدالة وسعة علم ومعرفة بأحوال الزمان والمكان وبين الشعب عبر الانخراط في المؤسسات التمثيلية وممارسة دوره في ظل دولة اسلامية وفقاً لمقتضيات الدين والدنيا".
ختاماً إنّ المحقق الكركي خاض تجربة من أغنى التجارب ومن أكبرها في العصر الحديث على صعيد تشكيل الحكومة الإسلامية وتطبيق الشريعة عبر الوصول إلى الموقع الطبيعي للفقيه في المجتمع والدولة والذي يستطيع بواسطته أن يلي الأمر. وقد كان لتجربة المحقق الآثار الكبيرة وعلى مستقبل إيران وله يعود جزء من الفضل في إرساء التشيع واحتضان الشريعة في هذه البلاد والتي أضحت بعد ذلك بمئات السنين في الصورة التي هي عليها الآن والتي ساهم في الوصول إليه المسار الذي شارك في تحديده المحقق نفسه. وعمل على إرسائه واستمراره الخلف الصالح من الفقهاء بإقامة الحكومة الإسلامية في إيران العام 1979م وقد كان الإمام الخميني(قد) من عداد هذه القافلة.
المصدر: الوفاق

عبير شمص

برچسب ها :
ارسال دیدگاه