□ مقال
بين حريّة التفكير وحريّة العقيدة
هناك اختلاف بين حريّة التفكير وحريّة العقيدة. إنّ حرية التفكير ناشئة عن القابليّة الإنسانيّة للإنسان، والّتي يستطيع بها أن يُفكّر في المسائل المختلفة، وهذه القابليّة البشريّة يجب أن تكون حرَّةً طليقة؛ لأنّ تقدُّم وتكامل البشر رهنٌ بهذه الحريّة، غير أنّ حريّة العقيدة لها خصائص أُخرى. إنّ منشأ كثيرٍ من العقائد المتداولة هو سلسلة من العادات والتقاليد والعصبيّات، ولا توجد هداية ولا حلّ في هذا النوع من العقيدة، بل على العكس من ذلك، فإنّها تُعدّ قسمًا من الانغلاق الفكري؛ أي إنّ فكر الإنسان في هذه الحال بدلًا من أنْ يكون فعّالًا متفتِّحًا، فإنّه يكون منغلقًا مسدودًا، وعند ذاك فإنّ قوّة التفكير المقدّسة - بسبب هذا الانغلاق والانعقاد - تصبح أسيرةً سجينةً في دخيلة الإنسان.
إنّ حريّة العقيدة بالمعنى الأخير، لم تكن مفيدةً فحسب، بل إنّها تسبّب آثارًا ضارّةً جدًّا، للفرد والمجتمع.
هل يجب أن نقول بالنسبة إلى الإنسان الّذي يعبد صخرةً: إنّه قد فكّر ووصل إلى هذا المستوى بصورةٍ صحيحة؟ وبدليلٍ أنّ العقيدة محترمة أيضًا؟ فلذلك يجب أن نحترم عقيدته، ولا نمنعه من عبادة الصنم، أي إنّنا نعمل ما عمله النبيّ إبراهيم خليل الله.
إنّ الناس في زمان النبي إبراهيم(ع) كانوا جميعًا عبدة أصنام، ذلك أنّه في أحد الأعياد الوطنيّة، حيث كان الناس كلّهم في خارج المدينة، لم يخرج إبراهيم معهم، بل اغتنم الفرصة وأخذ فأسه وذهب إلى الأصنام وحطّمها جميعًا، إلّا الصنم الأكبر فإنّه لم يحطّمه، بل علّق الفأس في رقبته، واستهدف من ذلك: أنّ كلَّ من يذهب لزيارة الأصنام سوف يتصوّر أنّ الآلهة تحاربت مع بعضها، وكانت النتيجة أنّ الصنم الأكبر لمّا كان يتمتّع بقوّة أكبر، فإنّه كسّر وحطّم سائر الأصنام، وبقي بمفرده. وبالتالي، يتّضح للناس - بحكم الفطرة - أنّ الأصنام لا تستطيع أن تتحرّك من أماكنها، وهذا التفكير يدعوهم إلى التذكّر والتعقّل.
عندما رجع الناس ورؤوا ذلك الوضع، غضبوا واغتاظوا، وأخذوا يبحثون عن الفاعل، وبينما هم يبحثون، تذكّروا أنّ هناك فتىً في المدينة، يستنكر هذه الأعمال.
يستخدم القرآن في هذا المجال أُسلوبًا لطيفًا جدًّا، إذ يقول: [فَرَجَعُواْ إِلَى أَنفُسِهِم]؛ أي إنّ هذا الاحتجاج أصبح سببًا في أن يُراجعوا أنفسهم.
إنّ النفس الحقيقيّة للإنسان في نظر القرآن هي العقل والتفكُّر الخالص والمنطق الصحيح. يقول القرآن إنّ هؤلاء قد انفصلوا عن أنفسهم، وصار هذا التذكُّر سببًا لكي يجدوا أنفسهم، ويعودوا إليها مرّة أخرى.
والآن، كيف نفسّر عمل إبراهيم؟ هل إنّ عمل إبراهيم(ع) كان خلافًا لحريّة العقيدة - بمعناها الشائع الّذي يقول: “إنّ كلّ إنسان يجب أن يكون حرًّا في عقيدته” - أم كان في خدمة حريّة العقيدة بمعناها الواقعي؟
إذا كان إبراهيم يقول: إنّ ملايينًا من البشر يُقدّسون هذه الأصنام، فيجب عليَّ أن أحترمها أيضًا؛ أي إنّه كان يبرز العقيدة الرائجة نفسها الآن بكثرة؛ فهل سيكون هذا عملًا صحيحًا صائبًا ومتكاملا؟يعتقد الإسلام أنّ هذا العمل إغراءٌ بالجهل وليس خدمةً للحريّة.
وفي تاريخ الإسلام، نلاحظ الرسول الأكرم(ص) عَمِل في فتح مكّة عملًا مشابهًا تمامًا لما عمله إبراهيم(ع)؛ إنّه حطّم الأصنام بعذرِ حريّة العقيدة؛ لأنّه رأى أنّ هذه الأصنام عوامل لتقييد أفكار الناس. وقد كانت أفكار البشر مئات الأعوام أسيرة هذه الأصنام الخشبيّة والمعدنيّة. ولذلك، فإنّ أوّل عملٍ أقدم عليه الرسول بعد فتح مكّة كان تحطيم هذه الأصنام، وتحرير الناس تحريرًا حقيقيًّا.
والآن، لو قارنّا بين السلوك وأسلوب العمل هذا، وبين سلوك وأسلوب عمل ملكة بريطانيا عندما ذهبت في زيارة إلى الهند، كان ضمن برنامج سفرها زيارة أحد معابد الأوثان. وهناك، عندما كان الناس أنفسهم يريدون الدخول إلى ساحة المعبد، كانوا يخلعون أحذيتهم احترامًا للمعبد، ولكنّ الملكة أرادت أن تبرز احترامًا وإجلالًا أكثر، فخلعت حذاءها قبل الوصول إلى الساحة، ثمّ دخلت في أدبٍ كامل - أكثر من الجميع - ووقفت بخضوع أمام الأصنام. يقول بعض البسطاء لتفسير هذا الموقف: “انظروا إلى ممثّلة شعبٍ متقدِّم كيف تحترم عقائد الناس!”، وهم غافلون عن أنّ هذا من حِيَل الاستعمار؛ الاستعمار الّذي يعرف أنّ معابد الأصنام هذه هي الّتي قيّدت وأسرت الشعب الهنديّ وأخضعتهم للمستعمرين. هذه الاحترامات المزيّفة ليست خدمةً للحريّة، وليست احترامًا للعقيدة، إنّها خدمة للاستعمار، فإذا ما تحرّر الشعب الهندي من هذه الخرافات، فإنّه سوف لن يخضع للإنكليز مرّةً أخرى.
المصدر: الإسلام والحياة، مركز المعارف للتأليف والتحقيق